فرناندو بيسوا... الشخص الضئيل ذو الرأس الكبير

عاش ليكتب على أي شيء قريب من يده

فرناندو بيسوا
فرناندو بيسوا
TT

فرناندو بيسوا... الشخص الضئيل ذو الرأس الكبير

فرناندو بيسوا
فرناندو بيسوا

تنقسم حياة فرناندو بيسوا إلى ثلاث فترات. في رسالة إلى «المجلة البريطانية للتنجيم» تعود إلى 8 فبراير (شباط) 1918 كتب يقول إنه يتذكر تاريخين فقط بدقة تامة: 13 يوليو (تموز)، 1893. تاريخ وفاة أبيه نتيجة لمرض السل حين كان بيسوا في الخامسة من عمره؛ و30 ديسمبر (كانون الأول)، 1895، يوم زواج أمه للمرة الثانية، مما يعني أنه بعد ذلك بفترة قصيرة انتقلت الأسرة إلى دربان (في جنوب أفريقيا) حيث عيّن زوج أمه قنصلاً للبرتغال. في الرسالة نفسها يشير بيسوا إلى تاريخ ثالث، أيضاً: 20 أغسطس (آب)، 1905، اليوم الذي غادر فيه جنوب أفريقيا عائداً إلى البرتغال بشكل نهائي.
اتسمت الفترة القصيرة الأولى بفقدين: موت والده وأخيه الأصغر. وربما فقد ثالث أيضاً: موت لشبونة التي أحب. في الفترة الثانية، رغم أنه لم يكن يتحدث سوى البرتغالية حين وصل إلى دربان، صار بيسوا يتحدث الإنجليزية والفرنسية بطلاقة.
كان واضحاً أنه لم يكن تلميذاً عادياً. حين سُئل أحد زملائه من التلاميذ بعد سنوات، وصفه بأنه «الشخص الضئيل برأس كبير. كان ذكياً على نحو غير عادي لكنه مجنون تماماً». في عام 1902. بعد ست سنوات فقط من وصوله إلى دربان، فاز بالجائزة الأولى لكتابته مقالاً حول المؤرخ البريطاني توماس بابنغتون ماكولي.
لقد بدا فعلاً أنه يمضي كل وقت فراغه في القراءة والكتابة، وأنه بدأ في خلق ذواته المتخيلة الأخرى، أو، كما وصفهم فيما بعد، أسماءه الأخرى، التي اشتهر بها اليوم إذ يكتب تحت أسماء مثل كارل ب. إيفيلد، ديفيد ميريك، تشارلز روبرت أنون، هوراس جيمس فيبر، أليكساندر سيرتش، وغيرها. في كتابهما الأخير «أنا مختارات»، يدرج جيرونيمو بيزارو وباتريتشيو فيراري 136 اسما مختلفاً، مع سِيَر وأمثلة لمؤلف كل عمل. في عام 1928 كتب بيسوا عن تلك الأسماء: «إنهم كائنات بنوع من الحياة تخصهم، بمشاعر ليست لدي، وأفكار لا أتقبلها. مع أن كتاباتهم ليست كتاباتي، فإنه يحدث أنها لي».
بدأت الفترة الثالثة من حياة بيسوا حين عاد في السابعة عشرة من عمره إلى لشبونة العودة التي لم تتلها عودة إلى جنوب أفريقيا. في الظاهر أن عودته كانت للدراسة الجامعية، لكنه لأسباب عدة ترك الدراسة عام 1907. وكان من بين تلك الأسباب اعتلال صحته وإضراب طلابي. بدأ يتردد بصورة منتظمة على المكتبة الوطنية، حيث واصل نظامه المتبع في القراءة المتنوعة - الفلسفة، علم الاجتماع، التاريخ وبصفة خاصة الأدب البرتغالي. عاش في البدء مع خالاته ولاحقاً، ابتداءً من 1909 وما بعدها، في غرف مستأجرة. في عام 1907 تركت له جدته إرثاً صغيراً وفي عام 1909 استعمل ذلك المال لشراء مطبعة لدار النشر «إمبريزا إبيز» التي أسسها بعد أشهر قليلة. توقفت دار «إمبريزا إبيز» عام 1910 دون أن تنشر كتاباً واحداً. بعد 1912 بدأ بيسوا ينشر مقالات في عدة مجلات: ابتداءً بعام 1915، مع إنشاء المجلة الأدبية «أورفيوس»، التي شارك في تأسيسها مع مجموعة من الفنانين والشعراء من بينهم ألمادا نيغريروز وماريو دي سا - كارنييرو، صار جزءاً من الطليعة الأدبية في لشبونة وشارك في عدة حركات أدبية سريعة الزوال مثل «إنترسيكشنزم» (التقاطعية) و«سينسيشنزم» (الإثارية). وكتب، إلى جانب عمله مترجِماً تجارياً حراً ما بين الإنجليزية والفرنسية، للعديد من المجلات والصحف، وترجم رواية ناثانييل هوثورن «الحرف القرمزي»، وقصصاً لـ«أو هنري»، وقصائد لإدغار ألن بو، بالإضافة إلى التأليف المكثف في عدة أنواع أدبية. ولم يُنشر من شعره أو نثره إلا القليل أثناء حياته: لم يكن سوى إضمامة نحيلة من القصائد في البرتغالية عنوانها «رسالة»، وأربعة كتيّبات من الشعر الإنجليزي.
حين توفي بيسوا عام 1935، وهو في السابعة والأربعين، ترك وراءه الحقائب الشهيرة (هناك على الأقل اثنتان منها) المملوءة بالكتابات - ما يقارب الثلاثين ألفاً من الأوراق - وعندئذٍ فقط، وبفضل أصدقائه والعديد من الباحثين الذين أمضوا منذ ذلك الحين سنوات من الحفر في ذلك الأرشيف، عرف بأنه ذلك العبقري الكثير الإنتاج.
عاش بيسوا ليكتب، سواء بالطباعة أو بالتدوين على أي شيء قريب من يده - قصاصات من الورق، مغلفات، منشورات، إعلانات، على ظهور رسائل تجارية، إلى غير ذلك. وكتب كذلك في كل الأنواع تقريباً - شعر، نثر، مسرح، فلسفة، نقد، نظرية سياسية - إلى جانب تطويره اهتماماً عميقاً بالماورائيات، والروحانيات، والتنجيم.
كان يرسم خرائط للأبراج ليس لنفسه وأصدقائه، فحسب وإنما أيضاً للعديد من الكتاب الميتين والشخصيات التاريخية، من بينهم شكسبير وأوسكار وايلد وروبسبير بالإضافة إلى «أسمائه الأخرى»، العبارة التي فضلها في النهاية على عبارة «أسمائه المستعارة» لأنها تصف بدقة أكبر استقلالها الأسلوبي والفكري عنه، خالقِها، وبعضِها عن بعض - ذلك أنه منحها جميعاً سيَراً مركبة فكان لكل منها أسلوبه وفلسفته المميزة. كانت أحياناً تتفاعل بعضها مع بعض، بل وينقد بعضها بعضاً ويترجم بعضها أعمال البعض الآخر. بعض كتاب بيسوا المتخيلين كانوا مجرد اسكتشات، بعضهم كتب بالإنجليزية والفرنسية، لكن أسماءه الأخرى الشعرية الرئيسة - ألبيرتو كاييرو، ريكاردو ريس، ألفارو دي كامبوس - كتبوا بالبرتغالية، وأنتج كل منهم أعمالاً شديدة التماسك.
* المصدر: مجلة «باريس ريفيو»



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لأحد أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذه العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف عن سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى إن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفاعلية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني ويستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقية تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسمح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

من جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين بأن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق بوصفها مكاناً لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».