شعراء كأنهم مديرو علاقات عامة وآخرون زاهدون حتى الغياب

نوعان مختلفان تمام الاختلاف

محمود البريكان - عبد الوهاب البياتي - نزار قباني - حسب الشيخ جعفر
محمود البريكان - عبد الوهاب البياتي - نزار قباني - حسب الشيخ جعفر
TT

شعراء كأنهم مديرو علاقات عامة وآخرون زاهدون حتى الغياب

محمود البريكان - عبد الوهاب البياتي - نزار قباني - حسب الشيخ جعفر
محمود البريكان - عبد الوهاب البياتي - نزار قباني - حسب الشيخ جعفر

للشعراء طرقٌ كثيرةٌ للتعبير عن ذواتهم، والإعلان عن وجودهم، بصفتهم تجارب شعرية ثابتة على الأرض، ولكن على ما يبدو أن هناك اتجاهين أو خطين واضحين لمثل هذا الإعلان؛ هذان الخطان مختلفان تمام الاختلاف: الأول هو الخط الذي يتبنَّى الروح الدعائية، بحيث يتحول الشاعر إلى مدير علاقات عامة، يتواصل مع الجميع، ويعرف الجميع، وتجده حاضراً في أغلب الفعاليات، مشاركاً أو ضيفاً، وهذه كلها طاقات إضافية تضاف من خارج الشعر لتدعم المشروع الشعري، ولكنها في الوقت نفسه تسحب شاعرها للخوض في عالم العلاقات العامة الذي يخدم الشاعر -كما يظن. وأعتقد أن أكثر الشعراء العراقيين الذين يمكن أن نصفهم بهذه الخصيصة الشاعر عبد الوهاب البياتي، ومن العرب الشاعر نزار قباني، فحضورهما وعلاقاتهما تشيان بهذا الأمر بشكل واضح جلي.
وهذا الأمر لا يعني أنهما غير شاعرين، وأنهما من دون هذه العلاقات لا شيء لديهما، ولكن الظاهر عليهما أنهما انهمكا كثيراً بمسألة العلاقات العامة التي تخدم القصيدة. ومن هذين الشاعرين الكبيرين تناسل عدد من الشعراء توزعوا على أجيال مختلفة من الثقافة العربية، والعراقية على وجه التحديد، ليظهر لنا بين مدة وأخرى شعراء يشبهون البياتي وقبَّاني في طريقة إدارتهم لموهبتهم الشعرية. وهذا الأمر ليس خطأً أو حكماً معيارياً يسيء لهم، إنما توصيف لعدد من الشعراء في إدارة الموهبة الشعرية، وهي منطقة مختلفة تماماً عن موهبة الشعر، وكتابة القصيدة، ويقترب توصيف هؤلاء الشعراء من المصطلح الذي أطلقه فوزي كريم (شعراء الراية)، على الرغم من أن حديثه كان يتجه نحو الشعراء المؤدلجين، إلا أن المقاربة مع هذا المصطلح تتجه نحو فكرة الظهور وحب الوجود الدائم.
الاتجاه الآخر هم الشعراء الذين لا علاقة لهم بأي شيء مما ذكرناه أعلاه؛ لا ينشغلون بالعلاقات العامة، ولا يهمهم أن يكونوا شعراء معروفين، وليس لهم همٌّ سوى أن يكتبوا قصيدة، سواء وصلت للجمهور أم لم تصل، لم يحزنوا لأنهم لم يُدعوا لمهرجان، بل عدد كبير منهم يُدعى للمهرجان فيعتذر، تجدهم زاهدين بالأضواء واللقاءات، مكتفين بقلق الشعر وحزنه، ملتفين مع القصيدة فقط، على الرغم من أنهم مهمومون بتطوير النص الشعري، حاضرون على مستوى الفكر والوعي بمستويات القصيدة، وأين وصلت التجارب العالمية من ذلك، ولكنهم في الوقت نفسه يحملون صفة التقشف في اللغة، وفي العلاقات العامة، وفي الحضور، وفي كل شيء، لم يدخلوا بسجالات أو صراعات الأجيال التي تشبه صراعات الديكة، ولم يكونوا مهمومين بأن يكتبوا بيانات شعرية، ولم يحفلوا كثيراً بنشر نصوصهم.
أعتقد أن أشهر هؤلاء الشعراء الذين اعتزلوا الحياة الثقافية بشكل شبه نهائي محمود البريكان، ذلك الشاعر الذي يتحدث كثيرون عنه، وعن أهميته في الحداثة الشعرية العربية، بل وصل الحال أن يروي البريكان لمجموعة من أدباء البصرة في جلسة خاصة، كما يرويها الناقد د. سلمان الكاصد، حيث يقول إنهم سألوه عن دوره في حركة الشعر الحر، وأين محله ومحل السياب، فرد عليهم مشبهاً نفسه بالغوَّاص (غاص إلى أعماق البحر، واستخرج لؤلؤة وصعد بها، إلا أنه اختنق في البحر، فمدَّ يده التي تحمل اللؤلؤة، فاختطفها السياب). وهذا الكلام في غاية الخطورة والحساسية، تصوروا أن من يرى نفسه رائد الشعر الحديث في العالم العربي، ولكنه زاهد في نشر قصائده، ولم يبالِ إن ذكر اسمه أم لا، على الرغم من حرصه الشديد على نصوصه التي يُقال إنه كان يخبئها في مصرف في البصرة، بصفتها ودائع ثمينة. البريكان يقف في مقدمة الشعراء الذين زهدوا بكل شيء، بالحضور والنشر والأصدقاء والحوارات، واكتفى بمجموعة صغيرة جداً من أدباء البصرة، يراهم بين مدة وأخرى.
ومثل البريكان يأتي الشاعر حسب الشيخ جعفر الذي تجده غير مكترث بصراعات جيله، على الرغم من أنه أحد أهم الأسماء الشعرية فيه، ولكنه غير مبال على الإطلاق بما يدور حوله، حتى أنه لا يعرف كثيراً من الدراسات التي كُتبت عنه، ويصل الحال أن تُسمى إحدى دورات «المربد الشعري» باسمه، لكنه يعتذر عن الحضور مكتفياً بالصمت في بيته. كما أنه دُعي إلى سويسرا في إحدى المرات في مهرجان كبير، ولكنه اعتذر قبل المهرجان بأيام، وحين سئل عن عدم حضوره إلى سويسرا، قال «ما لي خلك»؛ أي إن مزاجه لا يسمح له بالسفر.
ربما يقول بعضهم إنَّ مثل هذه التصرفات تقع في خانة عدم المسؤولية واللامبالاة، وإنها ليست خصيصة تنفع الشاعر، ولكن الواقع أن حسب الشيخ جعفر ونموذجه أو نموذج البريكان كلما تكثف احتجابهم سُلِّط الضوءُ عليهم، وهذا ما سماه الدكتور «حيدر سعيد» بـ«شهوة الغياب»، في إحدى دراساته في ملف عن «البريكان» نشر في مجلة الأقلام بعد مقتله، بما معناه أنه مثلما للحضور والاندفاع نحو الظهور شهوة عارمة، فإن ذلك تقابله شهوة للغياب لا تقل أهمية عن الحضور، إلا أن «حسب الشيخ جعفر» غير مهتم أيضاً بحضوره أو غيابه، هو مهموم بالقصيدة وكتابتها، ولكنه مهتم بطباعة دواوينه. ففي زيارتنا الأخيرة له مع الدكتور «حسن ناظم»، وزير الثقافة، كان مهتماً بطباعة أعماله الشعرية، ويسأل عن تفصيلات دقيقة، ومن ثم تحدث عن أعماله النثرية، فأبدت الوزارة استعدادها لطباعة تلك الأعمال أيضاً.
إن هذه المسألة تنم عن حرص الشيخ جعفر على شعره، ووعيه بأهمية حضور ديوانه المطبوع بدلاً عنه، وهذا ما اختلف به عن البريكان الذي كان رافضاً لطباعة أي عملٍ من أعماله الشعرية.
بقيت ظلال البريكان وحسب الشيخ جعفر تمتدان على أسماء محددة من الأجيال التي تلتهما. فعلى الرغم من الانفتاح الكبير الذي نعيشه، واقتحام مواقع التواصل الاجتماعي حياتنا بشكل كبير، فإن هناك عدداً من الشعراء أصيبوا بعدوى الاحتجاب المؤقت أو الدائم، أو لأكن دقيقاً أصيبوا بعدوى الزهد بكثير من مظاهر الحياة الشعرية، فلم تكن تشغلهم كثيراً قضية المهرجانات ولا اللقاءات، ولم ينتموا للجروبات الشعرية التي تنتج شللاً متعاضدة بعضها مع بعض كأنها أقرب للأدلجة، هؤلاء أبناء الشعر المخلصون، وكم من الشعراء الرائعين أكلتهم الأيام واختفت أسماؤهم في طيات السنين، فيما هم يملكون من الإبداع ما لا يملكه شعراء الإعلان، إذا صحت التسمية. وأود هنا أن أمر -ولو سريعاً- على اسمين مهمين من شعرائنا: الأول من الشعراء الشباب، والثاني من جيلنا التسعيني.
علي عمار، شاعر شاب يسكن في ناحية الغراف في الناصرية، تعرفت عليه في مواقع التواصل الاجتماعي، وأظنه بسبب إشارة من الشاعر عماد جبار، حيث نوَّه بشاعريته، وحين قرأت له وجدته شاعراً مكتملاً عميق الرؤية محتشد الهموم، ولكنه يشبه أولئك الشعراء الزاهدين الذين لا يغريهم سفر، ولا تتملكهم الأضواء. وحين كنت أكتب هذه المقالة، فتحت «فيسبوك» فإذا بـعلي عمار ينشر نصاً جديداً في صفحته، يكرس فيه هذه الفكرة، فكرة الاختفاء والانعزال، ومن ثم التلاشي، حيث يقول:
حلمي
أنْ أغادر
ألا أواجه شمساً كشمس العراق
ألا يعود إلي برابطة أحدٌ
أنْ أصير غريباً
لأحظى بحريتي
ثم أركض وحدي
على شاطئ البحر
حتى تخور قواي
لأحتمل اللذة اللانهائية الصنع
وهي تسيل دماً ودموعاً
من الجسد الهشِّ
ثم أنام
إلى أبد الآبدين
واضحٌ ما لهذا النص من رغبة في الغياب بعيداً عن كل شيء، فيما يأخذ الشاعر حمدان طاهر منحى آخر في هذا التوجه، وهو الشاعر المنعزل عن صخب الأجيال وبياناتهم، وصراع الأشكال الشعرية وجنونها، لا يشغله من كل هذه الصراعات إلا كتابة نص عن الذين يشبهونه، ولا يهتم بذلك فيما بعد، أوصل النص لهم أم لم يصل. ولكن حمدان الزاهد بالضوء القانع كثيراً بما لديه تجده حريصاً أشد الحرص على نتاجه الشعري، وعلى طباعة دواوينه بتواصل دائب؛ هو يشبه حسب الشيخ جعفر إلى حد كبير، يهتم بروح الشعر، ويوثق تجربته الإبداعية، ولكنَّه لا يهتم كثيراً باللحظة التي يعيشها، ولا تغريه تفاصيل الشعراء وما وصلوا إليه، وحين أهداني مجموعته الأخيرة (تمسك بجناح فراشة)، الصادرة من منشورات اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، بدأت بقراءة نصوص هذه المجموعة، وإذا بهذه النصوص تعزز الفكرة التي كونتها عن حمدان في أن تجربته وسلوكه الشعري يرتبطان بخيط مع الشعراء الزاهدين كثيراً؛ انظروا ماذا يقول حمدان طاهر:
(أنا شاعر خجول| لا أعرف أن أقرأ في المهرجانات| ليس لي خبرة تذكر في مغازلة النساء| أعرف نساء كثيرات جداً| أعرف مثلاً أمي وزوجتي| أعرف المرأة الوحيدة| التي تجلس دائماً على عتبة الباب| أسألها كل يوم عن معنى جلوسها| بعد كل هذه السنين| لكنها تشير إلى المقبرة| أحب جميع الشعراء| ولا أستثني سوى من باع قلبه للشيطان| أحب من الشعر| ما قلت كلماته| وزاد في الروح أساه| ليس لي خبرة في الحديث| مع النقاد الذين يعملون| بعد الدوام الرسمي مثل شرطة آداب| لا أجيد الحديث عن نفسي| ولا أعرف الحفاظ على العلاقات| لدي يقينٌ بإنسانيتي| ولهذا يمكنكم حذف أول النص| وترك نهايته تمضي مثل نهر بين الحقول).
تعمدت أن أورد النص كاملاً، وهو نص أستطيع أن أقول عنه إنه اختصر سيرة وحياة وسلوك حمدان طاهر بكل شفافية وشعرية، هو فعلاً هذا حمدان بكل تفاصيله، الشاعر الذي يسير بوزن العربات الممتلئة بلا ضجيج ولا صخب، ولدينا أمثلة رائعة من هذا الاتجاه الشعري الذي يبني نفسه دون صخب ودون ضجيج، كالشاعر علي محمود خضير، وميثم الحربي، ومؤيد الخفاجي، وشعراء آخرين لهم حضور شعري في العراق، ولكنهم غائبون عن مقاهي المثقفين ونقاشاتهم.
ما أوردته من هذين الاتجاهين في سلوك الشعراء لا يعني تقييماً لشاعريتهم من عدمها، بل وددت أن أسلط بعض الضوء على الطريقين المختلفين للشعراء الذين يسكنون بيتاً واحداً، ولهم أبٌ واحد، هو الشعر، ولكن الأبناء يختلفون فيما بينهم، بين الملاصق لأبيه والدائر في الساحات والشوارع، لستُ مع أحد منهما، إنما لكل منهما اتجاه يسير فيه، ويظنه مفتاحه للشعر.



«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد
TT

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد

صدرت حديثاً عن «منشورات تكوين» في الكويت متوالية قصصية بعنوان «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد. وتأتي هذه المتوالية بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «نميمة مالحة» (قصص)، و«ليس بالضبط كما أريد» (قصص)، و«الأشياء ليست في أماكنها» (رواية)، و«الإشارة برتقاليّة الآن» (قصص)، «التي تعدّ السلالم» (رواية)، «سندريلات في مسقط» (رواية)، «أسامينا» (رواية)، و«لا يُذكَرون في مَجاز» (رواية).

في أجواء المجموعة نقرأ:

لم يكن ثمّة ما يُبهجُ قلبي أكثر من الذهاب إلى المصنع المهجور الذي يتوسطُ حلّتنا. هنالك حيث يمكن للخِرق البالية أن تكون حشوة للدُّمى، ولقطع القماش التي خلّفها الخياط «أريان» أن تكون فساتين، وللفتية المُتسخين بالطين أن يكونوا أمراء.

في المصنع المهجور، ينعدمُ إحساسنا بالزمن تماماً، نذوب، إلا أنّ وصول أسرابٍ من عصافير الدوري بشكلٍ متواترٍ لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقبُ عودتها صوتُ جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلطُ لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلنُ انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظُلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفولٍ حزين.

في أيامٍ كثيرة لم أعد أحصيها، تحتدُّ أمّي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر: «الغروبُ علامة كافية للعودة إلى البيت»، فأحبسُ نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر: «ينبغي قتل كلّ عصافير الدوري بدمٍ بارد».

وهدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، وتعمل حالياً رئيسة تحرير مجلة «نزوى» الثقافية.