رحيل ميسي الدرامي عن برشلونة يظهر أن اللاعبين هم الحلقة الأضعف في عالم كرة القدم

من المفارقات الغريبة أن مسيرة النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي مع نادي برشلونة قد بدأت وانتهت بمنديل ورقي، حيث تم توقيع أول عقد لميسي مع برشلونة على عجل على منديل بأحد المطاعم، والآن، وبينما كان النجم الأرجنتيني يشق طريقه خلال مؤتمره الصحافي الوداعي، تقدمت زوجته، أنتونيلا، من الصف الأمامي لتعطيه منديلاً لكي يمسح به دموعه!
وفي العالم الخارجي، تم إعادة تجميع لقطات ميسي وهو يبكي لإعداد محتوى تجاري، وفي نفس الوقت كان البث المباشر على قناة برشلونة على موقع «يوتيوب» مصحوباً بالعديد من الروابط القابلة للنقر التي تدعو المشاهدين إلى شراء اشتراك في القناة التلفزيونية للنادي! وكان متجر النادي على الإنترنت لا يزال يبيع ملابس الترفيه التي تحمل اسم ميسي، وأشياء أخرى مثل مغناطيس للثلاجة وزجاجات مياه وملابس أطفال، وحتى مجموعة أدوات للمنزل باسم ميسي لموسم 2021 - 2022 بسعر جيد للغاية يبلغ 160 يورو (135 جنيهاً إسترلينياً).
ولو كان ميسي رجلاً انتقامياً أو استغلاليا، لاستخدم هذه المنصة لتصفية بعض الحسابات: ضد رئيس النادي، خوان لابورتا، الذي وافق ميسي على توقيع عقد جديد مع النادي بناء على تأكيداته الجوفاء؛ أو ضد الإدارة السابقة، التي تسببت بقراراتها الشنيعة في إحداث هذه الفوضى المالية التي كان يطالب ميسي الآن بالقضاء عليها! لكن حتى في لحظة حزنه الشديد، لم يوجه النجم الأرجنتيني أي اتهامات لمسؤولي النادي، واكتفى بمجرد رثاء محترم ومؤسف للظروف التي أجبرته على مغادرة نادي طفولته ضد إرادته، وهو الأمر الذي سيجبر أبناءه وزوجته على الانتقال لدولة أخرى بعد أن شاهدوه وهو يبكي عبر شاشات التلفزيون.
ورغم ذلك، كان هناك قدر كبير من المقاومة وعدم الرغبة في كثير من الأوساط لرؤية ميسي - أو في الواقع لاعبي كرة القدم الأثرياء بشكل عام - كضحية من أي نوع. وتساءل البعض: إذا كان ميسي لا يرغب حقا في الرحيل عن برشلونة، فلماذا لم يعرض التنازل عن راتبه بالكامل بدلاً من الانتقال إلى باريس سان جيرمان مقابل الحصول على 21 مليون جنيه إسترليني سنوياً؟ وإذا كان يحب برشلونة إلى هذه الدرجة، فلماذا لا يلعب معهم مجاناً؟ وفي هذا الصدد، يجب أن نشير إلى أن ميسي قد أخذ بالفعل الموارد المالية للنادي في الاعتبار ووافق على تقليص راتبة بنسبة 50 في المائة. وقد اتضح الآن أنه حتى لو تخلى ميسي عن راتبه بالكامل، فإن برشلونة لن يكون قادرا على تسجيله في قائمة الفريق بموجب قواعد الدوري الإسباني. وعلى أي حال، فإن فكرة أن يقدم أفضل لاعب في العالم خدماته مجانا تنم عن نقص واضح في المنظور.
فهل يعمل لابورتا كشريك في مكتب المحاماة الخاص به مجاناً؟ وهل يتعين على شركات مثل بيبيسي وراكوتن وأديداس – من بين عدد كبير من الشركات التي تحقق مبيعات كبيرة بسبب ارتباط علاماتها التجارية بميسي على مر السنين - أن تبدأ في توزيع منتجاتها بدون مقابل؟ وهل سيقوم دائنو برشلونة - ومن بينهم غولدمان ساكس وأليانز - بشطب ديون النادي الهائلة؟ (مؤسسة خدمات مالية واستثمارية أميركية متعددة الجنسيات، تعد من أشهر المؤسسات المصرفية في الولايات المتحدة والعالم).
وعلاوة على ذلك، كلما احتاج الأمر إلى تقليص النفقات وشد الأحزمة، فإن اللاعبين - صانعي الثروة الفعليين وأهم عنصر في اللعبة - هم الذين يطلب منهم دائماً تحمل العبء. في الحقيقة، يتمثل الدرس الحقيقي الذي يجب أن نستخلصه من رحيل ميسي عن برشلونة في العجز المطلق للاعبي النخبة بين فكي الرأسمالية غير المنظمة، وهو تذكير بأن حتى أعظم اللاعبين ليسوا محصنين ضد قوى اللعبة الأكثر خبثاً وجشعاً. ربما تسببت الرأسمالية الجشعة وتداعيات تفشي فيروس كورونا في تحديد وجهة أعظم لاعب كرة قدم عبر التاريخ. وبغض النظر عن كل الأسباب الأكبر التي أدت إلى رحيل ميسي عن برشلونة، فيجب أن يكون التعاطف مع النادي الكاتالوني محدوداً، ومن المؤكد أن رحيل ميسي عن برشلونة يعكس سوء الإدارة البشعة داخل النادي الإسباني.
في كثير من الأحيان يتم خوض هذه المعركة وخسارتها على نطاق أصغر: جيوش من اللاعبين الشباب الموهوبين الذين يضيعون أفضل سنوات عمرهم على قوائم الأندية الكبيرة، ويتم إرسالهم إلى أماكن أخرى على سبيل الإعارة بجرة قلم، ويتم تخزينهم مثل المنتجات التي لا حاجة لها في مستودعات! صحيح أن هؤلاء اللاعبين يحصلون على بعض المال، لكن ماذا يعني المال بدون سلطة أو قوة؟ ويجب الإشارة إلى أن الفترة التي يكون فيها لاعبو النخبة على القمة هي فترة قصيرة للغاية، لكنهم في نفس الوقت يقدمون امتيازات هائلة للآخرين، بما في ذلك الملاك والجهات الراعية ووكلاء اللاعبين وجهات البث التلفزيوني وشركات الأسهم الخاصة. فكيف يحصل كل هؤلاء على الامتيازات ويطلبون من اللاعب نفسه أن يلعب بدون مقابل؟ هذا أمر غير منطقي تماما!
وكيف يمكن أن يحرم أعظم لاعب في جيله – أكثر لاعب حقق أكبر ثروة وأكبر محتوى وقدم أكثر قدر من السعادة والمتعة للجميع – من المقابل المادي للخدمات التي يقدمها؟ وربما كان السبب في أن كل هذا يبدو مروعاً للغاية هو أنه كانت هناك أوقات أثناء مشاهدة ميسي على أرض الملعب يشعر فيها المرء وكأن هذا اللاعب محصن ضد كل هذه الأمور وهذا العالم من المعاملات والخداع، لكن اتضح أن هذا ليس صحيحا أيضا! كان من الممكن أن تحترق المدينة تماما ويتجمع الغوغاء بالخارج، ومع ذلك كان من الممكن أن يكون هناك شعور بأن الأمور ستعود إلى مجراها الطبيعي قريبا طالما أن ميسي ما زال يرتدي قميص برشلونة وما زال يمتع الجميع بمستودع موهبته الذي لا ينفد. لكن ربما كان كل هذا هراء وتصويرا لعالم ربما لم يكن موجوداً على الإطلاق.
لكن ميسي حزم حقائبه على مضض وانتقل إلى باريس سان جيرمان، والذي كان واحدا من بين ثلاثة أندية في العالم لا تزال قادرة على دفع راتبه. ولم يكن ميسي الوحيد الذي طاله التغيير، فالميثاق المالي للعبة ومؤسساتها وسوق العمل فيها وهياكلها الإدارية وتوازنها التنافسي قد تحطمت جميعا. ويجب أن تكون هذه اللحظات العصيبة بمثابة فرصة للتوقف والتفكير فيما وصل إليه حال كرة القدم وكيف يمكن إصلاح هذا الخلل الكبير.
وبعيداً عن الابتهاج الباريسي، ترى كرة القدم الأوروبية بوصول ميسي إلى باريس سان جيرمان زيادة في عدم المساواة وفقدان القدرة التنافسية، وسط قلق من الهيمنة المالية لنادي العاصمة الفرنسية، في سوق غير منظم «يستفيد منه الأقوى». وإذا كانت فرنسا تنتظر بفارغ الصبر رؤية أفضل لاعب في العالم ست مرات يخوض مباراته الأولى في الدوري الفرنسي، فإن بقية القارة العجوز تشكك بهذه الصفقة وتبعاتها. في إنجلترا بشكل خاص، تحدثت معظم العناوين في وسائل الإعلام عن الطبيعة «العبثية» لصفقة من هذا النوع، وتساءلت عن «كيف يعقل أن أعظم لاعب في جيله لا يتحكم في مسيرته؟»، معربة عن خيبة أمل لأن ميسي كان «آخر شيء نقيا وجيدا في عالم الانتقالات والاحتيال».
المسألة لا تتعلق وحسب بميسي الذي رحل عن برشلونة بعدما دافع عن ألوانه طيلة 21 عاماً بسبب قواعد سقف الرواتب التي فرضتها رابطة الدوري الإسباني ما جعل النادي الكاتالوني غير قادر على دفع راتب الأرجنتيني. لقد تعاقد سان جيرمان هذا الصيف مع الإسباني سيرخيو راموس، والهولندي جورجينيو فينالدوم، والحارس الإيطالي جانلويجي دونارونا من دون مقابل بعد انتهاء عقودهم مع فرقهم ريال مدريد وليفربول الإنجليزي وميلان على التوالي، إضافة إلى المغربي أشرف حكيمي القادم من إنتر ميلان الإيطالي في صفقة قدرت بستين مليون يورو.
صحيح أن ميسي وراموس وفينالدوم ودوناروما انضموا إلى سان جيرمان من دون مقابل، إلا أن رواتبهم مرتفعة جداً، لا سيما ميسي ما طرح علامات استفهام حول التزام نادي العاصمة الفرنسية بقواعد الاتحاد الأوروبي للعب المالي النظيف والتي أصبحت أكثر ليونة بسبب التداعيات المالية الناجمة عن تفشي فيروس كورونا. إن تخفيف التشدد في تطبيق هذه الآلية التي تمنع الأندية من إنفاق أكثر مما تكسب، ترك مساحة تحرك أكبر للفرق الكبيرة، في انتظار «الإصلاح» الذي وعد به الاتحاد الأوروبي مع انطلاق الموسم الجديد. وبدلاً من ذلك، اكتفى الجميع برؤية ميسي والتقاط الصور له بجوار برج إيفل وبدأ الحديث يدور عن عودته للعب بجوار صديقه القديم نيمار. وكما قال ميسي نفسه: «في البداية سيكون الأمر غريباً، لكن الناس سوف يعتادون على ذلك، كما نفعل دائماً!».