جانين آنييز... رئيسة بوليفيا السابقة استفادت من حكم ترمب وصعود اليمين

وصلت إلى الرئاسة في ذروة أزمة سياسية ودستورية غير مسبوقة

جانين آنييز... رئيسة بوليفيا السابقة استفادت من حكم ترمب وصعود اليمين
TT

جانين آنييز... رئيسة بوليفيا السابقة استفادت من حكم ترمب وصعود اليمين

جانين آنييز... رئيسة بوليفيا السابقة استفادت من حكم ترمب وصعود اليمين

في الثاني عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 تولّت المحامية والنجمة التلفزيونية جانين آنييز مهام رئاسة جمهورية بوليفيا، لتصبح المرأة الثانية التي تتبوأ هذا المنصب في بلادها بعد ليديا تيخادا التي تولّته لفترة سنتين أواخر العقد الثامن من القرن الماضي. إلا أن رئاسة آنييز، التي كانت مؤقتة، لم تدم سوى أحد عشر شهراً بعدما تراجعت عن قرارها الترشّح للانتخابات الرئاسية عن التيار اليميني. وبالنتيجة، أسفرت الانتخابات عن فوز الاشتراكي لويس آرسي الذي تسلّم منها الرئاسة في الثامن من نوفمبر 2020.
وكان وصول آنييز إلى سدة الرئاسة البوليفية قد حصل في ذروة أزمة سياسية ودستورية غير مسبوقة، بدأت باستقالة الرئيس الاشتراكي إيفو موراليس تحت وطأة الضغوط التي تعرّض لها من قادة الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة ولجوئه إلى سفارة المكسيك خوفاً من اعتقاله. وبعد ذلك، خروجه من بوليفيا تحت حماية دبلوماسية إلى العاصمة المكسيكية مكسيكو سيتي، ومنها إلى العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، حيث عاد ليقود المعارضة ضد آنييز والقوى اليمينية التي كانت تدعمها بتأييد من الولايات المتحدة.
وفي الرابع عشر من مارس (آذار) الفائت صدر عن النيابة العامة البوليفية قرار بإيداع آنييز الحبس الاحترازي في انتظار محاكمتها بتهمة التمرّد والإرهاب والتآمر، وذلك بسبب دورها في الأحداث التي أدت إلى استقالة موراليس وانتهت بوصولها إلى الرئاسة. ويوم السبت الماضي حاولت آنييز الانتحار في زنزانتها بعدما مدّد القضاء فترة اعتقالها ستة أشهر إضافية، إلا أن الأطباء تمكنوا من إنقاذها بعدما أقدمت على قطع شرايين معصمها وتركت رسالة تقول فيها إنها لم تعد لديها رغبة في الحياة.
نشأت جانين آنييز في بيئة ريفية فقيرة في بوليفيا. وهي الصغيرة بين سبعة أشقاء تعيلهم والدة مدرّسة، لتنتقل لاحقاً وهي في الثامنة عشرة من عمرها إلى العاصمة لا باز، حيث التحقت بعدد من معاهد الإرساليات الأميركية لتدرس اللغة الإنجليزية وإدارة الأعمال. ومن ثم، انتقلت هذه المرأة الطموح إلى مدينة ترينيداد، حيث تعرّفت على زوجها الأول الذي كان ناشطاً سياسياً في حزب الوحدة المدنية اليميني قبل أن يصبح رئيساً للمجلس البلدي.
في تلك الفترة كانت آنييز تتابع تحصيلها الجامعي وتتخرّج محامية متخصّصة في القانون الدستوري، لتبدأ بعد ذك مسيرة إعلامية ناجحة كنجمة تلفزيونية، قبل أن تنخرط في العمل السياسي كعضو بارز في اللجنة التنفيذية للحركة الديمقراطية الاجتماعية.
في عام 2006، عندما كانت لا تزال في التاسعة والثلاثين من عمرها، فازت في الانتخابات لعضوية الجمعية التأسيسية المكلّفة وضع دستور جديد للبلاد. وفي عام 2009 فازت بعضوية مجلس الشيوخ. ثم كرّرت فوزها في انتخابات عام 2014. وهكذا، أصبحت النائب الثاني لرئيس المجلس قبل اندلاع الأزمة السياسية والدستورية التي نشأت عن استقالة إيفو موراليس.

تنحّي موراليس
في الحادي عشر من نوفمبر 2019 أعلن موراليس تخلّيه عن رئاسة بوليفيا بعدما تخلّى عن تأييده قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية، بل وطالبوه بالاستقالة إثر فوزه بولاية ثالثة في الانتخابات التي خاضها في أعقاب تعديل الدستور الذي كان يمنع تولّي الرئاسة لأكثر من ولايتين. وعندما رفض نائب الرئيس الفارو غارسيّا ورئيسة مجلس الشيوخ آدريانا سالفاتييرا ورئيس مجلس النواب فيكتور بوردا تولّي الرئاسة تضامناً مع موراليس، واحتجاجاً على ما وصفوه بـ«الانقلاب على الشرعية»، اتجهت الأنظار إلى جانين آنييز كمرشحة لتولّي الرئاسة الشاغرة، لكن السياسية اليمينية وجدت نفسها تواجه معارضة الأغلبية البرلمانية المؤيدة لموراليس.
مع هذا، في الثاني عشر من نوفمبر 2019، بدعم الأجهزة الأمنية والعسكرية، جرى إعلان تنصيب جانين آنييز رئيسة لبوليفيا في جلسة برلمانية خاطفة رفضت الغالبية الاشتراكية حضورها بحجة مخالفتها للدستور. وفي اليوم التالي، أعلنت المحكمة الدستورية أن انتخاب آنييز قد تمّ «وفقاً للأصول المرعيّة حفاظاً على استمرارية السلطة التنفيذية في انتظار إجراء انتخابات رئاسية واشتراعية جديدة».
وبالتالي، بينما كانت معظم المدن والأرياف البوليفية تشهد احتجاجات شعبية واسعة ضد «الانقلاب» الذي أطاح موراليس، كانت «حكومة» آنييز منكبّة على وضع قانون يمهّد لانتخابات جديدة تفتح الطريق أمام الخروج من الأزمة التي كانت بدأت تهدد باندلاع حرب أهلية في بوليفيا. وبعد شهرين من المفاوضات المكثّفة بين القوى البرلمانية، على وقع الاضطرابات وأعمال العنف التي أوقعت عشرات القتلى في العاصمة وضواحيها، توصّل الطرفان المتنازعان إلى اتفاق حول قانون ينظّم الانتخابات. وبموجب هذا القانون يمنع موراليس من الترشّح مقابل تعهد الحكومة بسحب القوات المسلّحة من مناطق الاحتجاجات، وإسقاط المرسوم الذي يمنح الجيش والأجهزة الأمنية حصانة ضد الملاحقات القانونية، والإفراج عن المعتقلين من أنصار موراليس وتأمين الحماية للقادة السياسيين والنقابيين المؤيدين للرئيس السابق والتعويض على عائلات الضحايا الذين سقطوا في الاحتجاجات خلال الأزمة.

تغييرات الساسة الخارجية
اتسمت رئاسة آنييز القصيرة بتغييرات جذرية في السياسة الخارجية لبوليفيا بعد سنوات طويلة من حكم اليساري موراليس، الذي كان وثّق علاقات بلاده مع المعسكر الاشتراكي في أميركا اللاتينية. وبعد أيام قليلة من توليها الرئاسة عمدت آنييز إلى إقالة 85 في المائة من سفراء بوليفيا المعتمدين في الخارج واستعاضت عنهم بمفوّضين غير دبلوماسيين مقرّبين من خطها السياسي اليميني ومن القوات المسلّحة.
كذلك، منذ تولّيها الرئاسة ندّدت آنييز بالتدخلات الخارجية في شؤون بوليفيا، مشيرة بالتحديد إلى كولومبيا والبيرو وكوبا وفنزويلا. واتهمت هذه البلدان بالتحريض المباشر على المواجهات العنيفة التي شهدتها بوليفيا طوال أشهر بعد الانتخابات الرئاسية وأسفرت عن خسائر بشرية ومادية كبيرة.
وبعدما ألقت قوات الأمن البوليفية القبض على مواطنين أرجنتينيين وأعضاء سابقين في «القوات المسلحة الثورية» الكولومبية بتهمة التخطيط لأعمال الشغب، فإنها اعتقلت عدداً من «العملاء» الكوبيين بتهمة توزيع الأموال على مناصرين للرئيس السابق إيفو موراليس. وردّت كوبا على الاتهامات بأن الأموال التي كانت في حوزة المعتقلين كانت مخصّصة لرواتب الأطباء الكوبيين الذين يعملون في بوليفيا بموجب اتفاق للتعاون الثنائي بين البلدين، ثم قرّرت إعادة أكثر من 725 طبيباً لأسباب أمنية. وكانت وزارة الصحة البوليفية قد ادعت أنه بعد مراجعة الوثائق الشخصية للكوبيين في بوليفيا، تبيّن لها أن معظمهم لا يحمل شهادة في الطب ويكلّفون الخزينة العامة أكثر من 8 ملايين دولار سنوياً تصبّ معظمها في ميزانية النظام الكوبي. وفي مطلع العام الماضي، قرّرت آنييز قطع علاقات بلادها الدبلوماسية مع كوبا، متهمة هافانا بالتدخل في شؤون بوليفيا الداخلية وتقويض سيادتها الوطنية.
وبالنسبة لفنزويلا، وبعد أقل من أربع وعشرين ساعة على تولّيها مهام الرئاسة، أعلنت آنييز اعترافها بالزعيم المعارض خوان غوايدو (المدعوم من واشنطن) رئيساً مؤقتاً لفنزويلا. وقرّرت قطع العلاقات الدبلوماسية مع نظام نيكولاس مادورو اليساري وأمهلت البعثة الدبلوماسية الفنزويلية ثلاثة أيام لمغادرة البلاد. وكذلك طلبت من غوايدو تعيين سفير جديد لفنزويلا في بوليفيا.

معاداة المكسيك والأرجنتين
حتى العلاقات بين بوليفيا والمكسيك لم تسلم هي أيضاً من الاهتزازات مع وصول آنييز إلى الرئاسة؛ وذلك بسبب منح الحكومة المكسيكية حق اللجوء السياسي لموراليس وتسهيل خروجه من لا باز. وكان الأخير قد لجأ إلى السفارة المكسيكية التي رفضت تسليمه إلى الحكومة البوليفية، التي فرضت قواتها الأمنية طوقاً أمنياً حول مبنى السفارة لأسابيع عدة قبل أن تسمح بخروج موراليس ومغادرته البلاد على متن طائرة رسمية مكسيكية.
ولاحقاً، مع وصول موراليس إلى الأرجنتين تلبية لدعوة الرئيس الجديد البرتو فرنانديز بعد يومين من انتخابه، شهدت العلاقات الأرجنتينية البوليفية توتراً متزايداً؛ إذ عرض فرنانديز على الرئيس البوليفي السابق الإقامة في بلاده كلاجئ سياسي يتمتع بالحقوق نفسها التي يتمتع بها أي مواطن أرجنتيني من حيث حرية التعبير والتفكير والإدلاء بما يريد من تصريحات. وأيضاً، سمحت له الحكومة الأرجنتينية بتنظيم اجتماعات مع أنصاره والقيام بأنشطة سياسية من دون قيود.
في المقابل، بطبيعة الحال، رحّبت الولايات المتحدة من جهتها بوصول آنييز إلى الرئاسة. وأعلنت رغبتها في التعاون مع حكومتها لتنظيم انتخابات جديدة في أقرب الآجال، وإرسال سفير جديد إلى بوليفيا بعد عشر سنوات من سحب سفيرها السابق على عهد موراليس.
غير أنه، بعد الانتخابات الرئاسية والاشتراعية التي كانت مقررة في مايو (أيار) من العام الفائت وجرى تأجيلها إلى أكتوبر (تشرين الأول) بسبب من جائحة «كوفيد - 19» وجدت آنييز نفسها في محيط داخلي وخارجي مختلف كلّياً عن الذي كانت تتحرك فيه إبّان فترة توليها الرئاسة. إذ أسفرت الانتخابات عن فوز واضح للمرشح الاشتراكي الذي يدعمه موراليس، وحصول الأحزاب اليسارية المؤيدة له على الغالبية في مجلسي الشيوخ والنواب، وجرى هذا تقريباً بالتزامن تقريباً مع انتقال الرئاسة الأميركية من دونالد ترمب إلى جو بايدن.

نهاية «شهر العسل»
وحقاً، في الثالث عشر من مارس الفائت داهمت قوة من الشرطة منزل آنييز واقتادتها إلى السجن؛ تنفيذاً لمذكرة جلب صدرت عن النيابة العامة، وقضت بإيداعها الحبس الاحترازي، إلى جانب أربعة من الوزراء السابقين في حكومتها. وحصل هذا، مع أن التحقيقات الجارية في ملف القضية كانت تتناول الأحداث التي سبقت استقالة موراليس، أي قبل أن تتولّى آنييز مهام الرئاسة.
وعلى الأثر، أثار اعتقال الرئيسة البوليفية السابقة موجة من الاحتجاجات المحلية والإقليمية، كانت أبرزها التصريحات التي صدرت عن الأمين العام لمنظمة البلدان الأميركية لويس الماغرو الذي قال، إن القضايا القانونية الكبرى التي تتناول فترة حكم موراليس وآنييز، بما فيها تلك التي تشمل «جرائم ضد الإنسانية»، يجب أن تنظر فيها الهيئات والمحاكم الدولية. واعتبر الماغرو أن القضاء البوليفي الخاضع للسلطة السياسية «ليس موضع ثقة للنظر في هذه القضايا». وأعلن أنه سيبادر شخصياً إلى إحالة هذه القضايا إلى المحكمة الجنائية الدولية. لكن الحكومة البوليفية التي يرأسها لويس آرسي رفضت تصريحات الماغرو التي وصفتها بالتدخل غير المقبول، واعتبرت اقتراحه غير قانوني.
من جهة ثانية، منظمات حقوقية غربية مثل «العفو الدولية» و«هيومان رايتس ووتش» أيضاً أعربت عن شكوكها في شرعية توقيف آنييز بتهمة التآمر والانقلاب على الحكم. ورأت في قرار النيابة العامة استخداماً للقضاء بهدف تحقيق غايات سياسية. وبينما اعتبرت المعارضة اليمينية أن اعتقال الرئيسة السابقة «خطوة استبدادية»، قال الرئيس البوليفي الأسبق كارلوس ميسا، إن تصرّف السلطات مع آنييز هو «من أسوأ أنواع المعاملة»، متهما الرئيس الحالي بـ«ممارسة العنف الكيدي والنزعة الانتقامية».
هذا، وبعدما تمكّن الأطباء من إنقاذ آنييز في زنزانة السجن، صرّح وكيل دفاعها بأنها «في وضع صحي سيئ جداً وتحتاج إلى الراحة لكونها في حال من الوهن والاكتئاب العميق». وقال ناطق بلسان الاتحاد الأوروبي إنهم في الاتحاد يتابعون «بقلق شديد» الأنباء عن وضع الرئيسة البوليفية السابقة. وأعرب عن أمله في أن تضمن السلطات المسؤولة حقها في الصحة الجسدية والنفسية التامة.
أخيراً، تجدر الإشارة أن آنييز البالغة من العمر 54 سنة لا تزال في انتظار المحاكمة بتهمة الإبادة والإرهاب والتآمر خلال الأحداث التي جرت في بداية ولايتها القصيرة. وهي الأحداث التي أدت إلى وقوع أكثر من 30 قتيلاً ومئات الجرحى في الاشتباكات العنيفة التي دارت بين أنصار الرئيس الأسبق إيفو موراليس والقوى الأمنية. وقد رفضت النيابة العامة البوليفية حتى الآن مطالب عائلة آنييز ووكلاء الدفاع بنقلها إلى عيادة خاصة لمعالجتها.
وتقول ابنة آنييز عن أمها «تعيش في اضطراب دائم ومن دون راحة؛ إذ لا تعرف ماذا يعدّون لها... تخديرها أو تسميمها أو نقلها إلى مصير مجهول». وكانت الرئيسة السابقة قد نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي قبل محاولتها الانتحار رسالة جاء فيها «لم تعد عندي أي رغبة في الحياة. لا أريد تناول المزيد من الأدوية. إنني أطلب من سلطات السجن أن تقول لي ما هي الأدوية التي اتناولها».



روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
TT

روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)

مطلع الشهر الماضي ذهب الأوروبيون إلى صناديق الاقتراع لتجديد عضوية البرلمان الأوروبي، فيما أجمعت الآراء على وصفها بأنها أهمّ انتخابات في تاريخ الاتحاد، الذي منذ أكثر من سنتين تشتعل حرب على تخومه وتهدد باتساع دائرتها وإيقاظ أشباح الماضي الذي قام المشروع الأوروبي بهدف وأده، وهذا بينما تتنامى داخل حدوده القوى التي منذ ثمانية عقود أفرزت أقسى الحروب التي شهدتها القارة في الأزمنة الحديثة. ولقد جاءت النتائج لتؤكد الصعود المطّرد للموجة اليمينية المتطرفة التي كانت قد أمسكت بزمام الحكم منذ سنتين في إحدى الدول الأعضاء الكبرى المؤسسة، إيطاليا، وأصبحت قاب قوسين من الوصول إلى سدّة الرئاسة الفرنسية... فيما بدت جذورها راسخة في العديد من البلدان الأعضاء الأخرى. ولكن، على الرغم من الصاعقة التي ضربت الصرح السياسي الفرنسي، ظل صعود هذه الموجة دون منسوب الطوفان الذي كانت تنذر به الاستطلاعات ويهدد - وفقاً لأفضل الاحتمالات - بجنوح المركب الأوروبي عن مساره التأسيسي. أمام هذا المشهد المعقد، كان القرار الأول الذي اتخذه البرلمان الجديد في جلسته الافتتاحية يوم الثلاثاء الفائت بعد انتخاب رئيسة له، تأكيد الدعم لأوكرانيا وترسيخ الانقسام الحاد بين الكتل السياسية الذي لم يشهد له مثيلاً منذ تأسيسه في عام 1979.

صور بارديلا مرفوعة خلال حملة الانتخابات الفرنسية (إيبا/شاترستوك)

يتّسم البرلمان الأوروبي الجديد الذي افتتح ولايته الاشتراعية العاشرة هذا الأسبوع في العاصمة البلجيكية بروكسل بكونه الأكثر تشرذماً، على صعيد الكتل التي تشكلت داخله بعد انتخابات التاسع من الشهر الماضي، والأكثر جنوحاً نحو اليمين. إذ أصبح أكثر من نصف أعضائه ينضوون تحت الرايات اليمينية المحافظة واليمينية المتطرفة. بيد أن عجز القوى المتطرفة عن الانصهار ضمن كتلة واحدة، أدّى إلى تشكيل 8 كتل سياسية، للمرة الأولى منذ عشرين سنة، تتصدرها كتلة الحزب الشعبي الأوروبي الذي يضمّ 26 في المائة من الأعضاء. وحقاً، ينذر هذا التشرذم بولاية يتخلّلها المزيد من النقاش الحاد، يصعب فيها التوازن عند الاستحقاقات الحسّاسة ويتعذّر الاتفاق، ذلك أن القوى المعتدلة التي كانت تشكل مجتمعة 70 في المائة من أعضاء البرلمان الأول عام 1979، ما عادت تمثّل اليوم أكثر من 45 في المائة فقط.

أهمية الاستقرار السياسي

تعدّ هذه الولاية على جانب كبير من الأهمية بالنسبة للاستقرار السياسي داخل الاتحاد، خاصةً بعد صعود اليمين المتطرف والزلزال الذي نجم عن الانتخابات الأخيرة في فرنسا، حيث لا يزال المخاض مستمراً لتشكيل حكومة جديدة. وفي حين تجهد القوى المعتدلة للتأكيد بأنها تمكّنت من صدّ الموجة اليمينية المتطرفة - مع خشية كثيرين من أن تكون هذه آخر فرصة لقطع الطريق أمام الانقلاب السياسي الكبير - تكثّف هذه القوى مساعيها لفرض حظر على التعامل مع بعض القوى اليمينية المتطرفة التي تصنّفها قريبة من روسيا، وتعمل على منعها من تولّي مناصب حساسة في المؤسسات الأوروبية.

كتلة الحزب الشعبي الأوروبي تضم اليوم في البرلمان الجديد 188 عضواً، تليها كتلة الحزب الاشتراكي التي تتكوّن من 136 عضواً لا يتجاوزون نسبة 20 في المائة من المجموع للمرة الأولى منذ انطلاق البرلمان. وتأتي في المرتبة الثالثة كتلة «وطنيون من أجل أوروبا» اليمينية المتطرفة بـ84 عضواً، التي يقودها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان وزعيمة «التجمّع الوطني» الفرنسي مارين لوبان، ثم تأتي في المرتبة الرابعة الكتلة اليمينية الأخرى التي تتزعمها رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني وتضمّ 87 عضواً تحت شعار «المحافظون والديمقراطيون من أجل أوروبا»... التي فشلت حتى الآن كل محاولات ضمّها إلى كتلة الحزب الشعبي الأوروبي. أما الكتلة الأخيرة التي تتجاوز بقليل 10 في المائة من مجموع أعضاء البرلمان، فهي الكتلة الليبرالية الوسطية، التي كانت أكبر الخاسرين في الانتخابات الأخيرة بعدما فقدت المرتبة الثالثة التي كانت تحتلها عادةً بين الكتل السياسية في البرلمان الأوروبي.

"تشكّك أوساط برلمانية أوروبية في قدرة الكتلة اليمينية المتطرفة الجديدة على التأثير داخل البرلمان"

البرلمان الأكثر جنوحاً نحو اليمين

بذلك يكون هذا البرلمان الجديد الأكثر جنوحاً نحو اليمين في تاريخ الاتحاد الأوروبي. ويبقى الذكور يشكلون فيه أكثرية الأعضاء (60 في المائة)، مع أن بعض البلدان، مثل قبرص، لم تنتخب أي رجل للبرلمان الجديد، بينما تشكّل النساء ثلث الأعضاء المنتخبين في كلٍ من ألمانيا وإيطاليا.

من ناحية أخرى، كان التطور اللافت والمفاجئ في المعسكر اليميني المتطرف نجاح رئيس الوزراء المجري أوربان في لمّ شمل القوى اليمينية المتطرفة القريبة من موسكو ضمن كتلة برلمانية جديدة «وطنيون من أجل أوروبا». ولقد قامت هذه الكتلة على أنقاض كتلة «الهوية والديمقراطية»، وتضمّ كلاً من الحزب الليبرالي النمساوي و«التحالف المدني» الذي يقوده رئيس الوزراء التشيكي السابق أندريه بابيس، إلى جانب حزب «فوكس» الإسباني، وحزب «الرابطة» الإيطالي بزعامة ماتّيو سالفيني، واليمين الهولندي المتطرف، وحزب «التجمع الوطني» الفرنسي بزعامة مارين لوبان.

ويعود الفضل في تشكيل هذه الكتلة الجديدة، التي تعمّدت تهميش رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، إلى أوربان وحلفائه في أوروبا الشرقية. ويهدف هذا التجمع الجديد إلى التأثير في سياسات البرلمان الأوروبي وعرقلة مشروع الاندماج الذي يتجه نحو توسعة جديدة للاتحاد تشمل دول البلقان وبعض بلدان القوقاز، إلى جانب أوكرانيا.

رئيس الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني (رويترز)

دور فيكتور أوربان

وتأتي هذه الخطوة أيضاً، وسط تزايد القلق بين الشركاء الأوروبيين من الدور الذي يلعبه فيكتور أوربان في الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد، وجولاته على كييف وموسكو وبكين في «مهمة سلام» لم تكلفه بها الدول الأعضاء التي وجهت إليه انتقادات شديدة واتهمته بخدمة مصالح الكرملين، وبدأت أخيراً بمقاطعة الاجتماعات الوزارية التي تنظمها الرئاسة المجرية.

هذا، وكان «التجمّع الوطني» الفرنسي الذي تقوده لوبان، والذي يشكّل القوة الرئيسية في هذه الكتلة الجديدة بعد حصوله على 30 مقعداً في انتخابات الشهر الماضي، قد تريّث في الإعلان عن انضمامه إلى الكتلة في انتظار نتائج الدورة الثانية من الانتخابات الاشتراعية الفرنسية التي كان يأمل أن يحصل فيها على الغالبية المطلقة ويكلّف نجمه الصاعد الشاب جوردان بارديلا تشكيل الحكومة الجديدة. إلا أنه بعد ظهور النتائج النهائية للانتخابات الفرنسية وتراجع «التجمع الوطني» إلى المرتبة الثالثة، صرّح بارديلا - الذي كان قد انتُخب عضواً في البرلمان الأوروبي – بـ«أن أعضاء (التجمع الوطني) في البرلمان الأوروبي الجديد سيلعبون دورهم كاملاً ضمن كتلة كبيرة سيكون لها تأثير واضح على موازين السلطة ومعادلاتها في أوروبا». وتعهّد بارديلا، بالتالي، مواصلة العمل من أجل «منع إغراق بلدان الاتحاد بالمهاجرين، ورفض السياسات البيئية المتطرفة، ومصادرة السيادة الوطنية».

وما يُذكر أنه على الرغم من تغيّب بارديلا عن الاجتماع التأسيسي للكتلة الجديدة، فإنه انتُخب رئيساً لها بالإجماع، يعاونه ستة نواب للرئيس، تبرز من بينهم المجرية كينغا غال كنائبة أولى.

تشكيك بإمكانية توحيد اليمين

في أي حال، تشكّك أوساط برلمانية أوروبية في قدرة هذه الكتلة اليمينية المتطرفة الجديدة على التأثير داخل البرلمان الجديد، وتستبعد نجاحها في العمل بتوجيهات موحدة في ضوء اختلاف مصالحها وأهدافها الخاصة. وكانت الكتلة السابقة «الهوية والديمقراطية»، التي قامت على أنقاضها الكتلة الجديدة، وكان ينتمي إليها حزب «البديل من أجل ألمانيا» - الذي طُرد منها بسبب التصريحات النازية لزعيمه - دائماً معزولة من القوى البرلمانية الأخرى، بما فيها الكتلة التي تتزعمها ميلوني. وهنا نشير إلى أنه رغم الانسجام العريض بين مواقف ميلوني ومواقف أوربان من معظم الملفات الأوروبية، فإن الزعيمين يختلفان بوضوح حول الحرب الدائرة في أوكرانيا؛ إذ تصطف ميلوني ضمن الموقف الرسمي للاتحاد، بعكس حليفها اللدود في الائتلاف الحكومي الذي ينافسها على زعامة المعسكر اليميني المتطرف في إيطاليا، زعيم حزب «الرابطة» ماتيو سالفيني.

جدير بالذكر، أن البرلمان الأوروبي الجديد انتخب في جلسته الافتتاحية يوم الثلاثاء الماضي المالطية روبرتا متسولا، من الحزب الشعبي، رئيسة لنصف الولاية الاشتراعية حتى مطلع عام 2027. ونالت متسولا، التي كانت ترأس البرلمان السابق منذ وفاة الإيطالي دافيد ساسولي، 562 صوتاً من أصل 720، وهذا رقم قياسي لم يحصل عليه أي من الرؤساء السابقين؛ الأمر الذي يدلّ على أنها حصلت أيضاً على تأييد عدد من نواب اليمين المتطرف بجانب تأييد الكتلتين الكبريين اللتين تتوافقان عادة على توزيع المناصب القيادية في مؤسسات الاتحاد.

ولقد قالت متسولا في كلمتها قبل البدء بالاقتراع السري: «أدعوكم إلى التمسك والالتزام بمبادئنا وقيمنا التأسيسية، والدفاع عن سيادة القانون، وعن الإنسانية في الشرق الأوسط ورفض اجتياح أوكرانيا». وشددت، كما فعلت عند انتخابها للمرة الأولى، على إعطاء البرلمان الأوروبي صلاحية اقتراح التشريعات المقصورة حالياً على المفوضية.