«علينا أن نمسك أعصابنا وأن نمنحهم فرصة لتشكيل حكومة وأن نعطيهم متسعاً لإظهار إمكاناتهم... ربما كانت (طالبان) هذه مختلفة عن (طالبان) التسعينات التي يتذكرها الناس». هذا التعليق على عودة «طالبان» إلى الحكم في أفغانستان صدر أمس عن قائد أركان الدفاع البريطاني نيك كارتر، وهو يأتي في خضم سيل من التأكيدات والتطمينات التي يطلقها قادة هذه الحركة بأنهم لن يسمحوا بأن تُستخدم أفغانستان، من جديد، منطلقاً لنشاط يمس أمن دول العالم.
ولا شك أن هذه التطمينات كانت جزءاً أساسياً في قرار إدارة الرئيس دونالد ترمب إبرام اتفاق الدوحة مع «طالبان» العام الماضي. وقضى هذا الاتفاق بانسحاب الأميركيين من أفغانستان بحلول مايو (أيار)، وهي مهلة مددها الرئيس جو بايدن إلى نهاية أغسطس (آب). هل ستفي «طالبان» بتعهداتها وتمنع أي نشاط «إرهابي» لـ {ضيوفها} ينطلق من أراضيها؟ وما هي الجماعات التي سيشكل وجودها في أفغانستان امتحاناً لـ«طالبان الجديدة» وتعهداتها؟ هذه جولة على أبرزها:
«القاعدة»
لا شك أن علاقة «طالبان» بـ«القاعدة» ستشكل هاجساً لكثير من الدول التي تخشى موجة جديدة من الهجمات الدموية التي شنّها التنظيم وفروعه المختلفة. ومعروف أن قيادة «القاعدة» كانت تتخذ من أفغانستان مقراً أساسياً لها خلال حكم «طالبان»، في تسعينات القرن الماضي. أقام التنظيم آنذاك معسكرات تدريب خرّجت آلاف المقاتلين. وكانت الأراضي الأفغانية الساحة التي تدرب فيها منفذو هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 ضد الولايات المتحدة. وليس واضحاً تماماً حتى اليوم هل أخذت قيادة «القاعدة» الإذن من «طالبان» لشن هجمات 11 سبتمبر، وهو أمر كان سبباً لجدل فقهي داخل «القاعدة»، خصوصاً لجهة تأكيد بعض قادة التنظيم أن «القاعدة» في حاجة، قبل شن الهجمات الانتحارية في نيويورك وواشنطن، إلى إذن من «طالبان» كونها بايعت زعيمها الملا محمد عمر، ولا يجوز القيام بعمل بغير رضاه. وفي نهاية المطاف، دفعت «طالبان» ثمن تصرف «القاعدة»، سواء تم بموافقتها أم لا؛ إذ شنّت الولايات المتحدة هجومها الانتقامي رداً على رفض «طالبان» تسليم زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن، وأطاحت حكم الملا عمر وأخرجت «طالبان» من السلطة لمدة 20 عاماً... إلى أن عادت إليها اليوم مع الانسحاب الأميركي.
وتحيط «طالبان» حالياً علاقتها بـ«القاعدة» بستار من الغموض، مكتفية بالقول إنها تتعهد بعدم السماح باستخدام أفغانستان منطلقاً لعمل إرهابي يمس أمن دولة خارجية. لكن تقارير أمنية عديدة تؤكد أن علاقة «طالبان» لم تنقطع بـ«القاعدة»، وإن التنظيم الأخير يتخذ من ولاية كونار، شرق أفغانستان، مقراً أساسياً له حيث ينتشر ما لا يقل عن 500 من مقاتليه في تلك المنطقة المعروفة بوعورة تضاريسها. كما أن الارتباط بين الطرفين قد يكون على أعلى المستويات أيضاً؛ إذ كُشف في خريف العام الماضي، عن أن أحد كبار قادة «القاعدة»، أبو محسن المصري، قُتل خلال مواجهة مع قوات الأمن في ولاية غزني قرب كابل. ولم يكن واضحاً سبب وجود المصري في غزني التي كانت لفترة طويلة محوراً لهجمات تشنها «طالبان»، وهل كان فعلاً جزءاً من مقاتلي الحركة في هجومهم، أم أنه كان يختبئ هناك، علماً بأن الأميركيين كانوا يضعون مكافأة كبيرة لمن يرشدهم إليه.
وحقيقة الأمر، أن تهديد «القاعدة» انطلاقاً في أفغانستان تلاشى في السنوات الماضية، وتعرض التنظيم لضربات شديدة أبرزها مقتل زعيمه أسامة بن لادن عام 2011 بعملية أميركية. ولم يعد التنظيم اليوم في حاجة ماسة إلى الأراضي الأفغانية، كما كان الحالي في الماضي، بعدما باتت له فروع عدة تنشط في مناطق واسعة حول العالم تعاني من اضطرابات وضعف حكوماتها المركزية (مثل الساحل الافريقي والصومال سوريا).
«داعش»
سيكون فرع تنظيم «داعش» («ولاية خراسان») هاجساً آخر لـ«طالبان الجديدة». وينتشر هذا التنظيم في عدد من ولايات الشرق الأفغاني التي تُعرف أصلاً بأنها أكثر محافظة حتى من بقية الولايات الأفغانية المحافظة أصلاً. لكن نشاط «داعش» الذي تنامى في أوج تصاعد نجم «داعش» في سوريا والعراق، بعد عام 2014، انحسر في السنوات الماضية مع هزيمة التنظيم ومقتل زعيمه أبو بكر البغدادي. وما ساهم في إضعاف فرع «داعش» الأفغاني أنه وقع بين فكي كماشة. فمن جهة، كان يتعرض لضربات جوية أميركية ولحملات تقوم بها قوات الأمن الأفغانية. ومن جهة أخرى، كان التنظيم يواجه هجمات تستهدف مواقعه تقوم بها «طالبان». ولا يُعتقد أن المواجهة بين «طالبان» و«داعش» ستشهد تهدئة في المرحلة الزمنية المنظورة؛ إذ إن «ولاية خراسان» ما زالت تواصل شن حملة شعواء على «طالبان» بزعم أنها حركة «وطنية» وليست إسلامية، وأنها «مُشركة» وتقبل الديمقراطية والقوانين الدولية. وستكون هذه المواضيع، على الأرجح، محور جدل فقهي بين الطرفين، وربما أيضاً استمراراً للمواجهات المسلحة، في السنوات القليلة المقبلة.
«شبكة حقاني»
تُعتبر «شبكة حقاني» اليوم جزءاً لا يتجزأ من حركة «طالبان»، وقد شارك أحد أعضائها، أنس حقاني، شقيق زعيمها سراج الدين (وهو أحد ثلاثة نواب لزعيم {طالبان} أخوندزادة)، في لقاءات في كابل، أمس، مع الرئيس السابق حامد كرزاي ورئيس المجلس الأعلى للمصالحة عبد الله عبد الله، في محاولة لبحث مستقبل البلاد تحت حكم «طالبان». وحمل اللقاء مؤشراً إلى سير «شبكة حقاني» في السياسة العامة لـ«طالبان» بالتصالح مع بقية شرائح المجتمع، علماً بأن أنس حقاني نفسه كان مسجوناً في سجن باغرام، شمال العاصمة الأفغانية. ومن بين المشاكل التي تواجهها «شبكة حقاني»، أن الأميركيين يضعونها في إطار الشبكات الإرهابية وينسبون لها سلسلة عمليات اغتيال وتفجيرات دموية راح ضحيتها مئات المدنيين في كابل ومناطق أخرى. كما أن الإدارة الأفغانية السابقة كانت تتهم هذه الشبكة بأنها إحدى أذرع الاستخبارات الباكستانية في أفغانستان.
«طالبان باكستان»
سارع فرع «طالبان» الباكستاني (تحريك طالبان باكستان)، بقيادة نور ولي محسود، إلى تهنئة «طالبان أفغانستان» بـ«انتصارها» على حكم الرئيس السابق أشرف غني، وجددت ولاءها لزعيمها الملا هيبة الله أخوندزاده. لكن العلاقة بين الطرفين في المستقبل قد تكون مصدر إزعاج لحكومة «طالبان» في كابل، خصوصاً لجهة علاقتها بإسلام آباد. ومعلوم أن «طالبان باكستان» شنّت منذ تأسيسها عام 2007، حملات ضخمة ضد الحكومة الباكستانية، لا سيما في مناطق القبائل المحاذية للحدود مع أفغانستان. لكن الجيش الباكستاني تمكن بعد سلسلة حملات أمنية من تقليص نشاطها واستعادة معظم المناطق التي كانت تحت سيطرتها؛ ما دفعها إلى الاحتماء بمناطق حدودية شرق أفغانستان. ومن هناك، أعادت الحركة تنظيم صفوفها وعاودت، لا سيما منذ عام 2020، شنّ هجمات متزايدة ضد قوات الأمن الباكستانية. ويُعتقد على نطاق واسع أن فرع «طالبان باكستان» يرتبط ارتباطاً وثيقاً بـ«شبكة حقاني» في شرق أفغانستان، وكذلك مع تنظيم «القاعدة» الذي كان قادته يحتمون تحت مظلة محسود داخل باكستان.
ولذلك؛ فإن استضافة «طالبان أفغانستان» لعناصر من فرعها الباكستاني يمكن أن تشكل مصدر إزعاج للعلاقة التي تريدها حكومة كابل الجديدة مع حكومة عمران خان في إسلام آباد، خصوصاً إذا ما واصلت جماعة محسود حملتها ضد قوات الأمن الباكستانية، كما يحصل حالياً.
تنظيمات أخرى
وستكون علاقة «طالبان» بمزيج آخر من الجماعات المسلحة من حول العالم محور مراقبة شديدة أيضاً، خصوصاً إذا ما حاول متشددون العودة إلى أراضي «طالبان» لإقامة مأوى لهم، كما كان الحال في تسعينات القرن الماضي. وستكون الأنظار هنا مركّزة على جماعات من مسلمي الأويغور الصينيين (تركستان الشرقية) الذين ربما يبحثون عن قاعدة قريبة من الصين ينطلقون منها للتواصل مع سكان إقليم سنجان الصيني، وربما لشنّ هجمات داخل الصين. ومعروف أن عدداً من كبار قادة تنظيم «جهادي» صيني كانوا يتخذون من أراضي «طالبان» قاعدة لهم في التسعينات، لكنهم انتقلوا في السنوات الماضية إلى سوريا، حيث بات لهم موطئ قدم مهم في إدلب، بشمال غربي البلاد. وساعدهم في ذلك أن تلك المنطقة مجاورة لتركيا التي يتخذها بعض مسلمي الأويغور ممراً لهم، علما بأنهم يرتبطون مع الأتراك بروابط تاريخية. كما أن الأنظار ستكون منصبة لمعرفة نوع العلاقة التي ستقوم بين «طالبان» وتنظيمات توصف بأنها «جهادية» من دول آسيا الوسطى. وسيكون هذا الملف محور اهتمام روسي على وجه الخصوص، في ضوء سعي موسكو إلى بناء علاقة جيدة مع «طالبان».
وليس واضحاً أيضاً ما إذا كان من يُعرفون بـ«الأفغان العرب» سيحاولون من جديد العودة إلى أفغانستان لإحياء روابطهم القديمة مع «طالبان الجديدة». ومن بين هؤلاء مصريون وليبيون وجزائريون وغيرهم من الجنسيات العربية. وبعض التنظيمات السابقة لهؤلاء لم تعد موجودة إلى حد كبير واندثرت أو باتت جزءاً من تنظيمات أخرى، كالجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا والجماعة السلفية للدعوة والقتال في الجزائر وحتى جماعة الجهاد المصرية.