فنزويلا أمام تجربة «تفاوضية ـ إنقاذية» ثالثة

النظام يستفيد من المناخ الإقليمي والدعم الروسي... والمعارضة منقسمة

فنزويلا أمام تجربة «تفاوضية ـ إنقاذية» ثالثة
TT

فنزويلا أمام تجربة «تفاوضية ـ إنقاذية» ثالثة

فنزويلا أمام تجربة «تفاوضية ـ إنقاذية» ثالثة

بدأت الحكومة الفنزويلية اليسارية والأحزاب المعارضة للنظام جولة جديدة من المفاوضات تهدف - وفقاً لتصريحات الطرفين - إلى إرساء القواعد التي تتيح، في مرحلة أولى، التخفيف من حدة الأزمة المعيشية التي تعيشها فنزويلا منذ سنوات، ومن ثم، الاتفاق على إطار مشترك لاستئناف الحوار السياسي يمهّد لانتخابات رئاسية وعامة تحظى بتوافق داخلي واعتراف إقليمي ودولي.
تأتي هذه الجولة الجديدة من المفاوضات التي تستضيفها المكسيك، بعد إخفاق الجولتين السابقتين في الجمهورية الدومينيكانية وباربادوس بوساطة نرويجية و«ضوء أخضر» من الولايات المتحدة. والمعروف أن لواشنطن الدور الأساسي في رفع العقوبات القاسية المفروضة على رموز النظام الفنزويلي، وهو أحد الشروط الرئيسية التي تطالب بها حكومة الرئيس نيكولاس مادورو لإحراز أي تقدّم في المفاوضات.
وفي المقابل، تعتبر أحزاب المعارضة العقوبات ورقة الضغط الأساسية على النظام لدفعه إلى التراجع عن القرارات التي اتخذها بغية تهميش القوى المعارضة والاستئثار بجميع مواقع السلطة التشريعية والقضائية.
كل التصريحات التي وردت على ألسنة الأطراف المعنيين بمفاوضات السلام الفنزويلية، بمن فيهم الرئيس الفنزويلي اليساري نيكولاس مادورو، تعكس الاستعداد لخوضها بإيجابية وتفاؤل. وتعرب عن الرغبة في منع انزلاق فنزويلا إلى الدرك الأخير من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، وفتح الأبواب على المغامرات الأمنية الداخلية والخارجية. بيد أن الأطراف نفسها لا تتردد في أحاديثها الداخلية عن التشكيك في صدق نوايا الطرف الآخر، وعن اعتقادها بأن الأسس التفاوضية لم تصل بعد إلى مرحلة كافية من النضوج. وبالتالي، من شأن التسرّع إفشال هذه الجولة الثالثة وسد الآفاق - داخلياً وخارجياً - أمام التوصل إلى حل سلمي للأزمة.
في حديث هاتفي مع «الشرق الأوسط» تقول أيقونة المعارضة دلسا سولورزانو: «علمتنا تجربة السنوات الماضية أن الإفراط في التفاؤل خطر فادح في فنزويلا. أنا أعتقد أن ثمّة مبالغة كبيرة في الآمال المعقودة على هذه المفاوضات... والتجارب السابقة علّمتنا الحذر».
سولورزانو تخشى أن تطغى المعركة الإعلامية، الدائرة منذ أيام حول جولة المفاوضات هذه، على جوهر المباحثات التي لا يخفى على أحد مدى صعوبتها وتعقيداتها غير المحدودة. وهي تذكّر بأن الجولات التفاوضية التي حققت نتائج ملموسة حتى الآن، هي تلك التي عقدت بعيداً عن الأضواء وخارج المزايدات الإعلامية.... وحقاً، أسفرت - مثلاً - عن الحصول على مساعدات غذائية وطبية وتوزيعها على السكان، والإفراج عن معتقلين سياسيين أو تشكيل «المجلس الانتخابي الوطني»، الذي كان من أهم مطالب المعارضة.
- حاجة مشتركة للحوار
ثمة أسباب تكتيكية قوية تدفع كلاً من أحزاب المعارضة والحكومة للعودة إلى طاولة المفاوضات. ذلك أن النظام يسعى إلى فك العزلة الدولية المفروضة عليه، والمعارضة تجهد لاستعادة المبادرة التي فقدتها منذ أشهر في الداخل. إلا أن التجارب السابقة علّمت الفنزويليين الحذر، وزادت المخاوف من عواقب الفشل الذي تراكم بعد الجولات التفاوضية التي كان يفقد فيها الطرفان المزيد من المصداقية بالتوازي مع اندفاع فنزويلا نحو المزيد من التشرذم والانهيار.
عام 2016 فشل الحوار الذي أجراه الطرفان برعاية مباشرة من الفاتيكان ومشاركة عدد من الرؤساء السابقين، بينهم الإسباني خوسيه لويس زاباتيرو، الذي أشرف لاحقاً على جولة المفاوضات التي أجريت في العاصمة الدومينيكانية سانتو دومينغو وانتهت بفشل ذريع أواخر عام 2018، وفي نهاية العام التالي، انهارت الجولة التفاوضية التي استضافتها باربادوس بوساطة النرويج التي كانت لعبت دوراً حاسماً في إنجاح المفاوضات التي أدت إلى توقيع اتفاق السلام التاريخي في كولومبيا. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنه في حال إخفاق المفاوضات التي ستستضيفها المكسيك في التوصل إلى نتائج ملموسة، لن تتكرّر الفرصة لاستئناف الحوار قبل أواخر عام 2023 بعد إجراء الانتخابات الرئاسية، وبعد أن تكون صدقية الطرفين قد تدهورت إلى أدنى مستوياتها على الصعيدين الداخلي والخارجي.
- ثقل الدور المكسيكي
المتفائلون بالجولة الجديدة من المفاوضات التي يدخلها الطرفان في حال من الإنهاك والحاجة الملحّة للخروج بنتائج إيجابية، يعوّلون على الدور النشط الذي يلعبه الرئيس المكسيكي (اليساري المعتدل) آندريس مانويل لوبيز أوبرادور، علما بأنه سبق للدبلوماسية المكسيكية أن شاركت في جولة سانتو دومينغو على عهد الرئيس إنريكي بينيا نييتو. ونظراً لدور المكسيك الدبلوماسي الوازن في المنطقة، ورعايتها العديد من المباحثات والمفاوضات الناجحة في أميركا الوسطى، فإنها تحظى بثقة طرفي النزاع في الأزمة الفنزويلية. أكثر من هذا، فإنها كانت فد تحاشت الاعتراف بشرعية «الرئيس الفنزويلي المؤقت» خوان غوايدو، مع أنها في المقابل استضافت عدداً من زعماء المعارضة وساهمت في الإفراج عن بعضهم وإخراجه من البلاد. ويضاف إلى ذلك كله أنها تعاونت مع شبكة من الوسطاء والشركات التي ساعدت على مبادلة النفط الفنزويلي وبيعه في الأسواق الدولية خرقاً للحصار الأميركي المفروض على نظام مادورو.
وتفيد أوساط متابعة لجولات المفاوضات بين الحكومة الفنزويلية وأحزاب المعارضة أن المباحثات التي مهّدت لهذه الجولة أجريت تحت إشراف النرويج، بينما تولّت المكسيك مهمة التواصل مع الولايات المتحدة لضمان دعمها واستعدادها لتيسير الحوار بين الطرفين. وتنطلق المكسيك في وساطتها من موقعها الإقليمي التقليدي والرغبة التي أظهرتها أخيراً في مناسبات عدة لاستعادة هذا الدور، وأيضا من إدراكها أن أي مفاوضات بين طرفي النزاع لا يمكن أن يكتب لها النجاح من دون بركة واشنطن وموافقتها على نتائجها. فواشنطن وحدها تستطيع رفع العقوبات عن النظام الفنزويلي ورموزه، كما أن المعارضة لا يمكن أن تقبل بأي نتيجة لا توافق عليها الإدارة الأميركية.
إلا أن حكومة مادورو حرصت خلال الفترة الأخيرة على التأكيد بأنها لم تعُد تعتبر رفع العقوبات الأميركية من البنود الأساسية في المفاوضات، والادعاء أنها تمكّنت من «التكيّف والتعايش مع هذه العقوبات» بفضل الدعم الذي تؤمنه لها دول حليفة مثل الصين وروسيا، فضلاً عن تنامي الضغوط التي تمارسها على إدارة جو بايدن الشركات الأميركية التي كانت تتعامل في السابق مع النظام الفنزويلي. ويذكر هنا أن الإدارة الأميركية الحالية جدّدت دعمها لخوان غوايدو واعترافها به كزعيم للمعارضة التي تنصبّ عليها التدابير القمعية لنظام مادورو الذي اعتقل العديد من قياداتها في الأشهر المنصرمة. ومن المتوقّع أن تتشدّد إدارة بايدن مزيداً في سياستها تجاه النظام الفنزويلي، على غرار ما فعلته أخيراً مع النظام الكوبي، لا سيما، مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية للكونغرس... وذلك لاستقطاب أصوات الجاليات الأميركية اللاتينية في الولايات حيث ترجّح هذه الأصوات كفّة الفوز لصالح الديمقراطيين أو الجمهوريين.
- البنود المطروحة للتفاوض
تفيد مصادر المعارضة الفنزويلية بأن الملاحقات القضائية ضد قيادات المعارضة والإفراج عن المعتقلين السياسيين وتحديد جدول زمني للانتخابات الرئاسية والعامة، ستكون في طليعة البنود التي ستناقش في المفاوضات، التي ستجرى وفقاً للصيغة التي اعتمدها الطرفان في الجولات السابقة. أي عقد اجتماعات في المكسيك، تعقبها عودة الوفود المفاوضة إلى الجهة التي تمثلها، من أجل مناقشة حصيلة كل مرحلة. ومن ثم استئناف المفاوضات لتثبيت النتائج المحرزة. ويتوقع أن يقود الوفد الحكومي المفاوض رئيس الجمعية الوطنية خورخي رودريغيز المقرّب من مادورو، بينما يضم وفد الأحزاب المعارضة كارلوس فيكيو وخيراردو بليدي وتوماس غوانيبا... الذين يختلفون عن خوان غوايدو بمعارضتهم أي تدخل عسكري أميركي في المواجهة ضد نظام كاراكاس.
أما بالنسبة إلى الجدول الزمني للانتخابات، فلم يتبقّ أمام المعارضة في هذه المرحلة سوى الانتخابات الإقليمية التي ستجرى أواخر العام الجاري لاستعادة رصيدها السياسي على الصعيد الداخلي، بعدما رفضت خوض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة بحجة «عملية تزوير نفذها النظام».
وفي حين أجرى الحزب الحاكم انتخابات أولية نهاية الأسبوع الماضي لاختيار مرشّحيه في الانتخابات الإقليمية والبلدية المقرّرة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل بمشاركة ضئيلة لم تتجاوز 17 في المائة من المنتسبين، لم تحسم أحزاب المعارضة بعد قرارها من المشاركة في هذه الانتخابات بانتظار نتائج مفاوضات المكسيك، وذلك لكونها تطالب «بضمانات لشفافية العملية الانتخابية» والإفراج عن المعتقلين السياسيين ورفع العقوبات التي تحول دون مشاركتهم في الانتخابات. وكانت أحزاب المعارضة التي تشكّل الكتلة المؤيدة لغوايدو قد أعربت أخيراً عن رغبتها في خوض الانتخابات المقبلة إذا توفّرت الضمانات الكافية لشفافيتها. ونشير هنا إلى أن المعارضة التي خاضت الجولات التفاوضية السابقة منقسمة حول العديد من الملفات وطرائق مقاربتها - أو في أحسن الأحوال حول ترتيب الأولويات - تذهب إلى هذه الجولة أيضا في ظروف من التوتر بين أطيافها. فالفريق المدعوم من واشنطن، الذي يتزعمه خوان غوايدو و«عرّابه السياسي» ليوبولدو لوبيز - الذي فرّ أخيراً من السفارة الإسبانية حيث لجأ بعد فشل محاولة انقلابية في العام 2019 - يشترط للمشاركة في المفاوضات إدراج بند لوضع جدول زمني انتخابي يتوّج بانتخابات رئيس جديد للجمهورية. لكن النظام، من جانبه، يتطلع إلى اعتراف إقليمي ودولي بشرعية الانتخابات المحلية التي ستجرى أواخر العام الجاري، وذلك لاستعادة اعتراف الأسرة الدولية التي ما زالت ترفض إضفاء الشرعية على الانتخابات والخطوات التي أقدم عليها خلال السنوات الثلاث المنصرمة.
- معارضة منقسمة أمام النظام
ويكرّر النظام من جهته منذ أسابيع استعداده الكامل للذهاب في أي لحظة إلى المكسيك، والمباشرة في التفاوض وفقاً لجدول أعمال مفتوح ومن غير شروط مسبق، الأمر الذي يرفع منسوب الضغط الذي تخضع له المعارضة بسبب من تجاذباتها الداخلية وتباعد المواقف بين أطيافها حول بنود أساسية في المفاوضات. وتقول وسائل الإعلام الموالية للنظام إن المعارضة تواجه المفاوضات على ثلاث جبهات: مع الحكومة، وبين أطيافها، ومع الولايات المتحدة صاحبة الكلمة الفصل في نهاية المطاف. هذا، وكانت الحكومة الكولومبية قد واجهت وضعاً مشابهاً إبان مفاوضاتها مع القوى الثورية المسلحة، حيث كان الانقسام حاداً بين الأحزاب التي تساندها، لدرجة أنها كانت مضطرة للعودة إلى واشنطن عند كل خطوة للحصول على موافقتها.
ولكن رغم التباين بين الحالتين الكولومبية والفنزويلية، فإن ثمّة قاسما مشتركاً بينهما، هو الطابع الملحّ لهذه المفاوضات التي لم تعد تحتمل المزيد من الفشل في ظروف الانهيار الاقتصادي والمعيشي التي تعيشها فنزويلا. ومن المستجدات التي تلفت الانتباه في هذه الجولة الجديدة من المفاوضات بين الحكومة الفنزويلية والمعارضة مشاركة روسيا فيها للمرة الأولى إلى جانب وفد النظام، بطلب من رئيسه نيكولاس مادورو، بينما يشارك وفد هولندي إلى جانب أحزاب المعارضة.
وصحيح أن الطرف الروسي يلعب دوراً أساسياً منذ سنوات في الأزمة الفنزويلية، لكن هذه الدور لم يتجاوز حتى الآن دائرة الدعم العسكري، دائما تحت مراقبة دقيقة من واشنطن. أما جلوس الوفد الروسي إلى طاولة المفاوضات الأسبوع المقبل في المكسيك، فإنه يشكّل خطوة متقدمة لفلاديمير بوتين نحو التدخل السياسي المباشر في منطقة محسوبة ضمن دائرة النفوذ الأميركي التقليدي التي تحرص واشنطن دائماً على عدم السماح لخصومها بالدخول إليها.
فمن ناحية، تشكّل هذه الخطوة تناظراً - وإن كان محدوداً - مع الوجود الدائم للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي «ناتو» في دائرة نفوذ موسكو، بالذات في أوكرانيا. ثم إنها ترسّخ التقارب الروسي مع نظام شمولي يبني مسوّغات بقائه على العداء مع واشنطن، فضلاً عن طموح بوتين في أن يكون طرفاً في حل الأزمة الفنزويلية المديدة التي لا يخفى على أحد مدى تداعياتها الإقليمية.
هذا، وتفيد مصادر دبلوماسية مطلعة بأن مشاركة روسيا في المفاوضات تحققت بإلحاح من مادورو بعدما كان قد تمّ الاتفاق منذ أسابيع على مشاركة الأرجنتين، التي أبدت تقاربا واضحاً مع مواقف النظام الفنزويلي إثر وصول البيروني اليساري ألبرتو فرنانديز إلى الحكم. وللعلم، كانت الأرجنتين قد قرّرت الانسحاب من «مجموعة ليما» التي تتزعّمها واشنطن كجبهة إقليمية معارضة لنظام مادورو، وسحبت ملف الاتهامات الذي كانت حكومتها اليمينية السابقة قد قدّمته أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي للتحقيق بانتهاكات حقوق الإنسان المتهم بارتكابها نظام مادورو.
- أولويات موسكو في فنزويلا... و«جاراتها» اللاتينيات
> فتحت روسيا المتحالفة مع النظام الفنزويلي، أخيراً جبهة مواجهة مباشرة ضد النظام الكولومبي اليميني الذي يرأسه إيفان دوكي الخصم الرئيسي لمادورو في المنطقة. ويذكر أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف كان قد استدعى السفير الكولومبي أواخر مايو (أيار) الفائت للاحتجاج على تصريحات أدلى بها دوكي، وتضمنت اتهام موسكو بالوقوف وراء الاعتداءات السيبرانية المحرّضة على التظاهر ضد حكومته. ومعلوم أن السلطات الروسية لم تستدع يوماً السفير الأميركي في موسكو للاحتجاج على التصريحات العديدة المماثلة التي أدلى بها جو بايدن.
ولا يغيب عن بال أحد أن التحرّك الروسي في منطقة الكاريبي ما زال يدور حول الرحى الكوبية، وهو عاد لينشط مجدداً، بعد فترة من الانحسار عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، بالدعم الصريح الذي أعلنه بوتين بذاته للزعيم الكوبي ميغيل دياز كانيل وتحذيره الصريح من أي تدخل خارجي في الأزمة التي نشأت عن الاحتجاجات الشعبية الأخيرة في الجزيرة.
وإلى جانب مثابرة موسكو على التمدد بهدوء في المنطقة عبر عقود لبيع الأسلحة وعرض خبراتها في مجال الطاقة النووية مع الأرجنتين والمكسيك، فإنها تنشط منذ فترة مع ظهور جائحة (كوفيد - 19) عبر «دبلوماسية اللقاحات» لمساعدة حلفائها في المنطقة، لكن الانتكاسات المتكررة التي واجهتها بدأت ترخي بظلال ثقيلة على فاعلية هذه الدبلوماسية. إذ كانت موسكو قد أعلنت عن بيع عشرة ملايين جرعة من لقاح «سبوتنيك» إلى فنزويلا، غير أن منظمة «أطباء بلا حدود» أعلنت الأسبوع الماضي عبر مكتبها في كاراكاس عن اضطرارها لوقف توزيع اللقاح الروسي لعدم وصول الدفعة الثانية الموعودة، وأن عدد الذين تلقوا الجرعة الأولى لا يتجاوز ثلاثة ملايين... ولا تأكيدات عن موعد وصول الجرعات الباقية.
انتكاسات مماثلة واجهت «دبلوماسية اللقاحات» الروسية أيضا في بوليفيا والأرجنتين ونيكاراغوا، لكن ذلك لم يمنع وزير الخارجية الروسي من أن يعلن الأسبوع الماضي لدى استقباله نظيره النيكاراغوي عن توقيع اتفاق لإنتاج لقاح «سبوتنيك» قريبا في نيكاراغوا بهدف توزيعه أيضا على بلدان المنطقة. ويذكر أن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو كان قد أعلن خلال مؤتمر دولي في موسكو أواخر الشهر الماضي «أن كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى مساعدة موسكو لمواجهة التهديدات التي تتعرّض لها، بما فيها استخدام القوة العسكرية ضدها».
كل هذه التحركات تكشف نيّة موسكو في الضغط على واشنطن داخل منطقة نفوذها التقليدية، ردّاً على الضغوط الأميركية والأطلسية في مناطق نفوذ روسيا إبان السنوات الأخيرة. بيد أن افتقار الروس إلى القوة الاقتصادية والتجارية التي تتمتع بها الصين اللازمة لمدّ نفوذها وترسيخ حضورها على المسرح الدولي، دفع موسكو إلى استخدام أوراق السياسة والمساعدات الفنّية التي غالباً ما تكشف الصعوبات الكبيرة التي تواجهها لتحقيق أهدافها.



محمد يونس... حامل «جائزة نوبل للسلام» و«مصرفي الفقراء» يتولّى حكم بنغلاديش

محمد يونس... حامل «جائزة نوبل للسلام» و«مصرفي الفقراء» يتولّى حكم بنغلاديش
TT

محمد يونس... حامل «جائزة نوبل للسلام» و«مصرفي الفقراء» يتولّى حكم بنغلاديش

محمد يونس... حامل «جائزة نوبل للسلام» و«مصرفي الفقراء» يتولّى حكم بنغلاديش

في محاولة لسد الفراغ القيادي في بنغلاديش، ولو بصفة مؤقتة، عُيّنَ محمد يونس الحائز على «جائزة نوبل» والخبير الاقتصادي، كبير مستشاري الحكومة المؤقتة المدعومة من الجيش، وذلك بعدما أدّت انتفاضة شعبية واسعة إلى الإطاحة برئيسة الوزراء الشيخة حسينة واجد، وهروبها إلى الهند. وحقاً، أصدر رئيس البلاد، محمد شهاب الدين، قراراً بحل البرلمان البنغالي. وأدت حكومة مؤقتة مكوّنة من 17 عضواً برئاسة يونس اليمين الدستورية يوم 8 أغسطس (آب) الحالي، بعدما تخلّت حسينة عن منصبها، وغادرت إثر أسابيع من الاحتجاجات الطلابية والغضب من نظام الحصص الذي يقتطع نسبة كبيرة من الوظائف الحكومية. وكانت حدة المظاهرات قد اشتدت وتوسّعت إلى تحدٍّ أعنف وأوسع لحكم حسينة الذي اتهم بـ«التسلّط» الزائد. وقُتل في أعمال العنف 400 متظاهر، في حين خلق الفراغ في السلطة تميزاً بالعنف في أجزاء مختلفة من البلاد.

يتولّى الدكتور محمد يونس (84 سنة) قيادة الحكومة المؤقتة في بنغلاديش، وسط شعور عام للمواطنين باشمئزاز عام إزاء الأحزاب السياسية في البلاد. ويتوقع الخبراء السياسيون أنه في تفويضه المحدود زعيماً مؤقتاً، فإنه يواجه مهمات صعبة، أبرزها: إعادة إرساء القانون والنظام، وإعادة بناء الثقة في الدولة، والعمل بفاعلية مع الجيش، وضمان إجراء انتخابات حرة ونزيهة. وبالفعل، طلب يونس بعد توليه الرئاسة من المتظاهرين الابتعاد عن العنف، وهدّد بأنه سيستقيل إن لم يمتثلوا.

تعهّدات تغييرية

للعلم، سبق للدكتور يونس وصف الشيخة حسينة بأنها «ديكتاتورة». وعدَّ الإطاحة بها أخيراً «تحريراً ثانياً» لبنغلاديش، عندما علّق «لقد تحررت بنغلاديش... نحن بلد حر الآن».

وحقاً، دعا يونس إلى إجراء تغييرات شاملة قبل إجراء الانتخابات العامة المقبلة، متعهداً: «سننظم انتخابات حرة وتشاركية نزيهة في أسرع وقت ممكن، لاستكمال مهمتنا في إقرار إصلاحات حيوية في لجنة الانتخابات والقضاء والإدارة المدنية وقوات الأمن ووسائل الإعلام». وأردف: «وتُجري حكومتنا أيضاً تغييرات اقتصادية بعيدة المدى؛ هدفها استعادة استقرار الاقتصاد الكلي ودعم النمو، لا سيما أنه في جهدها الحثيث للبقاء في السلطة دمرت ديكتاتورية الشيخة حسينة كل مؤسسات البلاد».

يونس وصف القضاء بأنه «منهار»، واتهم الحكومة السابقة بأنها «سمحت للمحسوبية السياسية بسرقة البنوك ونهب خزائن الدولة»، ورحّب بقرار الأمم المتحدة إرسال بعثة تقصّي حقائق للتحقيق في أحداث العنف الأخيرة، متعهداً بالتعاون الكامل مع التحقيق الدولي.

وحول التطوّرات الأخيرة التي حملت يونس إلى السلطة، قال هارش فاردان شرينغلا، وزير الخارجية الهندي السابق، والمبعوث الهندي السابق إلى بنغلاديش: «إن الاحتجاجات الطلابية الأولية كانت مدفوعة بمظالم مشروعة، خصوصاً ما يتعلق بنظام الحصص وفرص العمل، ولكن سرعان ما تسللت عناصر متشددة إلى الحركة، بينها (الجماعة الإسلامية) وجناحها الشبابي (إسلامي شهاترا شيبير)، ومن ثم اختطفت هذه الجماعات الاحتجاجات، وحوّلتها إلى هجمات عنيفة موجهة ضد الدولة. ومن ثم، فإن تحقيق الاستقرار لا يكمن في معالجة الاقتصاد فحسب، بل أيضاً في فرض الأمن والثقة».

النشأة والمسيرة

ولد الدكتور محمد يونس عام 1940، لأسرة بنغالية مسلمة إبان الحكم الاستعماري البريطاني لشبه القارة الهندية، في قرية باثوا، القريبة من مدينة تشيتاغونغ الساحلية، ثاني كبرى مدن بنغلاديش، وقاعدة جنوب شرقها.

محمد هو الابن الثالث من بين 9 أطفال في عائلة تجارية، وكان والداه يعملان في مجال تجارة المصوغات والمجوهرات. وهو يَنسب الفضل إلى والدته، صوفيا خاتون، لإلهامه بمساعدة الفقراء. وفي سيرته الذاتية «مصرفي الفقراء» قال عنها: «كانت دائماً تضع المال جانباً من أجل أي أقارب فقراء يزوروننا من قرى بعيدة. لقد كانت من خلال اهتمامها بالفقراء والمحرومين، هي التي ساعدتني على اكتشاف مصيري».

وأكمل محمد يونس مرحلة الدراسة الجامعية الأولى متخصصاً في الاقتصاد بجامعة «دكا» بالعاصمة، ثم حصل على الدكتوراه من جامعة «فاندربيلت» العريقة بولاية تينيسي في الولايات المتحدة. ثم عمل أستاذاً مساعداً في جامعة ولاية تينيسي الوسطى القريبة، وعاد بعد ذلك لتدريس الاقتصاد في جامعة تشيتاغونغ. وفي الفترة الفاصلة، التقى امرأة روسية تُدعى فيرا فورستينكو، التي تزوّجها، وأنجب منها طفلة واحدة سميَّاها مونيكا يونس -وهي مغنية أوبرا شهيرة في الولايات المتحدة- ثم انفصلا بعد ذلك، ومن ثم، تزوّج من زوجته الثانية أفروزي يونس، وهي باحثة في علم الفيزياء بجامعة مانشستر البريطانية، التي أصبحت لاحقاً أستاذة في جامعة جاهانغيربور. ووُلدت ابنتهما دينا أفروز يونس عام 1986.

أما عن أبرز أقاربه الآخرين، فمن إخوته الكبار محمد جهانغير (توفي عام 2019)، وكان ناشطاً اجتماعياً ومذيعاً تلفزيونياً، في حين أخاه الأصغر، الدكتور محمد إبراهيم، أكاديمي لامع، ومؤسس «مركز التعليم الجماهيري للعلوم»، الذي يقدم تعليم العلوم للفتيات الصغيرات في القرى.

نشاطه السياسي

مع اندلاع حرب استقلال بنغلاديش (انفصالها عن باكستان) عام 1971، أدار محمد يونس مركز اتصالات للبنغاليين الذين كانوا ينتظرون الأخبار خارج البلاد. وأطلق نشرة أخبار بنغلاديش في ناشفيل، عاصمة ولاية تينيسي الأميركية، لزيادة الدعم للحركة. ومع قمع القوات الباكستانية حركة الاستقلال (الانفصال)، شارك يونس -الذي كان آنذاك أستاذاً في الولايات المتحدة- في المعركة من الخارج، وحثّ البيت الأبيض على الاعتراف رسمياً ببنغلاديش. وعندما تحقق الاستقلال، عاد يونس إلى الوطن للانضمام إلى الحكومة الجديدة موظفاً في لجنة التخطيط الحكومية، قبل أن تحبطه البيروقراطية المستشرية. ولاحقاً التحق يونس بالعمل الأكاديمي رئيساً لقسم الاقتصاد في إحدى الجامعات المحلية. إلا أنه مع اجتياح المجاعة بنغلاديش عام 1974، أعرب عن شعوره بالرهبة من تدريس «نظريات الاقتصاد الأنيقة»، وسط مجاعة واسعة النطاق، مفضّلاً أن يكون «ذا فائدة لبعض الناس».

ولقد كتب في سيرته الذاتية «بعد عودتي إلى الديار من عدة سنوات في الولايات المتحدة، وجدت صعوبة في تدريس نظريات الاقتصاد الأنيقة داخل قاعات الدراسة الجامعية، على خلفية المجاعة الرهيبة التي ضربت بنغلاديش. وفجأة، شعرت بخواء هذه النظريات في وجه المجاعات والفقر، وأدركت أن الحكومة عاجزة عن سد حاجات الفقراء، ومن ثم فكرت... لماذا لا يستطيع هؤلاء الفقراء تحسين حياتهم الخاصة بأنفسهم؟».

وهكذا، عام 1976، أثناء زيارة له إلى إحدى القرى، أدرك أن الناس يحتاجون معظم الأحيان إلى قروض صغيرة غير تقليدية للصمود مالياً، وتنمية أعمالهم التجارية، ما خلق عنده فكرة القروض الصغيرة. وفعلاً، بدأ إقراض نساء القرى مبالغ صغيرة من ماله الخاص، متيحاً لهن شراء الخيزران لاستخدامه في صنع الأثاث. ولاحقاً، حصل على قروض من بنوك أكبر، وأعاد توزيع المال على شكل قروض صغيرة للفقراء.

ومع نمو المبادرة، ظهرت مجموعة تضم عدداً من الشركات العاملة في صيد الأسماك والزراعة والائتمان المرتبط بالاتصالات ومساعدة الفقراء. وأخيراً، عندما وجد يونس أن الدولة غير راغبة في زيادة حجم القروض الصغيرة المقدمة للفقراء، أسّس مشروعه الاجتماعي الذي عرف بـ«بنك غرامين» (بنك القرية).

مع اجتياح المجاعة بنغلاديش عام 1974 أعرب يونس عن شعوره

بالرهبة من تدريس «نظريات الاقتصاد الأنيقة»

وسط مجاعة واسعة النطاق

«بنك غرامين»

أسّس يونس «بنك غرامين» عام 1983، ليكون مؤسسة تُقرض المال للفئات الأكثر حاجة، من دون الحاجة إلى ضمانات، وأعرب عن اعتقاده بأن تأمين رأس المال اللازم لأي شخص يرغب في إنشاء مشروع تجاري سيساعد في انتشال المستفيدين من الفقر. في البداية، كان من المفترض تقسيم القروض بالتساوي بين الرجال والنساء، لكن يونس سرعان ما لاحظ أن الأموال تُنفق بشكل مختلف: إذ كانت أولويات الرجال إنفاق المال خارج المنزل، في حين أن النساء يعملن على تعظيم العائد من الأموال، ويواصلن الاستثمار في مشاريع جديدة، ويُنفقن المال على الأسرة. وبناءً عليه، بدأ «بنك غرامين» التركيز في المقام الأول على النساء اللاتي سيطلقن مشاريع تجارية صغيرة، مثل تأجير الهاتف المحمول الوحيد في القرية، أو فتح متجر صغير، أو شراء الماشية. وكُنّ يسددن القروض على نحو موثوق به، وغالباً ما يأخذن قروضاً أكبر للسماح لهن بالتوسّع.

اليوم، يُعد «بنك غرامين» عملاقاً مالياً يضم 23 ألف موظف، وعنده 11 مليون مقترض، في 94 بالمائة من قرى بنغلاديش، وقد صرف تراكمياً نحو 39 مليار دولار في شكل قروض؛ معظمها للنساء الفقيرات. كما صار التمويل متناهي الصغر ظاهرة دولية. وبإلهام من البنك، أُطلقت أكثر من 100 دولة نامية في جميع أنحاء العالم خدمات الائتمان الصغير. وإضافة إلى «بنك غرامين»، أنشأ يونس شركات فرعية أخرى مثل «غرامين فون»، وهي أكبر خدمة للهواتف في بنغلاديش، ومنذ ذلك الحين، تقود الشركة قطاع الاتصالات في بنغلاديش، وتخدم أكثر من 85 مليون عميل.

«نوبل»... وأكثر

وبفضل نجاح «بنك غرامين»، منح الدكتور يونس عام 2006 «جائزة نوبل للسلام»، وإلى جانب «جائزة نوبل»، حصل يونس عام 2009 على «وسام الحرية الرئاسي» الأميركي، و«الميدالية الذهبية للكونغرس» عام 2010. وعلى صعيد التقديرات والتكريمات، حاز يونس على عدة جوائز أخرى مرموقة، ونحو 50 درجة دكتوراه فخرية من جامعات من 20 دولة، و113 جائزة دولية من 26 دولة، بما في ذلك أوسمة الدولة من 10 دول. أصدرت الحكومة البنغلاديشية طابعاً تذكارياً تكريماً لـ«جائزة نوبل» التي حصل عليها.