لبنان.. «العرف» دستور خفي

حكومات تؤلف خلافا للنصوص الدستورية.. والوزارات «مغانم»

لبنان.. «العرف» دستور خفي
TT

لبنان.. «العرف» دستور خفي

لبنان.. «العرف» دستور خفي

ينص الدستور اللبناني على قواعد واضحة تنظم عملية تأليف الحكومات وطريقة عملها، وكيفية استقالتها. غير أن هذه النصوص تصبح بمثابة الحبر على ورق عندما يتدخل «العرف» في أدق التفاصيل، خصوصا عندما يكون العرف دستورا، إذ يكاد يكون جزءا من الدستور نفسه لكنه غير مكتوب.. فقط «تفاهم» الزعماء حوله.
ويعد الدستور اللبناني «العرف» مصدرا للتشريع، أي بمعنى أن كل ما يتعارف عليه بين مكونات المجتمع اللبناني يصبح عرفا، إذا لم يعترض عليه أحد، وإذا استمر العمل به فترة طويلة. وأول الأعراف التي ابتدعها اللبنانيون كان التقاسم الطائفي للسلطة عام 1943. حينها اجتمع الزعماء اللبنانيون وتوافقوا على تقاسم السلطة بين المسيحيين والمسلمين، بحيث ينال المسيحيون 6 نواب مقابل 5 للمسلمين، وأن تكون رئاسة الجمهورية للموارنة، وكذلك قيادة الجيش وقيادة الأمن العام، فيما ينال المسلمون رئاستي مجلس النواب (الشيعة) والحكومة (السنة). لم يكن ثمة نص مكتوب، لكن تغيير هذا العرف استلزم حروبا أهلية طاحنة انتهت آخرها عام 1990 باتفاق الطائف الذي أقر المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، لكن هذه المرة بنص مكتوب، فيما بقي توزيع الرئاسات الثلاث «عرفا» معمولا به حتى اليوم.

أتى اتفاق الطائف يكرس العرف الطائفي بنص دستوري مكتوب، لكنه أضاف أيضا عرفا آخر غير مكتوب أتى بمثابة حل لمطالبة الطائفة الشيعية بتمثيلها في «توقيع» القوانين، حيث اقترح بداية رئيس مجلس النواب الحالي نبيه بري، في محادثات السلام التي عقدت في جنيف ولوزان منتصف الثمانينات، أي قبل التوصل إلى اتفاق الطائف عام 1989، أن يصار إلى استحداث منصب نائب رئيس الجمهورية، بحيث يسند إلى الطائفة الشيعية لتشترك الطائفة في توقيع القوانين من خلاله، علما بأن حق توقيع القوانين يعود لرئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء بالإضافة إلى الوزراء كل حسب اختصاصه، لكن هذا الاقتراح لم يبصر النور لمخالفته النظام البرلماني الذي لا يلحظ منصب نائب الرئيس.
وتجدد الاقتراح خلال المناقشات التي كانت تجري لإقرار الطائف من قبل رئيس مجلس النواب حسين الحسيني، لكنه لم يبصر النور أيضا. وقيل حينها إن تسوية جرت في الكواليس تقضي بالتعهد بإعطاء وزارة المال إلى الشيعة، كون وزير المال يوقع معظم القوانين التي تتعلق بإنفاق مالي، مما يجعله شريكا في القرار.
مشى هذا التقليد، في عدة حكومات، فكان النائب علي الخليل وزيرا للمال في حكومة الرئيس سليم الحص، في أول عهد الرئيس إلياس الهراوي الذي انتخب إثر تسوية الطائف، فيما أعطيت وزارة الدفاع إلى طائفة الروم الأرثوذكس، ووزارة الداخلية للموارنة، ووزارة الخارجية للطائفة السنية. وهذه الوزارات اصطلح على تسميتها بالوزارات السيادية التي تسند للطوائف الأربع الكبرى (الموارنة والسنة والشيعة والأرثوذكس)، فيما تتوزع بقية الحقائب الوزارية على بقية الطوائف. وفي الحكومة التي تلتها، والتي ألفها الرئيس عمر كرامي، حافظ الأخير على التقليد، فأسند وزارة المال إلى الوزير الخليل، لكنه أسند الداخلية إلى سني والخارجية إلى ماروني والدفاع إلى أرثوذكسي. وكذلك فعل الرئيس رشيد الصلح في حكومته التي كانت الثالثة في عهد الهراوي، والثانية بعد إقرار الطائف وتعديل الدستور، فكانت وزارة المال من نصيب الوزير أسعد دياب. وأسند أيضا الداخلية إلى سني والخارجية إلى ماروني والدفاع إلى أرثوذكسي.
ولم يصمد التقليد، ليتحول عرفا. ففي عام 1995 وصل الرئيس الراحل رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة. ولما كان مشروعه الاقتصادي يحتاج إلى حضور وازن لوزارة المال، طالب بإسناد الحقيبة إلى أحد المقربين منه، فؤاد السنيورة، لكن الأمر ووجه بالرفض، فكانت التسوية أن يكسر العرف من أجل الحريري لا من أجل غيره، فأسندت إليه الحقيبة، فيما عين السنيورة وزير دولة للشؤون المالية للقيام بمهام وزير المال التي لن يقوى الحريري على القيام بها بسبب التزاماته الأخرى. حينها أسندت وزارة الدفاع إلى الشيعة، فيما بقيت وزارة الخارجية من نصيب رئيس الجمهورية عبر صهره الوزير فارس بويز (ماروني) الذي شغل المنصب في الحكومتين السابقتين. وذهبت وزارة الداخلية إلى طائفة الروم الأرثوذكس.
وفي حكومة الحريري الثانية، تكرر السيناريو نفسه في التوزيع الطائفي، مما كسر العرف نهائيا ومهد في وقت لاحق لتولي السنيورة الحقيبة مباشرة، كما سمح للرئيس سليم الحص الذي شكل الحكومة بعد اعتذار الحريري عن عدم ترؤس أولى حكومات عهد الرئيس إميل لحود، بتعيين مسيحي من طائفة الروم الأرثوذكس في وزارة المال، وبقيت الدفاع مع الشيعة، فيما ذهبت الخارجية إلى الطائفة السنية، وبقيت الداخلية مع الأرثوذكس.
ومع عودة الحريري إلى الحكم بعد فوزه الساحق في انتخابات عام 2000، عادت المالية إلى وصايته، عبر السنيورة، فيما ذهبت الخارجية إلى الشيعة، للمرة الأولى، لتكرس في ما بعد عرفا بإعطاء هذه الوزارة للطائفة الشيعية لا يزال مستمرا حتى اليوم، مع خرق وحيد كان في حكومة الحريري الثانية، عندما أسندت الخارجية إلى وزير ماروني، وأعطيت فيها وزارة الدفاع للشيعة.
وفي حكومة الرئيس عمر كرامي التي تلتها في عام 2003، كانت وزارة الخارجية من نصيب الشيعة، ووزارة المال من نصيب الأرثوذكس، والدفاع للسنة والداخلية للموارنة. وفي حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي تلت اغتيال الرئيس الحريري وسقوط حكومة كرامي، كانت وزارة المال من نصيب ماروني، ووزارة الدفاع من نصيب أرثوذكسي، ووزارة الداخلية من نصيب سني، فيما بقيت الخارجية مع الشيعة. واعتمد الترتيب نفسه في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى بعد انتخابات عام 2005، أما في حكومة السنيورة الثانية التي شكلت بعد تسوية الدوحة، والاتفاق الشهير الذي مهد لوصول الرئيس ميشال سليمان إلى السلطة، فقد أسندت وزارة الداخلية إلى ماروني، ووزارة الدفاع إلى أرثوذكسي، فيما أعطيت وزارة المال إلى السنة (الوزير محمد شطح الذي اغتيل في ديسمبر/ كانون الأول، الماضي)، وبقيت الخارجية شيعية.
وفي أولى حكومات الرئيس سعد الحريري، كان الترتيب ذاته: الخارجية شيعية، والمالية سنية والدفاع أرثوذكسية، والداخلية مارونية، وهو الترتيب نفسه الذي تكرر مع حكومة نجيب ميقاتي عام 2011 بعد إسقاط حكومة الحريري.
وإذا كانت «الوزارات السيادية» هي الأكثر أهمية، بالنسبة إلى الطوائف الكبرى، فإن بعض الوزارات تعطى أهمية وفقا لحاجات من يتولاها من الفرقاء السياسيين. فرئيس مجلس النواب نبيه بري رفض أن يدخل الحكومة الأولى في عهد الرئيس الهراوي، إلى أن أسندت إليه وزارة خاصة بالجنوب أعطته القدرة على تنفيذ المشاريع المختلفة في منطقة الجنوب التي يتركز فيها نفوذه السياسي والانتخابي. واستفاد بري من هذه الوزارة لتعزيز حضوره شعبيا عبر مشاريع المدارس والطرقات ومشاريع الري وسواها، ولهذا أيضا حافظ قدر الإمكان على وزارة الطاقة والموارد المائية التي بقيت من نصيب وزراء من حصته لفترة طويلة.
أما النائب وليد جنبلاط فكانت له وزارة مماثلة، هي وزارة المهجرين، التي سمحت له بتعزيز نفوذه في مناطق جبل لبنان، من حيث التقديمات. كما كانت وزارة الأشغال من حصته في معظم الوزارات التي شارك فيها بفريقه السياسي.
أما الرئيس رفيق الحريري فكان اهتمامه الأول اقتصاديا - ماليا - إعماريا. ولهذا سعى دائما للحصول على وزارات تتعلق بهذه المشاريع، فيما كان الرئيس إلياس الهراوي مهتما بمنصب وزير الخارجية. أما الجنرالان الآخران اللذان قدما إلى الرئاسة لاحقا، أي الرئيس إميل لحود والرئيس ميشال سليمان، فقد حرصا على نيل الوزارات الأمنية والعسكرية، فكانت وزارتا الدفاع والداخلية من حصتهما الدائمة.
وتبقى لكل وزارة قصتها وأهميتها، وفقا لحاجة الزعماء السياسيين إليها. فحلفاء سوريا كانوا يحصلون دائما على وزارة العمل التي تعنى بشؤون العمالة - وأكثرها في لبنان سورية - فكان يتولاها وزراء بعثيون أو وزراء من الحزب السوري القومي الاجتماعي، بشكل حصري. وعندما خرج الحزبان من الحكومة بعد عام 2005، تولاها حزب الله. أما وزارة الاتصالات فقد لمع نجمها مع دخول الجوال إلى لبنان، ومداخيله الهائلة. ثم تحولت الوزارة إلى حاجة أمنية، مع بدء عمليات الاغتيال وحاجة التحقيقات إلى تعاونها. وقد لقي المحققون صعوبات بالغة في التعامل مع هذه الوزارة عندما تولاها أعضاء في قوى «8 آذار». أما وزارة الطاقة والمياه فقد تحولت بين ليلة وضحاها إلى «سوبر وزارة» مع الاكتشافات النفطية الواعدة. ولهذا يتمسك بها النائب ميشال عون لتكون من حصة صهره وزيرها الحالي، فيما ينافسه عليها الرئيس بري الذي كان أول من أثار قضية التراخي اللبناني في التعامل مع ثروته النفطية، وطالما رفع الصوت عاليا لاستغلال هذه الثروة. وقد وصل الأمر بالوزير باسيل إلى ربط الوزارة بـ«حقوق المسيحيين» في لبنان، معتبرا أن «حقيبة النفط هي ضمانة جديدة للمسيحيين، فيها الإنماء المتوازن الغائب عنهم منذ 25 عاما»، متسائلا «هل يجوز حرمان الكتلة المسيحية الكبرى من حقيبة سيادية؟ ومن واجب المسيحيين أن يجمعوا على الأمر، فالكتلة المسيحية الكبرى هي يوم لنا ويوم لغيرنا، فهل يجوز أن يُحرم المسيحيون من حقيبة سيادية، وتُترك للمسيحيين مجددا الحقيبتان السياديتان الأقل شأنا؟ وهل أصبح دور المسيحيين فلكلورا؟ إن المسيحيين في هذا الوطن لا يمنع عنهم شيء لأنهم ضمانة كل شيء، وهم ليسوا متسولي مقاعد وحقائب». فكان أن دخل حزب الكتائب في بازار التنافس عارضا تسلمه هو هذه الحقيبة.

* التقسيم الطائفي

* منذ إقرار اتفاق الطائف، تمت المناصفة في مقاعد الحكومة بين المسيحيين والمسلمين. وتنص المادة 95 من الدستور اللبناني على أن «تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة». غير أن العرف تدخل مجددا في التقسيم، حيث ينص العرف غير المكتوب، كما يشير أحمد زين، الخبير القانوني اللبناني، على أن تكون الطوائف الثلاث الكبرى، الموارنة والسنة والشيعة، ممثلة بالعدد نفسه من الوزراء، فيما تذهب بقية المقاعد إلى الطوائف الأخرى. وهكذا انحصر التمثيل لدى الطوائف الإسلامية في السنة والشيعة والدروز الذين ينالون حصة مؤلفة من وزيرين إذا كانت الحكومة من 30 وزيرا. وهو رقم اعتمده الرئيس الراحل رفيق الحريري لتأمين مشاركة أكبر قدر ممكن من الطوائف. فالأقليات المسيحية يمكن أن تتمثل في وزارة من 30، فيما لا تمثل في وزارة من 24 كالتي هي مطروحة الآن. أما الأرمن فلا يحصلون على وزير إذا نقص عدد الوزراء عن 18. ويبقى العلويون، الذين لم تشملهم نعمة الوزارة أبدا، على الرغم من النفوذ السوري الكبير خلال التسعينات، فهم يحتاجون إلى وزارة من 35 مقعدا ليكون لهم ممثل فيها.
ويرفض الوزير السابق إدمون رزق نظرية تخصيص حقيبة لطائفة ما، مؤكدا أنه لم يجر في مداولات الطائف أي شيء في هذا الصدد. ويقول رزق «عندما كنا في (اجتماعات) الطائف، انطلقنا من مبدأ يقول إن لبنان بلد تعددي لا تمايز فيه لأحد». وأشار إلى أنه تقصد عندما عهد إليه وضع صيغة التعديلات الدستورية إيراد فقرة في المادة 95 تنص على إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقا لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها وما يعادل الفئة الأولى، وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أي وظيفة لأي طائفة مع التقيد بمبدأي الاختصاص والكفاءة.
ويرى أن البحث في «المداورة» هو هرطقة لأنه ليس المطلوب المداورة بين الطوائف في الوزارات، بل وضع الوزراء في مكانهم المناسب من حيث الكفاءة والخبرة، مشددا على أن الوزارات «ليست إرثا، إنما هي مسؤولية في رقاب من يتولاها»، معتبرا أن الحديث عن المداورة يبيت في طياته المحاصصة. ويرى رزق أن ما يجري الآن هو التفتيش عن الحلول في المكان الخطأ، معتبرا أن «لبنان يحتاج اليوم إلى تنمية روح المواطنة وتجاوز العصبية الطائفية والمذهبية ومكافحة استفحال التكسبية العائلية».
ويشير رزق إلى تجربته كوزير عدل، حيث وصل إلى الوزارة فأجرى تعيينات شملت تعيين رئيس لمجلس القضاء الأعلى من الطائفة السنية، للمرة الأولى والأخيرة في تاريخ لبنان، حيث من المتعارف عليه أن يكون الرئيس مارونيا، كما عين قاضيا سنيا في مركز رئيس استئناف بعبدا الذي جرى العرف أن يكون مارونيا أيضا. لكن هذه التجربة انتهت مع رزق، فعادت الأمور إلى نصابها الأول بعد رحيله عن الوزارة ورحيل من عينهم.

* تأليف الوزارة.. بيد من؟

* السؤال من الصعب الإجابة عنه.. فقديما كان أمر تأليف الحكومة بيد رئيس الجمهورية الذي يختار رئيس الحكومة ويصدر معه التشكيلة الوزارية بعد جولة مشاورات، لكن عهد ما بعد الطائف حمل عرفا آخر تمثل بحق القوى السياسية في اختيار الوزراء والحقائب.
وينص الدستور على أن رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف وحدهما من يحق لهما تأليف الحكومة وتوقيع مرسوم تشكيلها، غير أن الواقع يشير إلى شيء مختلف، يصبح معه توقيع رئيس الجمهورية «إجراء شكليا» إلى حد بعيد، في ظل تنامي نفوذ القوى السياسية المتحكمة بالبرلمان. وهكذا يجد رئيس الجمهورية نفسه صاحب الحصة الأقل في الحكومة، فيما يضطر رئيس الحكومة إلى إجراء مفاوضات شاقة، تبعا لقوته البرلمانية.
ورغم أن العرف السائد هو بمثابة «الهرطقة» كما يؤكد رزق وغيره من الدستوريين، فإنه أمر واقع لا مفر منه. ويشير رزق إلى أنه اختير في عام 1973 ليكون وزيرا، من دون استشارة حزبه (حزب الكتائب) آنذاك، ومن دون اعتراض أحد.



هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.