نشرنا في الحلقة الأولى من ملف «دور النشر العربية في ظل كورونا وخطط هذه الدور لما بعدها»، شهادات عن الوضع القاتم التي مر بها قطاع النشر كما في كل القطاعات الأخرى، وتصورات واقتراحات لحلول تتماشى مع المتغيرات الجديدة لناشرين من السعودية ومصر ولبنان. وفي هذه الحلقة الثانية والأخيرة، مساهمات من ناشرين في العراق والمغرب:
من العراق، تقول د. غادة العاملي مدير عام «مؤسسة المدى»، التي تملك واحدة من أهم وأنشط دور النشر في العراق والوطن العربي وهي دار المدى،: «كما في العديد من البلدان العربية قطاع النشر منذ بداية انتشار الجائحة نهاية 2019 وبداية 2020. وما زالت آثارها مستمرة... بالنسبة للطبع، ونحن نطبع في لبنان بسبب الجودة وتوفر مواد الطبع بنفس الوقت، تأثرت المطابع هناك، وانعكس ذلك على جودة الطباعة. وبالنسبة للتوزيع نحن نعتمد بشكل أساسي على المعارض، وبسبب «كورونا» ألغيت جميع المعارض التي تقام سنوياً في البلدان العربية، وهو ما أدى لانخفاض مؤشر التوزيع، بالإضافة إلى أن المعارض هي فرصة لأصحاب دور النشر والناشرين لتبادل العناوين الحديثة بغرض التسويق... وهي أيضاً فرصة للقاء الناشرين وجمهور المعارض في البلدان التي تقام فيها والذين ينتظرون هذه المعارض بسبب الأسعار المخفضة. غياب المعارض قلل نسبة الشراء وبالتالي نسبة التوزيع».
وكانت دار «المدى» التابعة للمؤسسة، قد أقامت معرضاً على أرض الواقع في الأيام الأخيرة لعام 2020 وهو المعرض الثاني بعد معرض الشارقة، وخصصت مبلغ الأرباح في المعرض لشراء الكتب من الناشرين، لتهديها للجامعات العراقية والمكتبات العامة، مساهمة منها في التقليل من الأثر الذي أحدثته «كورونا».
ولعل من الأسباب التي فاقمت هذه الأزمة هو غياب الدعم الحكومي للناشرين أيضاً، وكذلك انتشار ظاهرة قرصنة العديد من العناوين في أسواق الكتب، وهذا الأمر أدى إلى مضاربات أثرت على سعر الكتاب الحقيقي، مما ترك أثره على الناشرين بشكل عام.
ومن المشاكل الأخرى، كما تضيف مدير عام مؤسسة المدى، هي عدم وصول الكتاب بشكل سريع بسبب الجائحة، حيث إن شحن الكتب الواصلة يتأخر أحياناً إلى ثلاثة أشهر، وهو ما أجبر العديد من القراء إلى اقتناء الكتب (المهكرة)، وفي الوقت نفسه نشطت بعض المواقع في الترويج بعيداً عن المسائلة القانونية، بعرض الكتب بنسخة الـ«بي دي إف»، وهذا ما أدى إلى خسارة للناشر وحتى مؤلف الكتاب. وأنا هنا أتحدث عن الدور التي تلتزم مع المؤلف بعقود طويلة المدى، وليس عن الدور التي تتقاضى أجوراً لقاء نشر الكتاب. و«نحن في (المدى) من الدور التي حافظت على طريقة تعاملها، وصارت أكثر انتقاءً للعناوين واختيارها، خاصة تلك التي تحقق الانتشار وباعتبار (المدى) مؤسسة ثقافية لها توجهاتها وفلسفتها».
ولكن، هل تغير أسلوب العمل الآن في ظل المتغيرات الجديدة وهل هناك خطط اعتمدتموها لما بعد كورونا؟
تجيب د. غادة العاملي: «على الناشر أن يمتثل لمثل هذه التغيرات. وقد لاحظنا تغيرات جدية لبعض الناشرين في تغيير أسلوب العمل منها أولاً إعادة النظر بمواقعها الإلكترونية حيث أسلوب البيع المباشر واستحداث إيصال الكتاب إلى القارئ مقابل أجور زهيدة جداً... والآن صار الناشر يطبع كمية قليلة تلبي الحاجة لمدة سنة واحدة، وصار التحويل إلى طباعة الديجيتال يعني كميات قليلة لكنها جيدة، وعند الحاجة يطبع كميات أخرى. وبالطبع، تختلف سياقات مهنة النشر في العالم العربي، عن تلك التي في الغرب، ففي الغرب توجد قنوات وشركات توزيع تتكفل بهذه المهمة، وهي طرق بيع غير معتادة في عالمنا العربي، إضافة إلى المكتبات الضخمة والتي يرتادها جمهور واسع».
شارع المتنبي لم يعد كما كان
من جهته، يقول مدير دار الرافدين محمد هادي، الناشر العربي هو الذي ينشر ويوزع، والعصب الرئيسي في التوزيع هي معارض الكتب، حيث يلتقي الناشر بالمؤلف والمترجم وبالموزع والمكتبي وبالصحافي المهتم بالشأن الثقافي وبالقارئ... إلخ. وللأسف، مهنة النشر عربياً، تعاني أساساً من الضعف وقلة الدعم، ويعتبر قطاع النشر أساساً قطاعاً هشاً، فلما ضرب فيروس كورونا، كان له وقعاً كبيراً على هذا القطاع. المشكلة الأكبر هي إلغاء معارض الكتب كافة، حتى جاء معرض الشارقة نوفمبر (تشرين الثاني) 2020) وبعدها معرض العراق ديسمبر (كانون الأول) 2020، الذي نظمته مؤسسة المدى بالتعاون مع جمعية الناشرين والكتبيين في العراق. هذان المعرضان يحسب لهما أنهما كسرا الحصار المطبق على الناشر، وكانت خطوة شجاعة من المنظمين، تحملوا مسؤولياتها وتخطوا عقباتها.
والملاحظ هو عدم تحرك المؤسسات الحكومية لدعم هذا القطاع في العراق، ولذلك كان على الناشر أن يواجه هذه الأزمة لوحده، وكانت الحلول تبعاً لذلك فردية وجزئية، منها ترشيد التكلفة وكم ونوع الإصدارات، ومحاولات تسويق بشتى الوسائل، حيث نجد ازدهاراً لمبيعات الأونلاين، لكن هذا أثر سلباً على حركة القراء في بؤر الكتاب وأماكن وجود المكتبات. فشارع المتنبي وهو واحد من أهم أسواق الكتب في الوطن العربي والذي يشهد إقبالاً كبيراً من جمهور القراء، أصبح بفضل الجائحة مقفراً. وعموماً، في العراق الوضع يختلف عن باقي الدول بسبب الفوضى التي يعيشها البلد. شعوب البلدان المرفهة تكون ميالة للقراءة فكيف ببلد يعيش في أزمات متتالية منذ عام 1980 ولغاية الآن، أن تكون حركة القراءة فيه بشكل موازٍ لبقية أقرانه من الدول؟
ويرى مدير دار عدنان للنشر، محمد عدنان أنه «مع تفشي الوباء لم تتأثر حركة بيع الكتاب بشكل كبير، لكن في مجال النشر نستطيع الجزم بأن أغلب دور النشر لم تستطع طباعة أي كتاب بسبب غلق المطابع، كما فرضت الجهات المختصة حظراً طويل الأمد ولأجل غير معروف، في أول شهر أغلقت جميع المكاتب لكن مع بداية الشهر الثاني كانت الفرصة متاحة لنا ولمكتبات أخرى لبيع الكتب من خلال توفير خدمة توصيل الكتب إلى المنزل، فكان الإقبال لافت للنظر بسبب عكوف أغلب القراء داخل منازلهم، مما زادهم لهفة لقراءة الكتب الجديدة، ويشير إلى أنهم استغلوا الوقت بالتجهيز للكتب العازمين على طباعتها من خلال القراءة اللغوية والإخراج والمراجعات وتصميم الأغلفة وغيرها، ومع رجوع الحياة إلى طبيعتها وانحسار القيود عدنا لطبع الكتب لكن بصورة قليلة ليس كالسابق بسبب العجز الذي أصاب سوق النشر وتوقف أغلب المعارض الدولية والتي تشكل أساس مبيعات الناشر العربي».
ويؤكد مدير دار «سطور للنشر» بلال محسن البغدادي، أن تداعيات جائحة كورونا: «أضافت لنا مشكلة أخرى، فليس من المعقول إقامة معارض للكتب، أو ندوة نقاشية عن كتاب صادر حديثاً، أو حفل توقيع للكتاب، من دون تقارب اجتماعي، وهو ما أثر سلباً على هذه التجارة التي هي بالأساس كانت متعثرة بسبب تطورات السوشيال ميديا والقراءة الإلكترونية، فضلاً عن قرصنة الكتب المطبوعة عن دور النشر الرصينة واستنساخها بطبعات رديئة ورخيصة تغري القارئ لاقتنائها». وهو يقترح إعادة النظر بمستوى سعر الكتاب، ليتناسب مع الأوضاع الاقتصادية للقارئ، واستحداث منصات إلكترونية رصينة لتسويق الكتاب الإلكتروني الذي يطلق موازياً لأي إصدار ورقي جديد، وتكون تحت إشراف جمعية الناشرين حصرياً».
رئيس جمعية الناشرين والكتبيين في العراق إيهاب القيسي يشير إلى أن الخيار الوحيد للناشرين هو التعامل مع الموجود، وذلك عن طريق الاعتماد على المتوفر في المستودعات وتنشيط الصفحات الإلكترونية، والاعتماد على التوصيل المنزلي، والبيع عبر صفحات السوشيال ميديا. وهو يرى أن الخطط الأولية هي تقليل كميات الطباعة والتوجه لما هو ضروري حصراً، وتقوية المنافذ الإلكترونية وتخفيض الأسعار بالعرض عبر صفحات السوشيال ميديا. وضع الناشر العربي سيكون صعباً جداً، وستنحسر المنافسة على المؤسسات ودور النشر الرصينة التي ستستطيع اجتياز الأزمة الحالية».
وعن دور الجمعية في تجاوز هذه الأزمة، يقول القيسي: «عملت الجمعية على فتح قنوات تواصل بين الناشرين العراقيين ومحطات البيع الإلكتروني خارج العراق، وتوفير أجنحة للناشرين الجدد في المعارض العربية القليلة التي أقيمت خلال هذه الفترة وكانت هذه الأجنحة مجانية وبتكليف موظف تعتمده الجمعية للإشراف على الجناح لتقليل النفقات على الناشر المبتدئ وتسهيل إيصال كتابه خارج العراق».