«صليل الصوارم» والعودة إلى العجز الثقافي

ردود متهافتة على الحالة الإرهابية السوداء

جزء من «سليل الصوارم»
جزء من «سليل الصوارم»
TT

«صليل الصوارم» والعودة إلى العجز الثقافي

جزء من «سليل الصوارم»
جزء من «سليل الصوارم»

لم تكن المرة الوحيدة التي يُختبر فيها العرب ثقافيا وسياسيا، فهذه معركة الهوية بالدرجة الأولى، تلك المعركة الأزلية، تتجدد اليوم على وقع حدث دراماتيكي، لا يمكن اعتباره طارئا في منطقة بلاد الشام، فهو جزء من جغرافية المكان وتاريخه.
وربما كان ضرب متحف «الموصل» الأثري وتهريب المقتنيات النادرة والقطع القديمة إلى دول أوروبية تهافتت إلى شرائها، كان أحد أهم تجليات حرب الهوية، إن صحت التسمية، ثم قيام «داعش» بتجريف مدينة نمرود الموغلة في القدم لتضاف إلى باقي فصول الهزيمة الثقافية المتكررة على الأقل في العراق الجريح.
والسؤال يأتي ملحا باحثا عن إجابة: هل تترك شعوب المنطقة اليوم بصمة ثقافية تذكر وتؤرخ فيما لو تجرأوا بعد سنين على كتابة مرحلة تاريخية جَدّ مهمة، فالصراع الثقافي على عادته لا يمر بصمت كغيره من الصراعات، فهو يحمل آثارا أقسى على الصعيد النفسي، لا سيما إن أتى على هويات عرقية تميز الأمكنة، بما يشي بتغيير ديمغرافي وثقافي لن يعجب الكثيرون لكنه سيحصل في النهاية، فأي رد هنا يكون؟
ففي حرب عام 2003 عندما سقطت عاصمة الرشيد بغداد بيد القوات الأميركية، كانت الدبابة البطل الوحيد، كانت الطائرة العمود الفقري في الحرب الكبرى، كانت السلاح التقليدي وكانت المنطقة تتعرض لهجمة ثقافية رافقت العامل السياسي المستجد، فعشية غزو العراق لو تسعفنا الذاكرة، لنتذكر مدى الانتشار الواسع لفن عراقي هابط ملأ نحو 10 فضائيات، فجأة هكذا ظهرت كلها دفعة واحدة، وكان النجم العراقي المعروف باسم علاء سعد أحد أهم مفرزات الحرب العراقية وأحد أبرز نجوم الشاشة العربية الذي نال شهرة كبيرة يحسد عليها بعد ابتداعه رقصة على وقع الهزيمة السياسية قبل كل شيء، فبغداد سقطت أخلاقيا على ما.
ويتجلى ذاك السقوط في مشاهد الرقص والعري كحالة ثقافية نادرة، احتلت المشهد العربي، على الأقل في مخيلة الشارع، هذا ما حصل يومها بعد أيام من المعركة التي وقعت سريعا على أسوار العاصمة، أخفيت ملامحها واختفت معها التفاصيل وكأنها هربت من الذاكرة وأسدل ستار أسود اتشحت المدينة به لسنوات، وبرز الرد تزامنا مع انسحاب مفاجئ للنخب ودون ترتيب مسبق.
وكما العادة هنا في بقاع عربية يتصدى الشارع بكل أطيافه الشعبوية للموقف الكارثة، فمن منا لا يذكر موجة ثقافية انتشرت بقوة لا مثيل لها ليتحول إلى نموذج عربي فني، كأغنية «البرتقالة» وبعد السقوط المدوي لبلاد الرافدين، تأتي حرب غزة الأولى ليكون النجم الأول في العالم العرب هو شعبان عبد الرحيم ولتصبح 3 كلمات فقط لا غير «أنا بكره إسرائيل» شعارا ثقافيا مرددا من المحيط إلى الخليج، ووصل عدد المشاهدات لفيديو واحد على «يوتيوب» أكثر من مليون ونصف مشاهدة عربية، كرد على سقوط عاصمة عربية أولا، وتعرض شعب عربي لإبادة جماعية ثانيا.
حالة مثيرة تلك التي مرت بها المنطقة كرّسها فشل السياسات في كل مرة، ولم ينتبه أحد إلى إن كانت واحدة، وكان الرد واحدا أيضا، يختصر بمستويين: الأول ينحصر بما تردده النخبة عبر شاشات التلفزة عبر مطالبتها بدق ناقوس الخطر في وجه غزو ثقافي قادم لا محال يطال الشعوب يتطلب وعيا وإدراكا كبيرين لو أريد الخروج من عنق الزجاجة، والمستوى الآخر على النقيض تماما حيث الشارع يشتري إسطوانات شعبان (شعبولة) ويعلن حالة كراهية عامة لكل شيء تقريبا، وحسب مجلة «ورلد تريبيون» الأميركية التي أجرت دراسة أولية على الحالة العربية هذه لتخلص بالنهاية إلى نتيجة غريبة مفادها أنّ حالة ثقافية ما انتشرت كان رمزها وإيقونتها مغن شعبي هابط ساهم في إطلاق أول شرارة عنف وتعصب في المنطقة!
حصل هذا قبيل ما يسمى بالربيع العربي، فالموقف الراهن بات أكثر صعوبة لشرح بعض من صور الانحطاط الفكري، لا سيما في وقت يجري الحديث فيه عن بدايات تشكل الوعي السياسي والثقافي، أبدته الشرائح الاجتماعية في أكثر من بلد يأتي مسلحا بوسائل تقنية الأكثر تطورا على الإطلاق كشبكات التواصل الاجتماعي - الأداة الأهم في الثورات.
فبالتزامن مع العراق التي تمت الهزيمة فيه ثقافيا، وتكرست حالة اليأس والإحباط العربيين، يتكرر المشهد في الحرب السورية التي أفرزت النتيجة ذاتها بأدوات مختلفة، فاليوم تنتشر فيديوهات وأفلام ومجلات ثقافية «مجلة أنا أفكر» ومجلة «داعش بالمقلوب» كرد موجز ومباشر على الحالة الداعشية: فقبل أيام أعلن المصريون أنهم سيقضون على «داعش» بالدعاية المضادة، وبدأوا الرقص على أنشودة «صليل الصوارم» للشاعر الملقب «عبد الملك العودة» فظهرت مئات الأفلام، بل فضائيات تفتح النقاشات كل يوم حيال هاشتاغ يتصدر الإنترنت العربي تحت اسم «صليل الصوارم» مرفق بفيديوهات رقص شرقي على أنغام نشيد «داعش» الشهير الذي استخدم في كل إصدارات القتل والرعب.
ومع كل هذا وذاك لم يجرؤ أحد على استخدام توصيف «انحطاط ثقافي» فقد ذهب البعض إلى تفضيل تسميته بالرد الثقافي على الحالة الإرهابية السوداء التي أدخلت المنطقة بنفق مظلم، وقد يكون في ذلك شيء من الصحة وبعض الدقة، فالفرضية تقول أحيانا في جانب من جوانبها أنّ الهروب من العجز المعلن والقوة المسيطرة والهيمنة الراهنة يكون إلى ما هو مختلف ومتناقض تماما، فكانت فيديوهات الرقص الداعشية أبلغ رد على فيديوهات القتل الداعشية أيضا، بما يصب في مشهد عربي واحد وكأنها العودة إلى نقطة الصفر، العودة إلى ما قبل الحديث عن ثورات ترجمت تعابير من قبيل الحرية والعدالة وطالبت مرة من المرات بإفساح الدور لصوت المثقف لطالما بقي صامتا خانعا زمن الاستبداد، ليبقى السؤال معلقا إلى حين مؤجل: هل الأحداث أفرزت بصمة ثقافية ما أم ننتظر القليل من الوقت لتحسم الحرب نهائيا، ونجري تقييما عاما وموضوعيا لمرحلة ما قبل العودة إلى اليأس العربي القديم!



«الأقلمة» و«العبور»... كتابان جديدان لنادية هناوي

«الأقلمة» و«العبور»... كتابان جديدان لنادية هناوي
TT

«الأقلمة» و«العبور»... كتابان جديدان لنادية هناوي

«الأقلمة» و«العبور»... كتابان جديدان لنادية هناوي

عن مؤسسة أبجد للنشر والترجمة والتوزيع صدر حديثاً كتاب «أقلمة سرد الحيوان» للدكتورة نادية هناوي ويأتي استكمالاً لمشروعها في «الأقلمة السردية»، وكانت قد بدأته بكتابها «أقلمة المرويات التراثية» وأتبعته بكتابين هما «الأقلمة السردية من العصور الوسطى حتى القرن التاسع عشر» و«الأقلمة السردية: مخابرها الغربية - مناشئها الشرقية».

ويدور كتاب «أقلمة سرد الحيوان» في إطار النظرية السردية وما يجري في العالم من تطور في مجال دراسات الأقلمة، بغية الإفادة منها في دراسة تراث السرد العربي بكل ما فيه من نظم وتقاليد وأساليب وتقنيات، ترسيخاً لدوره التأصيلي في السرد الحديث والمعاصر، وتدليلاً على عالميته التي ترى المؤلفة أنها قد «حجبت بستر التبعية، بكل ما في الاتباع من تقريع الذات ودفن قابلياتها والتشكيك في قدراتها».

ويدخل هذا النوع من الدراسات في إطار نزعة ما بعد الإنسان التي ساهم بعض المفكرين والنقاد في تعزيزها. وممن تناولهم الكتاب بالدراسة الفيلسوف جاك دريدا بمقالته «الحيوان الذي أكون» وفيها رأى أن الحيوان يملك وجوداً متجانساً ومتناغماً مثلنا، وأن الملايين من الكائنات الأخرى تتطلب منا أن نبدأ في التعامل معها بجدية. واستعاد دريدا ما قاله ميشال دي مونتيني (1533 - 1592) حين كتب اعتذاراً إلى ريموند سيبوند، متسائلاً عن علاقته بقطته. فالقطة كيان حقيقي وتحديقها فيه تأمل وله معنى. أما جان فرنسوا ليوتار فطرح أسئلة كثيرة حول علم الأجناس وما هو غير إنساني وتساءل: «ماذا لو كان البشر بذاك الإدراك الحسي الإنساني في عملية إكراهية لتحويلهم إلى غير البشر؟ ماذا لو كان ما نعرف أنه مناسب للبشر قد أصبح ملائماً لغير البشر؟». ومن جهته افترض فرانسيس فوكوياما في كتابه «مستقبلنا ما بعد البشري» أن الإنسان في أصل تكوينه حيوان ثقافي، ومن المستحيل أن نتحدث عن حقوق الإنسان، وبالتالي عن العدالة والسياسة والفضيلة بصورة أكثر عمومية من دون أن يكون لدينا مفهوم ما عن ماهية البشر كنوع حي. فالبشر أحرار في صوغ سلوكياتهم الخاصة لأنهم حيوانات ثقافية قادرة على تعديل الذات، ومثلما أن الحيوانات تتصارع من أجل البقاء والاعتراف بالغلبة فكذلك البشر يتصارعون.

وتؤكد المؤلفة أن تبني المدرسة الأنجلوأميركية لنزعة ما بعد الإنسان، هو الذي وسّع مدارات علوم السرد ما بعد الكلاسيكية باتجاهات بشرية وغير بشرية، ويعد علم سرد الحيوان واحداً من تلك العلوم المستجدة وميداناً بحثياً يُختبر فيه كل ما هو نظري وإجرائي له صلة بعلاقة الإنسان بالحيوان من جهة ويتقارب أو يتداخل من جهة أخرى مع ميادين علمية أخرى، لعل أهمها علم البيئة من ناحية ما للإنسان من دور رئيس في دمار الطبيعة وتهديد نظامها الإحيائي النباتي والحيواني. ويساهم في ذلك كله ظهور جمعيات ومنظمات تدافع عن البيئة وتدعو إلى الرفق بالحيوان.

في السياق نفسه، صدر حديثاً عن المؤسسة نفسها كتاب آخر للدكتورة نادية هناوي بعنوان «العبور الأجناسي: الأشكال - الأنواع - القضايا»، ويعد الكتاب السادس فيما بحثته المؤلفة في هذه النظرية من قضايا وتفريعات بعد كتبها «نحو نظرية عابرة للأجناس» 2019 و«الطائر المكدود في البحث عن اليقين المفقود لعبد الرحمن طهمازي» 2021 و«غاليانو صياد الكلام والعبور الأجناسي» 2022 و«قصيدة النثر العابرة في مطولات الشاعر منصف الوهايبي» 2024 و«السونيت في شعر حسب الشيخ جعفر» 2023.