التاريخ قد يعيد نفسه... كيف عادت «طالبان» لطرق أبواب كابل؟

دورية مقاتلي «طالبان» بعد السيطرة على منزل الحاكم ومدينة غزنة (إ.ب.أ)
دورية مقاتلي «طالبان» بعد السيطرة على منزل الحاكم ومدينة غزنة (إ.ب.أ)
TT

التاريخ قد يعيد نفسه... كيف عادت «طالبان» لطرق أبواب كابل؟

دورية مقاتلي «طالبان» بعد السيطرة على منزل الحاكم ومدينة غزنة (إ.ب.أ)
دورية مقاتلي «طالبان» بعد السيطرة على منزل الحاكم ومدينة غزنة (إ.ب.أ)

مع تقدم وتيرة سيطرة حركة «طالبان» المتطرفة على مدن أفغانية، حيث أحكمت قبضتها حتى الآن على 10 من أصل 34 عاصمة ولاية أفغانية، سبع منها في شمال البلاد، تهدد الحركة حالياً العاصمة كابل وقد تعيد إلى المشهد ما حدث مسبقاً في سبتمبر (أيلول) 1996 حين سقطت العاصمة كابل في يد الحركة المتطرفة، معلنةً فصلاً كابوسياً من السياسة الدولية.
وكان مسؤول دفاعي أميركي قد صرح أمس (الأربعاء)، لوكالة «رويترز»، مستشهداً بتقييم للاستخبارات، إن حركة «طالبان» قد تعزل العاصمة الأفغانية كابل عن بقية أنحاء البلاد خلال 30 يوماً وإنها قد تسيطر عليها في غضون 90 يوماً.
فهل يخيّم كابوس «طالبان» مجدداً على أفغانستان بحلول سبتمبر؟

تفاقم الوضع الأمني في أفغانستان على نحو مأساوي منذ بدء سحب القوات الدولية من هناك وشن «طالبان» هجوماً بدايةً من مايو (أيار) الماضي. وسحبت واشنطن بشكل أساسي جميع القوات من أفغانستان، باستثناء التي ستبقى لحماية السفارة الأميركية ومطار في كابل، على أن تنتهي المهمة العسكرية يوم 31 أغسطس (آب) الحالي.
https://www.facebook.com/asharqalawsat.a/videos/333189365127688/
نشأة الحركة
تكونت «طالبان» في أوائل تسعينات القرن الماضي، شمالي باكستان، بعد الحرب الأهلية التي أعقبت انسحاب القوات السوفياتية في عام 1989 وكانت توجد بشكل أساسي في الجنوب الغربي لأفغانستان ومناطق الحدود الباكستانية. وبرزت على السطح داخل البلاد عام 1994 وتولى الملا عمر زعامتها، وتعهدت الحركة في البداية بمحاربة الفساد وإحلال الأمن، لكن عناصرها اتبعوا نمطاً متشدداً صارماً شهد على مدى عشرين عاماً فصولاً من العنف والإرهاب. حيث أُمر الرجال بإطلاق لحاهم والنساء بارتداء النقاب. وحظرت مشاهدة التلفزيون والاستماع إلى الموسيقى وارتياد دور السينما، ورفضت ذهاب الفتيات من سن العاشرة إلى المدارس. طبّقت «طالبان» عقوبات وفقاً للشريعة الإسلامية مثل الإعدامات العلنية للمدانين بجرائم القتل أو مرتكبي الزنى أو بتر أيدي من تثبت إدانتهم بالسرقة.

وصرح الناطق باسم المخابرات الأفغانية حسيب صديقي في يوليو (تموز) 2015 بأن «الملا عمر توفي في مستشفى بكراتشي في أبريل (نيسان) 2013 في ظروف غامضة». وفي أغسطس من نفس العام صرحت الحركة بأنها أخفت لمدة عامين خبر وفاة الملا عمر. وبعدها بشهر أعلنت أنها توحدت تحت قيادة الملا منصور الذي كان نائباً للملا عمر لفترة طويلة.
ولقي منصور حتفه في غارة لطائرة أميركية بدون طيار في مايو 2016 ليحل نائبه المولوي هيبة الله أخنوزاده، وهو رجل دين متشدد، محله. وقُتل على الأقل ثلاثة من أبرز قادة «طالبان» باكستان في غارات شنتها طائرات أميركية من دون طيار، من بينهم الملا نظير وولي الرحمن.

الانضمام هربا من ويلات الحرب
بعد انتهاء الحرب السوفياتية في أفغانستان، انقسمت البلاد بين الجماعات والفرق المتصارعة، وأصبحت وحدة البلاد مهددة نتيجة لذلك، فإبان ظهور الحركة كانت حكومة الرئيس برهان الدين رباني، ووزير دفاعه أحمد شاه مسعود، تسيطر على سبع ولايات فقط في شمال ووسط أفغانستان، بينما يسيطر القائد الشيوعي السابق رشيد دوستم على ست ولايات في الشمال، وكانت «شورى ننجرهار» تحكم ثلاث ولايات في الشرق، وإدارة إسماعيل خان تتحكم في غرب أفغانستان، إضافةً إلى الكثير من الولايات التي كانت دون أي نوع من الإدارة، فكانت حركة «طالبان» أملاً للشعب الأفغاني في المحافظة على وحدة البلاد ومنع انشطارها الداخلي.

وكانت للحروب الأهلية الطاحنة التي نشبت بين فصائل المعارضة الأفغانية بسبب الصراع على السلطة، عامل لإقبال قطاعات عريضة من الأفغان على الانضمام إلى الحركة كوسيلة للهروب من ويلات الحرب والبحث عن الاستقرار، حيث أوقعت الصراعات أكثر من 40 ألف ضحية وخسائر مادية جسيمة للبلاد وسط فشل الوسطاء الدوليين لوضع حد لهذا الصراع على السلطة.
وبحلول عام 1998، كانت «طالبان» قد سيطرت على نحو 90% من أفغانستان.

الملا منصور وإيران
كان الملا منصور في طريقه إلى منزله قادماً من زيارة سرّية إلى إيران في مايو عام 2016، وكان يقود سيارته عبر منطقة نائية من جنوب غربي باكستان، عندما اتصل بشقيقه وأقاربه لإخبارهم بقرب وفاته. وكان يعتزم توسيع مصادر الدعم حال استعداده لشن هجوم طموح عبر ثمانية أقاليم داخل أفغانستان، ولقد اعتمد على الاستخبارات العسكرية الباكستانية والمانحين من كبار مهربي المخدرات الأفغان، من أجل تأمين التمويل الرئيسي لحركة «طالبان»، لكنه كان يسعى في الوقت نفسه للحصول على أسلحة وغير ذلك من أشكال الدعم من إيران، وربما من روسيا كذلك. ولقد التقى مسؤولين من كلا البلدين خلال زيارته الأخيرة لإيران، وذلك وفقاً لما ذكرته صحيفة «نيويورك تايمز».
كان تواصل الملا منصور مع إيران يهدف كذلك إلى إخراج حركة «طالبان» من تحت العباءة الباكستانية، وفقاً لمساعده الأسبق وبعض المسؤولين الأفغان؛ وبذلك يمكنه المناورة لإدارة دفة الحرب بحرية أكبر، ويتمكن في الوقت نفسه من التفاوض بشأن عملية السلام، وفق شروطه الخاصة. ومن هنا نشأت الخلافات بينه وبين الجانب الباكستاني وازدادت حدة بمرور الوقت.
وذكرت الصحيفة أن الملا منصور قاوم الأوامر الصادرة من جهاز الاستخبارات الباكستاني بتدمير البنية التحتية –أي المدارس، والجسور، والطرق– بهدف زيادة تكاليف الحرب على الحكومة الأفغانية. كما اعترض على تعيين رجل باكستان المقرب والصقر المتشدد سراج الدين حقاني ليكون نائباً له على الحركة، كما راوغ كثيراً في تنفيذ مطالب باكستان بدفع أجندتها السياسية على جدول أعمال المفاوضات.

والأهم من ذلك، أنه أراد نقل مزيد من السلطات إلى قادة «طالبان» الإقليميين، والسماح لهم بجمع الأموال الخاصة والحرية في اتخاذ القرارات، حتى يتسنى لهم بسط السيطرة على القضية الوطنية الأفغانية وتخفيف قبضة باكستان الحاكمة على الحركة في البلاد.
وقال آخرون من المطلعين على شؤون حركة «طالبان»، بما في ذلك وزير المالية الأسبق للحركة ووسيط السلام أغا جان معتصم، الذي قال إن الملا منصور كان على استعداد للتفاوض بشأن السلام، ولقد أرسل كبار ممثليه عن الحركة لحضور الاجتماعات المتتالية لذلك الغرض في باكستان.
وفي أثناء رحلته الأخيرة لإيران، كان الملا منصور قد توقف في مخيم «غابة غير» للاجئين، وهو أحد مراكز حركة «طالبان» في باكستان، ودعا هناك قادة «طالبان» وشيوخهم إلى عقد اجتماع.
وفي عام 2017 صرح الجنرال عبد الرازق، مدير الأمن في قندهار وأحد أبرز المعارضين لحركة «طالبان» والذي يعرف الحركة تمام المعرفة: «قبل عشرة أيام من مقتله، بعث برسائل إلى القرى وإلى القادة يطلب منهم تبادل وجهات نظرهم بشأن محادثات السلام».
وقال إن الملا منصور كان يبحث عن مصادر جديدة للحماية مع تصاعد خلافاته الكبيرة مع الجانب الباكستاني. مشيراً إلى أن هناك تقارير أفادت بأنه كان يفكر في الهرب، وأنه خشي الاغتيال من جانب باكستان. ولقد أخبر أقاربه بأن العلاقات مع باكستان سيئة للغاية، وأنهم قد يحاولون اغتياله. ولقد كان الملا منصور بمفرده تماماً في يوم مقتله.

الحادي عشر من سبتمبر 2001
بعد الهجمات على مركز التجارة العالمي بالولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر 2001 دخلت حركة «طالبان» بؤرة اهتمام العالم، واتهمت بتوفير ملاذ آمن في أفغانستان لزعيم تنظيم «القاعدة» الراحل أسامة بن لادن وأعضاء التنظيم الذين اتُّهموا بالمسؤولية عن هذه الهجمات وقامت واشنطن بغزو أفغانستان في أكتوبر (تشرين الأول) لإطاحة «طالبان»، ومع حلول نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2001 سقطت العاصمة كابل في يد تحالف قوات الشمال. ولم ينتهِ هذا الشهر حتى سقطت مدن أفغانستان من يد حركة «طالبان». وقد وقع كثير من عناصر «طالبان» في الأسر.
ولاذ الملا عمر ومساعدوه بالفرار. ويُعتقد بوجه عام أنهم لجأوا إلى مدينة كويتا الباكستانية التي كانوا يوجهون منها حركة «طالبان»، لكن إسلام آباد نفت.

وانضم إلى واشنطن، تحالف دولي وتمت الإطاحة سريعاً بحكومة «طالبان» التي كانت تحكم أفغانستان. فتحولت «طالبان» إلى حركة تمرد وشنت هجمات دامية بشكل مستمر على البلاد.
وأنهى التحالف الدولي مهمته القتالية في 2014 لكنه أبقى آلاف العناصر تحت بند تدريب القوات الأفغانية. لكن واشنطن تابعت عملياتها القتالية الخاصة بعد تقليصها في أوقات سابقة، بما فيها الغارات الجوية.
وبين عامي 2010 و 2012، عندما كان لدى الولايات المتحدة أكثر من 100 ألف جندي في البلاد، ارتفعت تكلفة الحرب إلى ما يقرب من 100 مليار دولار سنويا، وفقاً لأرقام الحكومة الأميركية.

وزاد عدد القوات الأميركية في أفغانستان مع ضخ واشنطن مليارات الدولارات لمحاربة تمرد «طالبان»، فضلاً عن تمويل إعادة الإعمار. وقد انخفض هذا العدد إلى 4 آلاف جندي بحلول ديسمبر (كانون الأول) 2020.
ويُعتقد أن الحرب أودت بحياة أكثر من 47 ألف مدني أفغاني ونحو 70 ألف جندي أفغاني، إضافة إلى 2442 جندياً أميركياً وأكثر من 3800 متعاقد أمني خاص أميركي و1144 جندياً من دول التحالف الأخرى.

التفجيرات والهجمات
بعد مقتل الملا منصور تم اختيار مولوي هبة الله أخوند زاده، رجل الدين عديم الخبرة العسكرية ليتزعم حركة «طالبان». ورغم ذلك، لم تنل أفغانستان الكثير من الراحة منذ مقتل الملا منصور، حيث استولى الصقور بين صفوف الحركة على مقاليد الأمور وضاعفوا من الهجمات والعمليات بغية الاستيلاء على السلطة.

خلال السنوات الماضية، زاد اعتماد «طالبان» كذلك على تفجير عبوات ناسفة على جوانب الطرق كسبيل لمحاربة «ناتو» والقوات الأفغانية، ويشير بعض التقارير إلى قول وزارة الداخلية الأفغانية إن «طالبان» مسؤولة عن قتل ما يزيد على 1800 فرد من قوات الشرطة الوطنية الأفغانية عام 2012، ونحو 800 فرد من جنود الجيش الوطني الأفغاني في تفجير قنابل على جوانب الطرق خلال الفترة نفسها.

وفي ظل تلك الحياة غير المستقرة، نزاح الآلاف من الأفغان، وشكّلوا 10.6% من طالبي اللجوء في الاتحاد الأوروبي عام 2020 (ما يزيد قليلاً على 44 ألفاً من أصل 416600 طلب)، وهم ثاني أكبر مجموعة بعد السوريين (15.2%)، وفق وكالة «يوروستات» الأوروبية للإحصاء.

خريطة طريق للسلام
بدأت المحادثات منذ عام 2011 حين استضافت قطر قادة «طالبان» الذين انتقلوا إليها لبحث السلام في أفغانستان. ولكن كان مسار المحادثات متأرجحاً. وافتتحت «طالبان» مكتباً سياسياً في الدوحة عام 2013 ثم أُقفل في السنة نفسها وسط خلافات بشأن رفع أعلام التنظيم.
وفي ديسمبر عام 2018، أعلن قادة «طالبان» أنهم سيلتقون مسؤولين أميركيين لمحاولة إيجاد «خريطة طريق للسلام». لكن الحركة المتشددة استمرت في رفضها إجراء محادثات رسمية مع الحكومة الأفغانية، التي وصفتها بأنها مجموعة «دمى» أميركية، وفقاً لما ذكرته هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي».

وبعد تسع جولات من المحادثات بين الولايات المتحدة وحركة «طالبان» في قطر توصل الجانبان إلى اتفاق. وأعلن كبير مفاوضي الجانب الأميركي في سبتمبر أن الولايات المتحدة ستسحب 5400 جندي من أفغانستان خلال 20 أسبوعاً كجزء من اتفاق تم التوصل إليه «مبدئياً» مع مقاتلي «طالبان».
وفي فبراير (شباط) من العام الجاري، وقّعت واشنطن اتفاقاً مع حركة «طالبان» في الدوحة، لسحب الجنود الأميركيين من أفغانستان ضمن فترة 14 شهراً، ووقّع الاتفاق المفاوض الأميركي زلماي خليل زاد، ورئيس المكتب السياسي لـ«طالبان» ونائب زعيمها الملا عبد الغني برادر، بحضور وزير الخارجية الأميركي الأسبق مارك بومبيو وممثلين لعشرات الدول.

ووفق بيان مشترك لواشنطن وكابل، ستقوم الولايات المتحدة وحلفاؤها بسحب جميع القوات من أفغانستان خلال 14 شهراً إذا التزمت حركة «طالبان» بضمانات أمنية ينص عليها اتفاق الدوحة.
ومنذ توقيع اتفاق الدوحة، امتنع متمردو «طالبان» عن مهاجمة القوات الأجنبية بشكل مباشر. إلا أنهم بدوا بلا رحمة مع القوات الحكومية التي لم يتوقفوا عن مهاجمتها في الأرياف مع بثّ الرعب في المدن الكبيرة من خلال تنفيذ هجمات موجّهة.

بدء الانسحاب الأميركي
حققت حركة «طالبان» مكاسب إقليمية هائلة، منذ بدء انسحاب القوات الدولية في أوائل مايو، وتحديد الرئيس الأميركي جو بايدن، أن 31 أغسطس الجاري الموعد النهائي للانسحاب الأميركي الكامل من أفغانستان، والذي أعلن أنه غير نادم على إصداره أمر سحب القوات الأميركية، وناشد بايدن القيادة السياسية الأفغانية أن تتماسك. ووعد بأن تواصل الولايات المتحدة تقديم الدعم المالي والعسكري لقوات الأمن الأفغانية، وقال إنه سيتم إطلاعه على الوضع بشكل يومي.

سيطرت «طالبان» على مدينة غزنة الواقعة على بُعد 150 كلم فقط عن كابل، وفق ما قال نائب محلي بارز لوكالة الصحافة الفرنسية اليوم (الخميس)، لتصبح بذلك عاشر عاصمة ولاية أفغانية تسقط في أيدي المتمرّدين خلال أسبوع.
وغزنة هي أقرب عاصمة ولاية من كابل يحتلها المتمردون منذ أن شنوا هجومهم في مايو مع بدء انسحاب القوات الأجنبية الذي من المقرر أن يُستكمل بحلول نهاية الشهر الحالي.
ومساء الثلاثاء احتل المتمردون بول الخمري عاصمة ولاية بغلان على بُعد 200 كيلومتر شمال كابل، وبالتالي باتوا يقتربون من العاصمة من الشمال والجنوب في آن.

وغزنة التي سقطت لفترة وجيزة في 2018 هي أكبر مكسب لـ«طالبان» حتى الآن مع قندوز، المحور الاستراتيجي في شمال شرقي البلاد، بين كابل على بُعد 300 كيلومتر إلى الجنوب وطاجيكستان.
حتى إذا كانت «طالبان» موجودة منذ فترة في ورداك ولوغار على بُعد عشرات الكيلومترات من كابل، فإن سقوط غزنة إشارة مقلقة للغاية للعاصمة.
هذه المدينة هي أيضاً نقطة مهمة على المحور الرئيسي الذي يربط كابل بقندهار، ثاني كبرى مدن أفغانستان إلى الجنوب. ويسمح الاستيلاء عليها للمتمردين بقطع خطوط الإمداد البرية للجيش إلى الجنوب.



موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
TT

موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)

يشكّل تحديث العقيدة النووية لروسيا الذي أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً، تحذيراً للغرب، وفتحاً ﻟ«نافذة استراتيجية» قبل دخول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب البيت الأبيض، وفق تحليل لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية.

«إن تحديث العقيدة النووية الروسية يستبعد احتمال تعرّض الجيش الروسي للهزيمة في ساحة المعركة»، بيان صادر عن رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية، سيرغي ناريتشكين، لا يمكن أن يكون بياناً عادياً، حسب «لوفيغارو». فمن الواضح، حسب هذا التصريح الموجه إلى الغربيين، أنه من غير المجدي محاولة هزيمة الجيش الروسي على الأرض، لأن الخيار النووي واقعي. هذه هي الرسالة الرئيسة التي بعث بها فلاديمير بوتين، الثلاثاء، عندما وقّع مرسوم تحديث العقيدة النووية الروسية المعتمد في عام 2020.

ويدرك الاستراتيجيون الجيوسياسيون الحقيقة الآتية جيداً: الردع هو مسألة غموض (فيما يتعلّق باندلاع حريق نووي) ومسألة تواصل. «وفي موسكو، يمكننا أن نرى بوضوح الذعر العالمي الذي يحدث في كل مرة يتم فيها نطق كلمة نووي. ولا يتردد فلاديمير بوتين في ذكر ذلك بانتظام، وفي كل مرة بالنتيجة المتوقعة»، حسب الصحيفة. ومرة أخرى يوم الثلاثاء، وبعد توقيع المرسوم الرئاسي، انتشرت موجة الصدمة من قمة مجموعة العشرين في كييف إلى بكين؛ حيث حثّت الحكومة الصينية التي كانت دائماً شديدة الحساسية تجاه مبادرات جيرانها في ما يتصل بالمسائل النووية، على «الهدوء» وضبط النفس. فالتأثير الخارق الذي تسعى روسيا إلى تحقيقه لا يرتبط بالجوهر، إذ إن العقيدة النووية الروسية الجديدة ليست ثورية مقارنة بالمبدأ السابق، بقدر ارتباطها بالتوقيت الذي اختارته موسكو لهذا الإعلان.

صورة نشرتها وزارة الدفاع الروسية في الأول من مارس 2024 اختبار إطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات تابع لقوات الردع النووي في البلاد (أ.ف.ب)

العقيدة النووية الروسية

في سبتمبر (أيلول) الماضي، وفي حين شنّت قوات كييف في أغسطس (آب) توغلاً غير مسبوق في منطقة كورسك في الأراضي الروسية، رد فلاديمير بوتين بتحديد أنه يمكن استخدام الأسلحة النووية ضد دولة غير نووية تتلقى دعماً من دولة نووية، في إشارة واضحة إلى أوكرانيا والولايات المتحدة. لكن في نسخة 2020 من الميثاق النووي الروسي، احتفظت موسكو بإمكانية استخدام الأسلحة الذرية أولاً، لا سيما في حالة «العدوان الذي تم تنفيذه ضد روسيا بأسلحة تقليدية ذات طبيعة تهدّد وجود الدولة ذاته».

وجاء التعديل الثاني في العقيدة النووية الروسية، الثلاثاء الماضي، عندما سمحت واشنطن لكييف باستخدام الصواريخ بعيدة المدى: رئيس الكرملين يضع ختمه على العقيدة النووية الجديدة التي تنص على أن روسيا ستكون الآن قادرة على استخدام الأسلحة النووية «إذا تلقت معلومات موثوقة عن بدء هجوم جوي واسع النطاق عبر الحدود، عن طريق الطيران الاستراتيجي والتكتيكي وصواريخ كروز والطائرات من دون طيار والأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت». وحسب المتخصصة في قضايا الردع في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (إيفري)، هيلواز فايت، فإن هذا يعني توسيع شروط استخدام السلاح النووي الروسي.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يصافح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب خلال اجتماع على هامش قمة مجموعة العشرين في أوساكا باليابان 28 يونيو 2019 (رويترز)

انتظار عودة ترمب

لفترة طويلة، لاحظ صقور الاستراتيجية الجيوستراتيجية الروسية أن الردع الروسي تلاشى. وبالنسبة إليهم، فقد حان الوقت لموسكو لإعادة تأكيد خطوطها الحمراء من خلال «إعادة ترسيخ الخوف» من الأسلحة النووية، على حد تعبير سيرغي كاراجانوف، الخبير الذي يحظى باهتمام فلاديمير بوتين. ةمن هذا المنظار أيضاً، يرى هؤلاء المختصون اندلاع الحرب في أوكرانيا، في 24 فبراير (شباط) 2022، متحدثين عن «عدوان» من الغرب لم تكن الترسانة النووية الروسية قادرة على ردعه. بالنسبة إلى هؤلاء المتعصبين النوويين، ينبغي عدم حظر التصعيد، بل على العكس تماماً. ومن الناحية الرسمية، فإن العقيدة الروسية ليست واضحة في هذا الصدد. لا تزال نسخة 2020 من العقيدة النووية الروسية تستحضر «تصعيداً لخفض التصعيد» غامضاً، بما في ذلك استخدام الوسائل غير النووية.

وحسب قناة «رايبار» المقربة من الجيش الروسي على «تلغرام»، فإنه كان من الضروري إجراء تحديث لهذه العقيدة؛ لأن «التحذيرات الروسية الأخيرة لم تُؤخذ على محمل الجد».

ومن خلال محاولته إعادة ترسيخ الغموض في الردع، فإن فلاديمير بوتين سيسعى بالتالي إلى تثبيط الجهود الغربية لدعم أوكرانيا. وفي ظل حملة عسكرية مكلفة للغاية على الأرض، يرغب رئيس «الكرملين» في الاستفادة من الفترة الاستراتيجية الفاصلة بين نهاية إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ووصول الرئيس المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، الذي يتوقع منه بوتين مبادرات سلام محتملة لإنهاء الحرب.

يسعى بوتين، وفق الباحثة في مؤسسة «كارنيغي»، تاتيانا ستانوفايا، لوضع الغرب أمام خيارين جذريين: «إذا كنت تريد حرباً نووية، فستحصل عليها»، أو «دعونا ننهي هذه الحرب بشروط روسيا».