فنزويلا أمام تجربة «تفاوضية ـ إنقاذية» ثالثة

النظام يستفيد من المناخ الإقليمي والدعم الروسي... والمعارضة منقسمة

فنزويلا أمام تجربة «تفاوضية ـ إنقاذية» ثالثة
TT

فنزويلا أمام تجربة «تفاوضية ـ إنقاذية» ثالثة

فنزويلا أمام تجربة «تفاوضية ـ إنقاذية» ثالثة

بدأت الحكومة الفنزويلية اليسارية والأحزاب المعارضة للنظام جولة جديدة من المفاوضات تهدف - وفقاً لتصريحات الطرفين - إلى إرساء القواعد التي تتيح، في مرحلة أولى، التخفيف من حدة الأزمة المعيشية التي تعيشها فنزويلا منذ سنوات، ومن ثم، الاتفاق على إطار مشترك لاستئناف الحوار السياسي يمهّد لانتخابات رئاسية وعامة تحظى بتوافق داخلي واعتراف إقليمي ودولي.
تأتي هذه الجولة الجديدة من المفاوضات التي تستضيفها المكسيك، بعد إخفاق الجولتين السابقتين في الجمهورية الدومينيكانية وباربادوس بوساطة نرويجية و«ضوء أخضر» من الولايات المتحدة. والمعروف أن لواشنطن الدور الأساسي في رفع العقوبات القاسية المفروضة على رموز النظام الفنزويلي، وهو أحد الشروط الرئيسية التي تطالب بها حكومة الرئيس نيكولاس مادورو لإحراز أي تقدّم في المفاوضات.
وفي المقابل، تعتبر أحزاب المعارضة العقوبات ورقة الضغط الأساسية على النظام لدفعه إلى التراجع عن القرارات التي اتخذها بغية تهميش القوى المعارضة والاستئثار بجميع مواقع السلطة التشريعية والقضائية.
كل التصريحات التي وردت على ألسنة الأطراف المعنيين بمفاوضات السلام الفنزويلية، بمن فيهم الرئيس الفنزويلي اليساري نيكولاس مادورو، تعكس الاستعداد لخوضها بإيجابية وتفاؤل. وتعرب عن الرغبة في منع انزلاق فنزويلا إلى الدرك الأخير من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، وفتح الأبواب على المغامرات الأمنية الداخلية والخارجية. بيد أن الأطراف نفسها لا تتردد في أحاديثها الداخلية عن التشكيك في صدق نوايا الطرف الآخر، وعن اعتقادها بأن الأسس التفاوضية لم تصل بعد إلى مرحلة كافية من النضوج. وبالتالي، من شأن التسرّع إفشال هذه الجولة الثالثة وسد الآفاق - داخلياً وخارجياً - أمام التوصل إلى حل سلمي للأزمة.
في حديث هاتفي مع «الشرق الأوسط» تقول أيقونة المعارضة دلسا سولورزانو: «علمتنا تجربة السنوات الماضية أن الإفراط في التفاؤل خطر فادح في فنزويلا. أنا أعتقد أن ثمّة مبالغة كبيرة في الآمال المعقودة على هذه المفاوضات... والتجارب السابقة علّمتنا الحذر».
سولورزانو تخشى أن تطغى المعركة الإعلامية، الدائرة منذ أيام حول جولة المفاوضات هذه، على جوهر المباحثات التي لا يخفى على أحد مدى صعوبتها وتعقيداتها غير المحدودة. وهي تذكّر بأن الجولات التفاوضية التي حققت نتائج ملموسة حتى الآن، هي تلك التي عقدت بعيداً عن الأضواء وخارج المزايدات الإعلامية.... وحقاً، أسفرت - مثلاً - عن الحصول على مساعدات غذائية وطبية وتوزيعها على السكان، والإفراج عن معتقلين سياسيين أو تشكيل «المجلس الانتخابي الوطني»، الذي كان من أهم مطالب المعارضة.
- حاجة مشتركة للحوار
ثمة أسباب تكتيكية قوية تدفع كلاً من أحزاب المعارضة والحكومة للعودة إلى طاولة المفاوضات. ذلك أن النظام يسعى إلى فك العزلة الدولية المفروضة عليه، والمعارضة تجهد لاستعادة المبادرة التي فقدتها منذ أشهر في الداخل. إلا أن التجارب السابقة علّمت الفنزويليين الحذر، وزادت المخاوف من عواقب الفشل الذي تراكم بعد الجولات التفاوضية التي كان يفقد فيها الطرفان المزيد من المصداقية بالتوازي مع اندفاع فنزويلا نحو المزيد من التشرذم والانهيار.
عام 2016 فشل الحوار الذي أجراه الطرفان برعاية مباشرة من الفاتيكان ومشاركة عدد من الرؤساء السابقين، بينهم الإسباني خوسيه لويس زاباتيرو، الذي أشرف لاحقاً على جولة المفاوضات التي أجريت في العاصمة الدومينيكانية سانتو دومينغو وانتهت بفشل ذريع أواخر عام 2018، وفي نهاية العام التالي، انهارت الجولة التفاوضية التي استضافتها باربادوس بوساطة النرويج التي كانت لعبت دوراً حاسماً في إنجاح المفاوضات التي أدت إلى توقيع اتفاق السلام التاريخي في كولومبيا. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنه في حال إخفاق المفاوضات التي ستستضيفها المكسيك في التوصل إلى نتائج ملموسة، لن تتكرّر الفرصة لاستئناف الحوار قبل أواخر عام 2023 بعد إجراء الانتخابات الرئاسية، وبعد أن تكون صدقية الطرفين قد تدهورت إلى أدنى مستوياتها على الصعيدين الداخلي والخارجي.
- ثقل الدور المكسيكي
المتفائلون بالجولة الجديدة من المفاوضات التي يدخلها الطرفان في حال من الإنهاك والحاجة الملحّة للخروج بنتائج إيجابية، يعوّلون على الدور النشط الذي يلعبه الرئيس المكسيكي (اليساري المعتدل) آندريس مانويل لوبيز أوبرادور، علما بأنه سبق للدبلوماسية المكسيكية أن شاركت في جولة سانتو دومينغو على عهد الرئيس إنريكي بينيا نييتو. ونظراً لدور المكسيك الدبلوماسي الوازن في المنطقة، ورعايتها العديد من المباحثات والمفاوضات الناجحة في أميركا الوسطى، فإنها تحظى بثقة طرفي النزاع في الأزمة الفنزويلية. أكثر من هذا، فإنها كانت فد تحاشت الاعتراف بشرعية «الرئيس الفنزويلي المؤقت» خوان غوايدو، مع أنها في المقابل استضافت عدداً من زعماء المعارضة وساهمت في الإفراج عن بعضهم وإخراجه من البلاد. ويضاف إلى ذلك كله أنها تعاونت مع شبكة من الوسطاء والشركات التي ساعدت على مبادلة النفط الفنزويلي وبيعه في الأسواق الدولية خرقاً للحصار الأميركي المفروض على نظام مادورو.
وتفيد أوساط متابعة لجولات المفاوضات بين الحكومة الفنزويلية وأحزاب المعارضة أن المباحثات التي مهّدت لهذه الجولة أجريت تحت إشراف النرويج، بينما تولّت المكسيك مهمة التواصل مع الولايات المتحدة لضمان دعمها واستعدادها لتيسير الحوار بين الطرفين. وتنطلق المكسيك في وساطتها من موقعها الإقليمي التقليدي والرغبة التي أظهرتها أخيراً في مناسبات عدة لاستعادة هذا الدور، وأيضا من إدراكها أن أي مفاوضات بين طرفي النزاع لا يمكن أن يكتب لها النجاح من دون بركة واشنطن وموافقتها على نتائجها. فواشنطن وحدها تستطيع رفع العقوبات عن النظام الفنزويلي ورموزه، كما أن المعارضة لا يمكن أن تقبل بأي نتيجة لا توافق عليها الإدارة الأميركية.
إلا أن حكومة مادورو حرصت خلال الفترة الأخيرة على التأكيد بأنها لم تعُد تعتبر رفع العقوبات الأميركية من البنود الأساسية في المفاوضات، والادعاء أنها تمكّنت من «التكيّف والتعايش مع هذه العقوبات» بفضل الدعم الذي تؤمنه لها دول حليفة مثل الصين وروسيا، فضلاً عن تنامي الضغوط التي تمارسها على إدارة جو بايدن الشركات الأميركية التي كانت تتعامل في السابق مع النظام الفنزويلي. ويذكر هنا أن الإدارة الأميركية الحالية جدّدت دعمها لخوان غوايدو واعترافها به كزعيم للمعارضة التي تنصبّ عليها التدابير القمعية لنظام مادورو الذي اعتقل العديد من قياداتها في الأشهر المنصرمة. ومن المتوقّع أن تتشدّد إدارة بايدن مزيداً في سياستها تجاه النظام الفنزويلي، على غرار ما فعلته أخيراً مع النظام الكوبي، لا سيما، مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية للكونغرس... وذلك لاستقطاب أصوات الجاليات الأميركية اللاتينية في الولايات حيث ترجّح هذه الأصوات كفّة الفوز لصالح الديمقراطيين أو الجمهوريين.
- البنود المطروحة للتفاوض
تفيد مصادر المعارضة الفنزويلية بأن الملاحقات القضائية ضد قيادات المعارضة والإفراج عن المعتقلين السياسيين وتحديد جدول زمني للانتخابات الرئاسية والعامة، ستكون في طليعة البنود التي ستناقش في المفاوضات، التي ستجرى وفقاً للصيغة التي اعتمدها الطرفان في الجولات السابقة. أي عقد اجتماعات في المكسيك، تعقبها عودة الوفود المفاوضة إلى الجهة التي تمثلها، من أجل مناقشة حصيلة كل مرحلة. ومن ثم استئناف المفاوضات لتثبيت النتائج المحرزة. ويتوقع أن يقود الوفد الحكومي المفاوض رئيس الجمعية الوطنية خورخي رودريغيز المقرّب من مادورو، بينما يضم وفد الأحزاب المعارضة كارلوس فيكيو وخيراردو بليدي وتوماس غوانيبا... الذين يختلفون عن خوان غوايدو بمعارضتهم أي تدخل عسكري أميركي في المواجهة ضد نظام كاراكاس.
أما بالنسبة إلى الجدول الزمني للانتخابات، فلم يتبقّ أمام المعارضة في هذه المرحلة سوى الانتخابات الإقليمية التي ستجرى أواخر العام الجاري لاستعادة رصيدها السياسي على الصعيد الداخلي، بعدما رفضت خوض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة بحجة «عملية تزوير نفذها النظام».
وفي حين أجرى الحزب الحاكم انتخابات أولية نهاية الأسبوع الماضي لاختيار مرشّحيه في الانتخابات الإقليمية والبلدية المقرّرة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل بمشاركة ضئيلة لم تتجاوز 17 في المائة من المنتسبين، لم تحسم أحزاب المعارضة بعد قرارها من المشاركة في هذه الانتخابات بانتظار نتائج مفاوضات المكسيك، وذلك لكونها تطالب «بضمانات لشفافية العملية الانتخابية» والإفراج عن المعتقلين السياسيين ورفع العقوبات التي تحول دون مشاركتهم في الانتخابات. وكانت أحزاب المعارضة التي تشكّل الكتلة المؤيدة لغوايدو قد أعربت أخيراً عن رغبتها في خوض الانتخابات المقبلة إذا توفّرت الضمانات الكافية لشفافيتها. ونشير هنا إلى أن المعارضة التي خاضت الجولات التفاوضية السابقة منقسمة حول العديد من الملفات وطرائق مقاربتها - أو في أحسن الأحوال حول ترتيب الأولويات - تذهب إلى هذه الجولة أيضا في ظروف من التوتر بين أطيافها. فالفريق المدعوم من واشنطن، الذي يتزعمه خوان غوايدو و«عرّابه السياسي» ليوبولدو لوبيز - الذي فرّ أخيراً من السفارة الإسبانية حيث لجأ بعد فشل محاولة انقلابية في العام 2019 - يشترط للمشاركة في المفاوضات إدراج بند لوضع جدول زمني انتخابي يتوّج بانتخابات رئيس جديد للجمهورية. لكن النظام، من جانبه، يتطلع إلى اعتراف إقليمي ودولي بشرعية الانتخابات المحلية التي ستجرى أواخر العام الجاري، وذلك لاستعادة اعتراف الأسرة الدولية التي ما زالت ترفض إضفاء الشرعية على الانتخابات والخطوات التي أقدم عليها خلال السنوات الثلاث المنصرمة.
- معارضة منقسمة أمام النظام
ويكرّر النظام من جهته منذ أسابيع استعداده الكامل للذهاب في أي لحظة إلى المكسيك، والمباشرة في التفاوض وفقاً لجدول أعمال مفتوح ومن غير شروط مسبق، الأمر الذي يرفع منسوب الضغط الذي تخضع له المعارضة بسبب من تجاذباتها الداخلية وتباعد المواقف بين أطيافها حول بنود أساسية في المفاوضات. وتقول وسائل الإعلام الموالية للنظام إن المعارضة تواجه المفاوضات على ثلاث جبهات: مع الحكومة، وبين أطيافها، ومع الولايات المتحدة صاحبة الكلمة الفصل في نهاية المطاف. هذا، وكانت الحكومة الكولومبية قد واجهت وضعاً مشابهاً إبان مفاوضاتها مع القوى الثورية المسلحة، حيث كان الانقسام حاداً بين الأحزاب التي تساندها، لدرجة أنها كانت مضطرة للعودة إلى واشنطن عند كل خطوة للحصول على موافقتها.
ولكن رغم التباين بين الحالتين الكولومبية والفنزويلية، فإن ثمّة قاسما مشتركاً بينهما، هو الطابع الملحّ لهذه المفاوضات التي لم تعد تحتمل المزيد من الفشل في ظروف الانهيار الاقتصادي والمعيشي التي تعيشها فنزويلا. ومن المستجدات التي تلفت الانتباه في هذه الجولة الجديدة من المفاوضات بين الحكومة الفنزويلية والمعارضة مشاركة روسيا فيها للمرة الأولى إلى جانب وفد النظام، بطلب من رئيسه نيكولاس مادورو، بينما يشارك وفد هولندي إلى جانب أحزاب المعارضة.
وصحيح أن الطرف الروسي يلعب دوراً أساسياً منذ سنوات في الأزمة الفنزويلية، لكن هذه الدور لم يتجاوز حتى الآن دائرة الدعم العسكري، دائما تحت مراقبة دقيقة من واشنطن. أما جلوس الوفد الروسي إلى طاولة المفاوضات الأسبوع المقبل في المكسيك، فإنه يشكّل خطوة متقدمة لفلاديمير بوتين نحو التدخل السياسي المباشر في منطقة محسوبة ضمن دائرة النفوذ الأميركي التقليدي التي تحرص واشنطن دائماً على عدم السماح لخصومها بالدخول إليها.
فمن ناحية، تشكّل هذه الخطوة تناظراً - وإن كان محدوداً - مع الوجود الدائم للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي «ناتو» في دائرة نفوذ موسكو، بالذات في أوكرانيا. ثم إنها ترسّخ التقارب الروسي مع نظام شمولي يبني مسوّغات بقائه على العداء مع واشنطن، فضلاً عن طموح بوتين في أن يكون طرفاً في حل الأزمة الفنزويلية المديدة التي لا يخفى على أحد مدى تداعياتها الإقليمية.
هذا، وتفيد مصادر دبلوماسية مطلعة بأن مشاركة روسيا في المفاوضات تحققت بإلحاح من مادورو بعدما كان قد تمّ الاتفاق منذ أسابيع على مشاركة الأرجنتين، التي أبدت تقاربا واضحاً مع مواقف النظام الفنزويلي إثر وصول البيروني اليساري ألبرتو فرنانديز إلى الحكم. وللعلم، كانت الأرجنتين قد قرّرت الانسحاب من «مجموعة ليما» التي تتزعّمها واشنطن كجبهة إقليمية معارضة لنظام مادورو، وسحبت ملف الاتهامات الذي كانت حكومتها اليمينية السابقة قد قدّمته أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي للتحقيق بانتهاكات حقوق الإنسان المتهم بارتكابها نظام مادورو.
- أولويات موسكو في فنزويلا... و«جاراتها» اللاتينيات
> فتحت روسيا المتحالفة مع النظام الفنزويلي، أخيراً جبهة مواجهة مباشرة ضد النظام الكولومبي اليميني الذي يرأسه إيفان دوكي الخصم الرئيسي لمادورو في المنطقة. ويذكر أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف كان قد استدعى السفير الكولومبي أواخر مايو (أيار) الفائت للاحتجاج على تصريحات أدلى بها دوكي، وتضمنت اتهام موسكو بالوقوف وراء الاعتداءات السيبرانية المحرّضة على التظاهر ضد حكومته. ومعلوم أن السلطات الروسية لم تستدع يوماً السفير الأميركي في موسكو للاحتجاج على التصريحات العديدة المماثلة التي أدلى بها جو بايدن.
ولا يغيب عن بال أحد أن التحرّك الروسي في منطقة الكاريبي ما زال يدور حول الرحى الكوبية، وهو عاد لينشط مجدداً، بعد فترة من الانحسار عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، بالدعم الصريح الذي أعلنه بوتين بذاته للزعيم الكوبي ميغيل دياز كانيل وتحذيره الصريح من أي تدخل خارجي في الأزمة التي نشأت عن الاحتجاجات الشعبية الأخيرة في الجزيرة.
وإلى جانب مثابرة موسكو على التمدد بهدوء في المنطقة عبر عقود لبيع الأسلحة وعرض خبراتها في مجال الطاقة النووية مع الأرجنتين والمكسيك، فإنها تنشط منذ فترة مع ظهور جائحة (كوفيد - 19) عبر «دبلوماسية اللقاحات» لمساعدة حلفائها في المنطقة، لكن الانتكاسات المتكررة التي واجهتها بدأت ترخي بظلال ثقيلة على فاعلية هذه الدبلوماسية. إذ كانت موسكو قد أعلنت عن بيع عشرة ملايين جرعة من لقاح «سبوتنيك» إلى فنزويلا، غير أن منظمة «أطباء بلا حدود» أعلنت الأسبوع الماضي عبر مكتبها في كاراكاس عن اضطرارها لوقف توزيع اللقاح الروسي لعدم وصول الدفعة الثانية الموعودة، وأن عدد الذين تلقوا الجرعة الأولى لا يتجاوز ثلاثة ملايين... ولا تأكيدات عن موعد وصول الجرعات الباقية.
انتكاسات مماثلة واجهت «دبلوماسية اللقاحات» الروسية أيضا في بوليفيا والأرجنتين ونيكاراغوا، لكن ذلك لم يمنع وزير الخارجية الروسي من أن يعلن الأسبوع الماضي لدى استقباله نظيره النيكاراغوي عن توقيع اتفاق لإنتاج لقاح «سبوتنيك» قريبا في نيكاراغوا بهدف توزيعه أيضا على بلدان المنطقة. ويذكر أن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو كان قد أعلن خلال مؤتمر دولي في موسكو أواخر الشهر الماضي «أن كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى مساعدة موسكو لمواجهة التهديدات التي تتعرّض لها، بما فيها استخدام القوة العسكرية ضدها».
كل هذه التحركات تكشف نيّة موسكو في الضغط على واشنطن داخل منطقة نفوذها التقليدية، ردّاً على الضغوط الأميركية والأطلسية في مناطق نفوذ روسيا إبان السنوات الأخيرة. بيد أن افتقار الروس إلى القوة الاقتصادية والتجارية التي تتمتع بها الصين اللازمة لمدّ نفوذها وترسيخ حضورها على المسرح الدولي، دفع موسكو إلى استخدام أوراق السياسة والمساعدات الفنّية التي غالباً ما تكشف الصعوبات الكبيرة التي تواجهها لتحقيق أهدافها.



ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

TT

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

روبيو
روبيو

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل فريق سياسة خارجية وأمن قومي «متجانس»، لا يكرّر الأخطاء والصدامات التي خاضها في ولايته الأولى؛ إذ على مدى السنوات الثماني الماضية، جمع ترمب ما يكفي من الموالين، لتعيين مسؤولين من ذوي التفكير المماثل؛ لضمان ألا تواجهه أي مقاومة منهم. ومع سيطرة الحزب الجمهوري - الذي أعاد ترمب تشكيله «على صورته» - على مجلسي الشيوخ والنواب والسلطة القضائية العليا، ستكون الضوابط على سياساته أضعف بكثير، وأكثر ودية مع حركة «ماغا»، مما كانت عليه عام 2017. وهذا يشير إلى أن واشنطن ستتكلّم عن سياستها الخارجية بصوت واحد خلال السنوات الأربع المقبلة، هو صوت ترمب نفسه. لكن وعلى الرغم من أن قدرته على قيادة آلية السياسة الخارجية ستتعزّز، فإن قدرته على تحسين مكانة الولايات المتحدة في العالم مسألة أخرى.

اختار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، السيناتور ماركو روبيو، مرشحاً لمنصب وزير الخارجية، بعد قطع الأخير شوطاً كبيراً في تقديم الولاء له. للعلم، علاقة الرجلين التي بدأت منذ عام 2016، وانتهت بشكل تصادمي بعد هزيمة روبيو في الانتخابات الرئاسية التمهيدية للحزب الجمهوري، تحولت إلى علاقة تحالفية إثر دعم روبيو كل ما قاله وفعله ترمب تقريباً إبّان فترة رئاسته الأولى.

هذا الواقع قد يعزّز تثبيت روبيو في مجلس الشيوخ - الذي يمضي فيه الآن فترته الثالثة - من دون عقبات جدية، في ظل دوره وتاريخه في المجلس، منذ أن فاز بمقعد فيه عام 2010. وحقاً، لاقى اختيار روبيو استحساناً حتى من بعض الديمقراطيين، منهم السيناتور الديمقراطي جون فيترمان، الذي قال إنه سيصوّت للمصادقة على تعيينه. كذلك أشاد السيناتور الديمقراطي مارك وارنر، رئيس لجنة الاستخبارات الحالي، في بيان، بروبيو ووصفه بأنه ذكي وموهوب.

ملف الخارجية للرئيس

روبيو، من جهته، لم يترك شكاً حيال مَن يقرر السياسة الخارجية للولايات المتحدة، عندما قال إن من يحددها، ليس وزير الخارجية، بل الرئيس. وبالتالي فإن مهمة مَن سيشغل المنصب ستكون تنفيذ سياسات هذا الرئيس، وهي تهدف إلى تأمين «السلام من خلال القوة»، ووضع مصالح «أميركا في المقام الأول».

وحقاً، يلخص روبيو رؤيته لأميركا بالقول: «هي أعظم دولة عرفها العالم على الإطلاق، لكن لدينا مشاكل خطيرة في الداخل وتحدّيات خطيرة في الخارج». وأردف: «نحن بحاجة إلى إعادة التوازن لاقتصادنا المحلي، وإعادة الصناعات الحيوية إلى أميركا، وإعادة بناء قوتنا العاملة من خلال تعليم وتدريب أفضل». واستطرد: «لا شيء من هذا سهل، لكن لا يمكننا أن نتحمل الفشل. هذا هو السبب في أنني ملتزم ببناء تحالف متعدّد الأعراق من الطبقة العاملة على استعداد للقتال من أجل هذا البلد والدخول في قرن أميركي جديد».

ولكن من هو ماركو روبيو؟ وما أبرز مواقفه الداخلية والخارجية؟ وكيف أدت استداراته السياسية إلى تحوّله واحداً من أبرز المرشحين للعب دور في إدارة ترمب، بل كاد يكون نائبه بدلاً من جي دي فانس؟

سجل شخصي

ولد ماركو روبيو قبل 53 سنة في مدينة ميامي بولاية فلوريدا، التي يعدّها موطنه. كان والده يعمل نادلاً ووالدته عاملة في أحد الفنادق. وفي حملته الأولى لمجلس الشيوخ، حرص دائماً على تذكير الناخبين بخلفيته من الطبقة العاملة، التي كانت تشير إلى التحوّلات الطبقية التي طرأت على قاعدة الحزب الجمهوري، وتحوّلت إلى علامة انتخابية، مع شعار «فقط في أميركا»، بوصفه ابناً لمهاجرَين كوبيّين... أصبح عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي.

عندما كان في الثامنة من عمره، انتقلت الأسرة إلى مدينة لاس فيغاس بولاية نيفادا، حيث أمضى نحو 6 سنوات من طفولته، بعدما وجد والداه وظائف في صناعة الفنادق المتنامية فيها. وفي سن الرابعة عشرة من عمره، عاد مع عائلته إلى ميامي. ومع أنه كاثوليكي، فإنه تعمّد في إحدى كنائس لطائفة المورمون في لاس فيغاس، غير أنه في فلوريدا كان يحضر القداديس في إحدى الكنائس الكاثوليكية بضاحية كورال غايبلز، وإن كان قد شارك الصلوات سابقاً في كنيسة «كرايست فيلوشيب»، وهي كنيسة إنجيلية جنوبية في ويست كيندال بولاية فلوريدا.

يعرف عن روبيو أنه من مشجعي كرة القدم الأميركية، وكان يحلم بالوصول إلى دوري كرة القدم الأميركي عندما لعب في المدرسة الثانوية، إلا أنه لم يتلق سوى عرضين من كليتين جامعيتين. وبدايةً اختار كلية تاركيو غير المعروفة، التي تقع في بلدة يقل عدد سكانها عن 2000 شخص في المنطقة الشمالية الغربية الريفية من ولاية ميسوري. ولكن عندما واجهت الكلية الإفلاس وتعرّض للإصابة، تخلى روبيو عن كرة القدم وانتقل إلى فلوريدا، ليتخرّج ببكالوريوس في العلوم السياسية في جامعة فلوريدا، ثم في كلية الحقوق بجامعة ميامي.

في عام 1998، تزوّج روبيو من جانيت دوسديبيس، وهي أمينة صندوق سابقة في أحد المصارف، ومشجعة لنادي ميامي دولفينز لكرة القدم الأميركية، وأنجبا أربعة أطفال، وهو يعيش الآن وعائلته في ويست ميامي بولاية فلوريدا. ووفق موقع «أوبن سيكريت. أورغ»، بدءاً من عام 2018، كان صافي ثروة روبيو سلبياً؛ إذ تجاوزت ديونه 1.8 مليون دولار أميركي.

مسيرته السياسية الطموحة

يوم 13 سبتمبر (أيلول) 2005، في سن 34 سنة انتخب روبيو عضواً في مجلس النواب في فلوريدا، وأصبح رئيساً له عام 2006، بعد انسحاب منافسيه دينيس باكسلي وجيف كوتكامب ودينيس روس، ليغدو أول أميركي من أصل كوبي يتولى هذا المنصب، حتى عام 2008.

عام 2010، كان روبيو يُعد مرشحاً ضعيفاً ضد الحاكم (آنذاك) تشارلي كريست لترشيح الحزب الجمهوري لمجلس الشيوخ. وبالفعل، تعرّض لضغوط من قادة الحزب للانسحاب من السباق والترشح بدلاً من ذلك لمنصب المدعي العام، مع وعود من الحزب بإخلاء الميدان له. ويومذاك كتب في مذكراته «ابن أميركي»، قائلاً: «لقد أقنعت نفسي تقريباً بالانسحاب». غير أنه عاد وتمسك بموقفه، وكتب في تلك المرحلة أنه شعر بأنه لا يستطيع التراجع عن كلمته. وبقي في السباق، وفاز بأول فترة له في مجلس الشيوخ، حيث أعيد انتخابه في عام 2016، ثم مرة أخرى في عام 2022.

وعام 2016، دخل روبيو السباق الرئاسي منافساً مجموعة كبيرة من الجمهوريين، منهم دونالد ترمب، وفاز في لاية مينيسوتا، بينما حل السيناتور تيد كروز (من تكساس) ثانياً، وترمب ثالثاً. بعدها كانت انتصاراته الأخرى الوحيدة في واشنطن العاصمة وبورتوريكو. ومن ثم، انسحب بعدما هزمه ترمب في ولايته فلوريدا جامعاً 46 في المائة من الأصوات بينما جاء روبيو ثانياً بنسبة 27 في المائة. وخلال ذلك السباق، تبادل الرجلان الإهانات؛ إذ لقّبه ترمب بـ«ماركو الصغير»، وردّ روبيو بإهانة ترمب ووصفه بأنه «محتال» و«مبتذل». ولكن عندما أعادت قناة «آيه بي سي نيوز» في وقت سابق من هذا العام بث بعض تعليقاته عن ترمب عام 2016، قلل روبيو من أهميتها، بالقول: «كانت حملة». وفعلاً، بعد تولّي ترمب الرئاسة عام 2017، تحسنت علاقاتهما وظل على مقربة منه، حتى بعدما اختار ترمب السيناتور الشاب جي دي فانس (من أوهايو) لمنصب نائب الرئيس. بل سافر روبيو مع ترمب خلال المرحلة الأخيرة من سباق 2024، وألقى خطابات باللغتين الإنجليزية والإسبانية في العديد من التجمعات في اليوم الأخير من الحملة.

لم يترك روبيو شكاً حيال مَن يقرر سياسة واشنطن الخارجية

عندما قال إن من يحددها هو الرئيس... لا وزير الخارجية

سياسات روبيو المحافظة

بدءاً من أوائل عام 2015، حصل روبيو على تصنيف بنسبة 98.67 في المائة من قبل «اتحاد المحافظين الأميركيين»، بناء على سجلّه التصويتي مدى الحياة في مجلس الشيوخ. وعام 2013 كان روبيو السيناتور السابع عشر الأكثر محافظة. ويصنّف مركز سن القوانين الفعالة روبيو باستمرار بين أعضاء مجلس الشيوخ الثلاثة الأكثر فاعلية في الكونغرس.

يُذكر أن روبيو دخل مجلس الشيوخ بدعم قوي من جماعة «حفلة الشاي» التي كانت تمثل اليمين الأكثر محافظة في الحزب الجمهوري. لكن دعمه في عام 2013 لتشريع الإصلاح الشامل للهجرة بهدف توفير مسار للحصول على الجنسية لـ11 مليون مهاجر غير موثق في أثناء تنفيذ تدابير مختلفة لتعزيز الحدود الأميركية، أدى إلى انخفاض دعمهم له. وللعلم، رغم تمرير ذلك المشروع في مجلس الشيوخ، أسقطه المتشددون في مجلس النواب.

ثم، بمرور الوقت، نأى روبيو بنفسه عن جهوده السابقة للتوصل إلى «حل وسط» بشأن الهجرة؛ كالعديد من مواقفه الداخلية والخارجية التي عُدّت سبباً رئيساً لتغير علاقة ترمب به؛ إذ اعتمد مواقف أكثر تشدداً بشأن الهجرة، ورفض مساعي الحزب الديمقراطي إزاء ملف الهجرة منذ عام 2018 وحتى 2024.

في مارس (آذار) 2016، عارض روبيو ترشيح الرئيس باراك أوباما للقاضي ميريك غارلاند للمحكمة العليا، متذرعاً «لا أعتقد أنه يجوز لنا المضي قدماً بمرشح في العام الأخير من ولاية هذا الرئيس. أقول هذا، حتى لو كان الرئيس جمهورياً». لكنه في سبتمبر (أيلول) 2020، إثر وفاة القاضية الليبرالية روث بايدر غينزبيرغ، أشاد روبيو بترشيح ترمب للقاضية المحافظة إيمي باريت للمحكمة، وصوّت لتثبيتها في 26 أكتوبر (تشرين الأول)، قبل 86 يوماً من انتهاء ولاية ترمب الرئاسية.

أيضاً في مارس 2018، دافع روبيو عن قرار إدارة ترمب بإضافة سؤال الجنسية إلى تعداد عام 2020. ورجح الخبراء يومها أن يؤدي إدراج هذا السؤال إلى نقص حاد في تعداد السكان وبيانات خاطئة؛ إذ سيكون المهاجرون غير المسجلين أقل استعداداً للاستجابة للتعداد.

وحول الميزانية الفيدرالية، يدعم روبيو مع إعطاء الأولوية للإنفاق الدفاعي، ويرفض الإجماع العلمي بشأن تغير المناخ، الذي ينص على أن تغير المناخ حقيقي ومتقدم وضار وينجم في المقام الأول عن البشر. كذلك يعارض روبيو قانون الرعاية الميسرة (أوباما كير) وقد صوّت لإلغائه رغم فشل المحاولة. وهو معارض صريح للإجهاض، وقال إنه سيحظره حتى في حالات الاغتصاب وزنا المحارم، مع استثناءات إذا كانت حياة الأم في خطر.وأخيراً، يدعم روبيو تحديد ضرائب الشركات بنسبة 25 في المائة، وتعديل قانون الضرائب، ووضع حد أقصى للتنظيمات الاقتصادية، ويقترح زيادة سن التقاعد للضمان الاجتماعي بناءً على متوسط العمر المتوقع الأطول. ويعارض المعايير الفيدرالية الأساسية المشتركة للتعليم، كما يدعو إلى إغلاق وزارة التعليم الفيدرالية.