فنزويلا أمام تجربة «تفاوضية ـ إنقاذية» ثالثة

النظام يستفيد من المناخ الإقليمي والدعم الروسي... والمعارضة منقسمة

فنزويلا أمام تجربة «تفاوضية ـ إنقاذية» ثالثة
TT

فنزويلا أمام تجربة «تفاوضية ـ إنقاذية» ثالثة

فنزويلا أمام تجربة «تفاوضية ـ إنقاذية» ثالثة

بدأت الحكومة الفنزويلية اليسارية والأحزاب المعارضة للنظام جولة جديدة من المفاوضات تهدف - وفقاً لتصريحات الطرفين - إلى إرساء القواعد التي تتيح، في مرحلة أولى، التخفيف من حدة الأزمة المعيشية التي تعيشها فنزويلا منذ سنوات، ومن ثم، الاتفاق على إطار مشترك لاستئناف الحوار السياسي يمهّد لانتخابات رئاسية وعامة تحظى بتوافق داخلي واعتراف إقليمي ودولي.
تأتي هذه الجولة الجديدة من المفاوضات التي تستضيفها المكسيك، بعد إخفاق الجولتين السابقتين في الجمهورية الدومينيكانية وباربادوس بوساطة نرويجية و«ضوء أخضر» من الولايات المتحدة. والمعروف أن لواشنطن الدور الأساسي في رفع العقوبات القاسية المفروضة على رموز النظام الفنزويلي، وهو أحد الشروط الرئيسية التي تطالب بها حكومة الرئيس نيكولاس مادورو لإحراز أي تقدّم في المفاوضات.
وفي المقابل، تعتبر أحزاب المعارضة العقوبات ورقة الضغط الأساسية على النظام لدفعه إلى التراجع عن القرارات التي اتخذها بغية تهميش القوى المعارضة والاستئثار بجميع مواقع السلطة التشريعية والقضائية.
كل التصريحات التي وردت على ألسنة الأطراف المعنيين بمفاوضات السلام الفنزويلية، بمن فيهم الرئيس الفنزويلي اليساري نيكولاس مادورو، تعكس الاستعداد لخوضها بإيجابية وتفاؤل. وتعرب عن الرغبة في منع انزلاق فنزويلا إلى الدرك الأخير من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، وفتح الأبواب على المغامرات الأمنية الداخلية والخارجية. بيد أن الأطراف نفسها لا تتردد في أحاديثها الداخلية عن التشكيك في صدق نوايا الطرف الآخر، وعن اعتقادها بأن الأسس التفاوضية لم تصل بعد إلى مرحلة كافية من النضوج. وبالتالي، من شأن التسرّع إفشال هذه الجولة الثالثة وسد الآفاق - داخلياً وخارجياً - أمام التوصل إلى حل سلمي للأزمة.
في حديث هاتفي مع «الشرق الأوسط» تقول أيقونة المعارضة دلسا سولورزانو: «علمتنا تجربة السنوات الماضية أن الإفراط في التفاؤل خطر فادح في فنزويلا. أنا أعتقد أن ثمّة مبالغة كبيرة في الآمال المعقودة على هذه المفاوضات... والتجارب السابقة علّمتنا الحذر».
سولورزانو تخشى أن تطغى المعركة الإعلامية، الدائرة منذ أيام حول جولة المفاوضات هذه، على جوهر المباحثات التي لا يخفى على أحد مدى صعوبتها وتعقيداتها غير المحدودة. وهي تذكّر بأن الجولات التفاوضية التي حققت نتائج ملموسة حتى الآن، هي تلك التي عقدت بعيداً عن الأضواء وخارج المزايدات الإعلامية.... وحقاً، أسفرت - مثلاً - عن الحصول على مساعدات غذائية وطبية وتوزيعها على السكان، والإفراج عن معتقلين سياسيين أو تشكيل «المجلس الانتخابي الوطني»، الذي كان من أهم مطالب المعارضة.
- حاجة مشتركة للحوار
ثمة أسباب تكتيكية قوية تدفع كلاً من أحزاب المعارضة والحكومة للعودة إلى طاولة المفاوضات. ذلك أن النظام يسعى إلى فك العزلة الدولية المفروضة عليه، والمعارضة تجهد لاستعادة المبادرة التي فقدتها منذ أشهر في الداخل. إلا أن التجارب السابقة علّمت الفنزويليين الحذر، وزادت المخاوف من عواقب الفشل الذي تراكم بعد الجولات التفاوضية التي كان يفقد فيها الطرفان المزيد من المصداقية بالتوازي مع اندفاع فنزويلا نحو المزيد من التشرذم والانهيار.
عام 2016 فشل الحوار الذي أجراه الطرفان برعاية مباشرة من الفاتيكان ومشاركة عدد من الرؤساء السابقين، بينهم الإسباني خوسيه لويس زاباتيرو، الذي أشرف لاحقاً على جولة المفاوضات التي أجريت في العاصمة الدومينيكانية سانتو دومينغو وانتهت بفشل ذريع أواخر عام 2018، وفي نهاية العام التالي، انهارت الجولة التفاوضية التي استضافتها باربادوس بوساطة النرويج التي كانت لعبت دوراً حاسماً في إنجاح المفاوضات التي أدت إلى توقيع اتفاق السلام التاريخي في كولومبيا. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنه في حال إخفاق المفاوضات التي ستستضيفها المكسيك في التوصل إلى نتائج ملموسة، لن تتكرّر الفرصة لاستئناف الحوار قبل أواخر عام 2023 بعد إجراء الانتخابات الرئاسية، وبعد أن تكون صدقية الطرفين قد تدهورت إلى أدنى مستوياتها على الصعيدين الداخلي والخارجي.
- ثقل الدور المكسيكي
المتفائلون بالجولة الجديدة من المفاوضات التي يدخلها الطرفان في حال من الإنهاك والحاجة الملحّة للخروج بنتائج إيجابية، يعوّلون على الدور النشط الذي يلعبه الرئيس المكسيكي (اليساري المعتدل) آندريس مانويل لوبيز أوبرادور، علما بأنه سبق للدبلوماسية المكسيكية أن شاركت في جولة سانتو دومينغو على عهد الرئيس إنريكي بينيا نييتو. ونظراً لدور المكسيك الدبلوماسي الوازن في المنطقة، ورعايتها العديد من المباحثات والمفاوضات الناجحة في أميركا الوسطى، فإنها تحظى بثقة طرفي النزاع في الأزمة الفنزويلية. أكثر من هذا، فإنها كانت فد تحاشت الاعتراف بشرعية «الرئيس الفنزويلي المؤقت» خوان غوايدو، مع أنها في المقابل استضافت عدداً من زعماء المعارضة وساهمت في الإفراج عن بعضهم وإخراجه من البلاد. ويضاف إلى ذلك كله أنها تعاونت مع شبكة من الوسطاء والشركات التي ساعدت على مبادلة النفط الفنزويلي وبيعه في الأسواق الدولية خرقاً للحصار الأميركي المفروض على نظام مادورو.
وتفيد أوساط متابعة لجولات المفاوضات بين الحكومة الفنزويلية وأحزاب المعارضة أن المباحثات التي مهّدت لهذه الجولة أجريت تحت إشراف النرويج، بينما تولّت المكسيك مهمة التواصل مع الولايات المتحدة لضمان دعمها واستعدادها لتيسير الحوار بين الطرفين. وتنطلق المكسيك في وساطتها من موقعها الإقليمي التقليدي والرغبة التي أظهرتها أخيراً في مناسبات عدة لاستعادة هذا الدور، وأيضا من إدراكها أن أي مفاوضات بين طرفي النزاع لا يمكن أن يكتب لها النجاح من دون بركة واشنطن وموافقتها على نتائجها. فواشنطن وحدها تستطيع رفع العقوبات عن النظام الفنزويلي ورموزه، كما أن المعارضة لا يمكن أن تقبل بأي نتيجة لا توافق عليها الإدارة الأميركية.
إلا أن حكومة مادورو حرصت خلال الفترة الأخيرة على التأكيد بأنها لم تعُد تعتبر رفع العقوبات الأميركية من البنود الأساسية في المفاوضات، والادعاء أنها تمكّنت من «التكيّف والتعايش مع هذه العقوبات» بفضل الدعم الذي تؤمنه لها دول حليفة مثل الصين وروسيا، فضلاً عن تنامي الضغوط التي تمارسها على إدارة جو بايدن الشركات الأميركية التي كانت تتعامل في السابق مع النظام الفنزويلي. ويذكر هنا أن الإدارة الأميركية الحالية جدّدت دعمها لخوان غوايدو واعترافها به كزعيم للمعارضة التي تنصبّ عليها التدابير القمعية لنظام مادورو الذي اعتقل العديد من قياداتها في الأشهر المنصرمة. ومن المتوقّع أن تتشدّد إدارة بايدن مزيداً في سياستها تجاه النظام الفنزويلي، على غرار ما فعلته أخيراً مع النظام الكوبي، لا سيما، مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية للكونغرس... وذلك لاستقطاب أصوات الجاليات الأميركية اللاتينية في الولايات حيث ترجّح هذه الأصوات كفّة الفوز لصالح الديمقراطيين أو الجمهوريين.
- البنود المطروحة للتفاوض
تفيد مصادر المعارضة الفنزويلية بأن الملاحقات القضائية ضد قيادات المعارضة والإفراج عن المعتقلين السياسيين وتحديد جدول زمني للانتخابات الرئاسية والعامة، ستكون في طليعة البنود التي ستناقش في المفاوضات، التي ستجرى وفقاً للصيغة التي اعتمدها الطرفان في الجولات السابقة. أي عقد اجتماعات في المكسيك، تعقبها عودة الوفود المفاوضة إلى الجهة التي تمثلها، من أجل مناقشة حصيلة كل مرحلة. ومن ثم استئناف المفاوضات لتثبيت النتائج المحرزة. ويتوقع أن يقود الوفد الحكومي المفاوض رئيس الجمعية الوطنية خورخي رودريغيز المقرّب من مادورو، بينما يضم وفد الأحزاب المعارضة كارلوس فيكيو وخيراردو بليدي وتوماس غوانيبا... الذين يختلفون عن خوان غوايدو بمعارضتهم أي تدخل عسكري أميركي في المواجهة ضد نظام كاراكاس.
أما بالنسبة إلى الجدول الزمني للانتخابات، فلم يتبقّ أمام المعارضة في هذه المرحلة سوى الانتخابات الإقليمية التي ستجرى أواخر العام الجاري لاستعادة رصيدها السياسي على الصعيد الداخلي، بعدما رفضت خوض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة بحجة «عملية تزوير نفذها النظام».
وفي حين أجرى الحزب الحاكم انتخابات أولية نهاية الأسبوع الماضي لاختيار مرشّحيه في الانتخابات الإقليمية والبلدية المقرّرة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل بمشاركة ضئيلة لم تتجاوز 17 في المائة من المنتسبين، لم تحسم أحزاب المعارضة بعد قرارها من المشاركة في هذه الانتخابات بانتظار نتائج مفاوضات المكسيك، وذلك لكونها تطالب «بضمانات لشفافية العملية الانتخابية» والإفراج عن المعتقلين السياسيين ورفع العقوبات التي تحول دون مشاركتهم في الانتخابات. وكانت أحزاب المعارضة التي تشكّل الكتلة المؤيدة لغوايدو قد أعربت أخيراً عن رغبتها في خوض الانتخابات المقبلة إذا توفّرت الضمانات الكافية لشفافيتها. ونشير هنا إلى أن المعارضة التي خاضت الجولات التفاوضية السابقة منقسمة حول العديد من الملفات وطرائق مقاربتها - أو في أحسن الأحوال حول ترتيب الأولويات - تذهب إلى هذه الجولة أيضا في ظروف من التوتر بين أطيافها. فالفريق المدعوم من واشنطن، الذي يتزعمه خوان غوايدو و«عرّابه السياسي» ليوبولدو لوبيز - الذي فرّ أخيراً من السفارة الإسبانية حيث لجأ بعد فشل محاولة انقلابية في العام 2019 - يشترط للمشاركة في المفاوضات إدراج بند لوضع جدول زمني انتخابي يتوّج بانتخابات رئيس جديد للجمهورية. لكن النظام، من جانبه، يتطلع إلى اعتراف إقليمي ودولي بشرعية الانتخابات المحلية التي ستجرى أواخر العام الجاري، وذلك لاستعادة اعتراف الأسرة الدولية التي ما زالت ترفض إضفاء الشرعية على الانتخابات والخطوات التي أقدم عليها خلال السنوات الثلاث المنصرمة.
- معارضة منقسمة أمام النظام
ويكرّر النظام من جهته منذ أسابيع استعداده الكامل للذهاب في أي لحظة إلى المكسيك، والمباشرة في التفاوض وفقاً لجدول أعمال مفتوح ومن غير شروط مسبق، الأمر الذي يرفع منسوب الضغط الذي تخضع له المعارضة بسبب من تجاذباتها الداخلية وتباعد المواقف بين أطيافها حول بنود أساسية في المفاوضات. وتقول وسائل الإعلام الموالية للنظام إن المعارضة تواجه المفاوضات على ثلاث جبهات: مع الحكومة، وبين أطيافها، ومع الولايات المتحدة صاحبة الكلمة الفصل في نهاية المطاف. هذا، وكانت الحكومة الكولومبية قد واجهت وضعاً مشابهاً إبان مفاوضاتها مع القوى الثورية المسلحة، حيث كان الانقسام حاداً بين الأحزاب التي تساندها، لدرجة أنها كانت مضطرة للعودة إلى واشنطن عند كل خطوة للحصول على موافقتها.
ولكن رغم التباين بين الحالتين الكولومبية والفنزويلية، فإن ثمّة قاسما مشتركاً بينهما، هو الطابع الملحّ لهذه المفاوضات التي لم تعد تحتمل المزيد من الفشل في ظروف الانهيار الاقتصادي والمعيشي التي تعيشها فنزويلا. ومن المستجدات التي تلفت الانتباه في هذه الجولة الجديدة من المفاوضات بين الحكومة الفنزويلية والمعارضة مشاركة روسيا فيها للمرة الأولى إلى جانب وفد النظام، بطلب من رئيسه نيكولاس مادورو، بينما يشارك وفد هولندي إلى جانب أحزاب المعارضة.
وصحيح أن الطرف الروسي يلعب دوراً أساسياً منذ سنوات في الأزمة الفنزويلية، لكن هذه الدور لم يتجاوز حتى الآن دائرة الدعم العسكري، دائما تحت مراقبة دقيقة من واشنطن. أما جلوس الوفد الروسي إلى طاولة المفاوضات الأسبوع المقبل في المكسيك، فإنه يشكّل خطوة متقدمة لفلاديمير بوتين نحو التدخل السياسي المباشر في منطقة محسوبة ضمن دائرة النفوذ الأميركي التقليدي التي تحرص واشنطن دائماً على عدم السماح لخصومها بالدخول إليها.
فمن ناحية، تشكّل هذه الخطوة تناظراً - وإن كان محدوداً - مع الوجود الدائم للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي «ناتو» في دائرة نفوذ موسكو، بالذات في أوكرانيا. ثم إنها ترسّخ التقارب الروسي مع نظام شمولي يبني مسوّغات بقائه على العداء مع واشنطن، فضلاً عن طموح بوتين في أن يكون طرفاً في حل الأزمة الفنزويلية المديدة التي لا يخفى على أحد مدى تداعياتها الإقليمية.
هذا، وتفيد مصادر دبلوماسية مطلعة بأن مشاركة روسيا في المفاوضات تحققت بإلحاح من مادورو بعدما كان قد تمّ الاتفاق منذ أسابيع على مشاركة الأرجنتين، التي أبدت تقاربا واضحاً مع مواقف النظام الفنزويلي إثر وصول البيروني اليساري ألبرتو فرنانديز إلى الحكم. وللعلم، كانت الأرجنتين قد قرّرت الانسحاب من «مجموعة ليما» التي تتزعّمها واشنطن كجبهة إقليمية معارضة لنظام مادورو، وسحبت ملف الاتهامات الذي كانت حكومتها اليمينية السابقة قد قدّمته أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي للتحقيق بانتهاكات حقوق الإنسان المتهم بارتكابها نظام مادورو.
- أولويات موسكو في فنزويلا... و«جاراتها» اللاتينيات
> فتحت روسيا المتحالفة مع النظام الفنزويلي، أخيراً جبهة مواجهة مباشرة ضد النظام الكولومبي اليميني الذي يرأسه إيفان دوكي الخصم الرئيسي لمادورو في المنطقة. ويذكر أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف كان قد استدعى السفير الكولومبي أواخر مايو (أيار) الفائت للاحتجاج على تصريحات أدلى بها دوكي، وتضمنت اتهام موسكو بالوقوف وراء الاعتداءات السيبرانية المحرّضة على التظاهر ضد حكومته. ومعلوم أن السلطات الروسية لم تستدع يوماً السفير الأميركي في موسكو للاحتجاج على التصريحات العديدة المماثلة التي أدلى بها جو بايدن.
ولا يغيب عن بال أحد أن التحرّك الروسي في منطقة الكاريبي ما زال يدور حول الرحى الكوبية، وهو عاد لينشط مجدداً، بعد فترة من الانحسار عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، بالدعم الصريح الذي أعلنه بوتين بذاته للزعيم الكوبي ميغيل دياز كانيل وتحذيره الصريح من أي تدخل خارجي في الأزمة التي نشأت عن الاحتجاجات الشعبية الأخيرة في الجزيرة.
وإلى جانب مثابرة موسكو على التمدد بهدوء في المنطقة عبر عقود لبيع الأسلحة وعرض خبراتها في مجال الطاقة النووية مع الأرجنتين والمكسيك، فإنها تنشط منذ فترة مع ظهور جائحة (كوفيد - 19) عبر «دبلوماسية اللقاحات» لمساعدة حلفائها في المنطقة، لكن الانتكاسات المتكررة التي واجهتها بدأت ترخي بظلال ثقيلة على فاعلية هذه الدبلوماسية. إذ كانت موسكو قد أعلنت عن بيع عشرة ملايين جرعة من لقاح «سبوتنيك» إلى فنزويلا، غير أن منظمة «أطباء بلا حدود» أعلنت الأسبوع الماضي عبر مكتبها في كاراكاس عن اضطرارها لوقف توزيع اللقاح الروسي لعدم وصول الدفعة الثانية الموعودة، وأن عدد الذين تلقوا الجرعة الأولى لا يتجاوز ثلاثة ملايين... ولا تأكيدات عن موعد وصول الجرعات الباقية.
انتكاسات مماثلة واجهت «دبلوماسية اللقاحات» الروسية أيضا في بوليفيا والأرجنتين ونيكاراغوا، لكن ذلك لم يمنع وزير الخارجية الروسي من أن يعلن الأسبوع الماضي لدى استقباله نظيره النيكاراغوي عن توقيع اتفاق لإنتاج لقاح «سبوتنيك» قريبا في نيكاراغوا بهدف توزيعه أيضا على بلدان المنطقة. ويذكر أن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو كان قد أعلن خلال مؤتمر دولي في موسكو أواخر الشهر الماضي «أن كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى مساعدة موسكو لمواجهة التهديدات التي تتعرّض لها، بما فيها استخدام القوة العسكرية ضدها».
كل هذه التحركات تكشف نيّة موسكو في الضغط على واشنطن داخل منطقة نفوذها التقليدية، ردّاً على الضغوط الأميركية والأطلسية في مناطق نفوذ روسيا إبان السنوات الأخيرة. بيد أن افتقار الروس إلى القوة الاقتصادية والتجارية التي تتمتع بها الصين اللازمة لمدّ نفوذها وترسيخ حضورها على المسرح الدولي، دفع موسكو إلى استخدام أوراق السياسة والمساعدات الفنّية التي غالباً ما تكشف الصعوبات الكبيرة التي تواجهها لتحقيق أهدافها.



تيم والز «ابن الريف الأميركي» يبحث عن تحالف جديد للديمقراطيين

TT

تيم والز «ابن الريف الأميركي» يبحث عن تحالف جديد للديمقراطيين

المرشح الديمقراطي لمنصب نائب الرئيس تيم والز يصعد إلى المسرح للتحدث ضمن المؤتمر الوطني الديمقراطي (إ.ب.أ)
المرشح الديمقراطي لمنصب نائب الرئيس تيم والز يصعد إلى المسرح للتحدث ضمن المؤتمر الوطني الديمقراطي (إ.ب.أ)

حين ترشح تيم والز لمجلس النواب الأميركي في عام 2006، حقق مدرس الثانوية الوافد الجديد إلى عالم السياسة، بشهرة محدودة وموارد مالية ضعيفة، مفاجأة مدوية: هزم منافسيه المخضرمين في الحزب الديمقراطي، قبل أن يطيح النائب الجمهوري جيل جوتكنيخت الذي شغل المقعد لست فترات.

باختياره مرشحاً لمنصب نائب الرئيس مع كامالا هاريس، يأمل الديمقراطيون بتكرار شيء من تجربة والز التي قامت على حملة متجذرة في ارتباطها العميق بمجتمعات الريف الأميركي، ودعم المتطوعين، والحملات المكثفة من باب إلى باب.

كما يراهنون عليه للحفاظ على الزخم الذي اكتسبوه منذ انسحاب الرئيس جو بايدن من السباق، فبجانب قدرات الرجل الخطابية وشخصيته المحبّبة، قد تلعب جذوره المتواضعة نسبياً دوراً في تمكين الديمقراطيين من كسب أصوات بعض الولايات المتأرجحة، ولا سيما ولايات ما يسمى اليوم «الجدار الأزرق»، بل قد تكون مؤشراً على تحوّلات كبيرة داخل الحزب الديمقراطي.

المرشح الديمقراطي لمنصب نائب الرئيس تيم والز يصعد إلى المسرح للتحدث ضمن المؤتمر الوطني الديمقراطي (إ.ب.أ)

ولد تيموثي (تيم) جيمس والز عام 1964، في بلدة ويست بوينت بولاية نبراسكا، ونشأ فيها على المذهب الكاثوليكي. وهو من عائلة تتحدر من أصول ألمانية وسويدية وآيرلندية. الأم فيها دارلين روز ريمان سيدة منزل، أما الأب جيمس والز فكان مدرّساً ومدير مدرسة، ومحارباً قديماً في الجيش الأميركي، خدم إبان الحرب الكورية. وفي عام 1867، هاجر جدّ والز الأكبر، سيباستيان، من كوبنهايم في دوقية بادن الكبرى بألمانيا، إلى الولايات المتحدة، وكانت إحدى جداته سويدية، وله جدة أخرى آيرلندية.

بعد المدرسة الثانوية، خدم تيم والز في الحرس الوطني للجيش لمدة 24 سنة، درس خلالها لفترة في جامعة هيوستن بولاية تكساس، وعمل في أحد المصانع. ولاحقاً، تخرّج في كلية تشادرون ستيت، وهي كلية جامعية صغيرة في ريف ولاية نبراسكا، قبل أن ينتقل إلى ولاية مينيسوتا عام 1996. وقبل الترشح للكونغرس، عمل مدرّساً لمادة الدراسات الاجتماعية بإحدى المدارس الثانوية ومدرباً لكرة القدم.

عام 2006، قرّر والز الترشح لعضوية مجلس النواب الأميركي، بعد إبعاده هو وبعض الطلاب عن إحدى فعاليات حملة جورج بوش «الابن» عام 2004، بمجرد اكتشاف المنظّمين أنهم ديمقراطيون. وبالفعل، فاز يومها عن دائرة الكونغرس الأولى في مينيسوتا، متغلباً على منافس جمهوري شغل المنصب لـ6 فترات. ثم أعيد انتخاب والز لمجلس النواب 5 مرات قبل انتخابه حاكماً لمينيسوتا عام 2018، وثانية عام 2022.

طاقة جديدة

عموماً يندر أن يغيّر المرشحون لمنصب نائب الرئيس معادلات المعركة الرئاسية بشكل جذري. لكن والز، منذ اليوم الأول لاختياره، بدا أنه يمنح الديمقراطيين دفعة جديدة من الطاقة. وهذا ما أظهرته ردود الفعل بشكل خاص على وسائل التواصل الاجتماعي، حين حصدت منشوراته على منصة «تيك توك»، خلال ساعات من اختياره، أكثر من 43 مليون مشاهدة، جاءت نسبة 69 في المائة منها من مقاطع فيديو أنتجها منشئو محتوى «تقدميون» و28 في المائة جاءت من منشئي محتوى مستقلين سياسياً، وفقاً لشركة «كريدو آي كيو» المتخصصة في تحليل وسائل التواصل الاجتماعي.

هاريس ووالز في فعالية انتخابية بويسكونسن يوم 7 أغسطس (رويترز)

وبين ليلة وضحاها، تحوّل والز من شخصية «مغمورة» إلى اسم مألوف... في ظاهرة شبّهها البعض بجائحة «فيروسية».

يقول البعض إن الديمقراطيين، لعقود من الزمن، كانوا - كما يبدو - بحاجة إلى شخص مثل والز يستطيع التأكيد عملياً أن الطبقة العاملة البيضاء في الريف ليست كتلة واحدة. يضاف إلى ذلك تبيان أن وسط هذه الطبقة توجد أقلية كبيرة من العقلاء الذين يظلون، حتى في ظروفهم الاقتصادية الضعيفة، رافضين التأثر بالمحرّضين الذين يلقون باللوم على المهاجرين... بينما يجمعون ثروات الشركات.

شراكة سياسية جديدة

حقاً، عدّ كثيرون اختيار هاريس لوالز مراجعة «عميقة» أجراها الديمقراطيون بهدف تشكيل شراكة جديدة سترسم مسيرة الحزب الديمقراطي، ليس لانتخابات 2024 فقط، بل ربما مستقبله أيضاً.

فخلال العقود الأخيرة، لم يحظ الحزب الديمقراطي بجاذبية مباشرة عند الطبقة العاملة الريفية البيضاء، وغالباً ما شدّد مرشحوه على أنهم يمثلون مصالح «الطبقة الوسطى» التي تتمركز في المدن والمناطق الساحلية. إذ كانوا بالكاد يتطرقون إلى أبناء «الطبقة العاملة» المقيمين في الضواحي والأرياف وما يعانونه، جرّاء التحولات التكنولوجية والاقتصادية والإنتاجية، التي دفعت بهم إلى «الفقر».

في المقابل، منذ ذلك الوقت، ومع تحوّل هذه الطبقة إلى أهم كتلة سكانية «متأرجحة»، عمل الجمهوريون على استمالتها عبر خطاب شعبوي تجييشي، مستغلّين ظروفها الاقتصادية الصعبة، لقلب ما كان يسمى «ولايات الجدار الأزرق» - أو «ولايات الصدأ» – وانتزاع أصواتها من الديمقراطيين.

كامالا هاريس وتيم والز في أريزونا (أ.ف.ب)

وبالفعل، عندما صعد والز مع هاريس إلى منصة الحملة الانتخابية في بنسلفانيا، إحدى ولايات الجدار الأزرق، كانت المرة الأولى منذ زمن بعيد التي يتكلّم فيها سياسي ديمقراطي قيادي عن الطبقة العاملة والفقر في البلاد. وكان واضحاً أنه لا يريد إضاعة الفرصة في استغلال جذوره الطبقية والاجتماعية، لتقديم صورة جديدة عن التحالف الذي يطمع الديمقراطيون اليوم ببنائه.

بين الريف والمدينة

لقد بدا أن هاريس، عبر اختيارها لتيم والز، لا تسعى جدياً إلى تغيير مسار حزبها فقط، بل ربما الولايات المتحدة أيضاً. فوالز كان من الديمقراطيين القلائل الذين انتقدوا الحزب بصدق وصراحة عندما وصفه إبان فترة عضويته في مجلس النواب الأميركي بأنه بات «حزب المدن والساحل».

وبالتالي، تظهر هاريس الآن كأنها، وحزبها، تردّ من جهة اليسار على الحزب الجمهوري الذي انزاح أكثر نحو اليمين، آيديولوجياً واجتماعياً وعرقياً، وعبّر عنه جزئياً في مؤتمره الوطني، حين اختار إلى جانب دونالد ترمب، نائبه جي دي فانس، الآتي من أصول لا تختلف كثيراً عن أصول والز. فهاريس أرادت والز إلى جانبها كشخص من ولاية زراعية في الغرب الأوسط، يستطيع أن يتكلم بثقة وأصالة عن الحقائق التي تعتقد أن ترمب ونائبه فانس لن يتكلّما عنها.

الديمقراطيون يرون أن أميركا الريفية الحقيقية متنوعة، على الرغم من كل العنصرية الصاخبة وكراهية المثلية الجنسية والشوفينية التي يتّسم بها الحزب الجمهوري اليوم، والتي بفضلها هيمن على الانتخابات خارج المناطق الحضرية.

كذلك يؤمن الديمقراطيون بأن أرياف البلاد مليئة بالمهاجرين والملوّنين والمثليين والمتحولين جنسياً والسكان الأصليين، حتى المغايرين جنسياً، الذين يعيشون مع البيض، ويعملون معاً بسعادة.

واستطراداً يعدّون أن الحقوق الإنجابية، وتشريع الماريغوانا القانونية، والمدارس العامة، والإجازات الطبية والعائلية مدفوعة الأجر، والتحقق من خلفية شراء الأسلحة، تحظى بدعم كثير من الناخبين عبر الخطوط الحزبية، حتى الأرياف التي تصوت للجمهوريين، وأن للمزارعين ومربّي الماشية ومشرفي الأراضي مصلحة حاسمة في معالجة تغير المناخ، ولو لم يستخدموا اللغة ذاتها التي يستخدمها الناشطون في مجال البيئة.

سجلّ محفّز للديمقراطيين

أيضاً يرى العديد من المشرّعين الديمقراطيين أن كل ما يجسّده سجل والز منذ بدأ حياته السياسية، يمثّل توازناً يمكن أن يساعد ويعزز جاذبية الحزب. إذ صوّت في مجلس النواب بشكل دائم، كديمقراطي معتدل، ثم بصفته حاكم ولاية وقّع على مشاريع القوانين التقدمية لتصبح قانوناً.

كامالا هاريس ووالز في ميشيغان (إ.ب.أ)

ومع أن والز يقتني السلاح، لكنه شدد على أن سكان ولايته - التي يحكمها منذ عام 2019 - يؤمنون أيضاً بـ«قوانين خفض العنف المسلح ذات المنطق السليم». موضحاً: «أنا محارب قديم، وصياد، وأمتلك السلاح. لكنني أيضاً أب، ولسنوات طويلة كنت مُدرِّساً. أعرف أن قواعد السلامة الأساسية المرتبطة باستخدام السلاح ليست تهديداً لحقوقي، فالأمر مرتبط بالحفاظ على سلامة أطفالنا».

ثم إن والز عمل ضمن تحالف من الحزبين، على تمرير تفويضات لمساعدة المزارعين، وعلى ضمان احتفاظ أعضاء الحرس الوطني برعايتهم الصحية عند الاستجابة لحالات الطوارئ في الولاية، رداً على الحملة التي شنت ضده بعد الاحتجاجات التي اندلعت عندما قتل شرطي أبيض الرجل الأسود جورج فلويد.

نصير للفقراء

أكثر من هذا، مرّر والز تشريعات واسعة النطاق، أثارت حماسة الديمقراطيين وغضب الجمهوريين، حين وقّع على قانون حماية الإجهاض، وأكبر ائتمان ضريبي للأطفال في البلاد، ووجبة إفطار وغداء مجانية في مدارس معينة، وإجازة عائلية وطبية مدفوعة الأجر «التي لا يستطيع أي فقير أن يرفضها». كما وقّع على أمر تنفيذي يحمي رعاية التحوّل بين الجنسين.

وفي هذا الصدد، عدّد ديمقراطيون، عملوا سابقاً معه، كياسته ودرايته وذكاءه الحاد بين الأسباب التي تسهّل تواصله مع الناس عبر الخطوط الحزبية. وسرعان ما أثبت ذلك فعلياً، بعد تكراره وصف الرئيس السابق دونالد ترمب وزميله في البطاقة الجمهورية فانس بأنهما أناس «غريبو الأطوار»، ليتحول الوصف إلى اتجاه (ترند) ينتقدهما بوصفهما لا يمثلان القيم الأميركية.

وهكذا، من نافل القول إن اختيار والز أدى إلى إنعاش آمال الديمقراطيين في التمسك بساحات معركة «الجدار الأزرق» الحاسمة والمناطق المتأرجحة، أي ولايات مينيسوتا وويسكونسن وميشيغان وبنسلفانيا. وعبر تمتعه وهاريس بتأييد كاسح من التيار اليساري في الحزب ربما ضمنا ألا تتكرر هزيمة هيلاري كلينتون عام 2016، التي تُعزى إلى إحجام ناخبيه، وخصوصاً الشباب منهم، عن تأييدها.

وهذا ما يراه السيناتور «التقدمي» بيرني ساندرز الذي قال: «أعتقد أن الديمقراطيين كانوا ضعفاء للغاية في أرياف ولاية بنسلفانيا وفي جميع أنحاء هذا البلد. وأعتقد أن والز سيكون رصيداً حقيقياً آتياً من ولاية ريفية للفوز بالدعم الذي تحتاجه في بنسلفانيا وفي جميع أنحاء الغرب الأوسط وأجزاء أخرى من البلاد».

وللعلم، مع أن مينيسوتا، موطن فالز، لم تصوّت للجمهوريين في الانتخابات الرئاسية منذ عام 1972، فاز ترمب بمقاطعات ريفية فيها، وبولايات ويسكونسن وميشيغان وبنسلفانيا عام 2016، التي تعد مهمة لانتصار هاريس بعد أن قلبها بايدن في 2020.

السياسة الخارجية

يعد تيم والز يعد من أنصار ما يطلق عليه «المعسكر الواقعي» في السياسة الخارجية، وهو يدعم التعاون العالمي، وبخاصة مع الشركاء الأوروبيين، والاستثمار في العولمة كنموذج اقتصادي لنشر الرخاء وتحويل الصراع إلى تنافس. ويرى أن «العلاقة مع الصين لا ينبغي أن تكون على شكل خصومة»، وأن ثمة كثيراً من «مجالات التعاون» بين البلدين. ويؤيد بقوة مواصلة أميركا دعم أوكرانيا في «حربها الدفاعية» ضد روسيا.

أخيراً، بالنسبة للشرق الأوسط، يلتزم والز بالدفاع عن إسرائيل، لكنه يرفض تحوله إلى رخصة للتعدّي على حقوق المدنيين الفلسطينيين، ولذا يدعم حل الدولتين، لينعكس موقفه هذا بتراجع نسبة «غير الملتزمين» في الولايات المتأرجحة. ويُذكر أنه عارض حرب العراق ودعا إلى سحب القوات الأميركية منه، وطالب باستخدام الدبلوماسية في سوريا بدلاً من التورط في حربها الأهلية. وعارض الضربات الأميركية الجوية هناك في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، ودعم الاتفاق النووي مع إيران.