نتائج التحقيقات الكبرى المتعلقة بوقائع جنائية أو سياسية، سواء تلك التي يجريها القضاء أم الصحافة، الأثر المباشر والقريب للقضية المعنية. وتتحول إلى وثيقة تكشف وتُشرح المنظومة والسياق اللذين وقعت فيهما الجريمة أو المسألة التي ينظر التحقيق فيها.
التحقيق في تفجير مرفأ بيروت ينتمي إلى هذه الفئة من الأعمال الكاشفة التي تكمن أهميتها ليس في أبعادها المباشرة والآنية بل فيما تُظهره من شبكة متداخلة من صرف النفوذ والفساد وتبادل الخدمات في منأى عن القانون وفي تضاد كامل مع المصلحة العامة.
من هنا، يمكن فهم الارتباك الذي قامت به الجماعة الحاكمة في لبنان، مباشرة التحقيق الذي تسلمه أولاً القاضي فادي صوان، قبل أن تنظم صفوفها وتنقض على التحقيق للإطاحة بصوان بذريعة تضارب المصالح (منزل صوان تضرر في التفجير) وفي تجاوز القوانين بطلبه من مجلس النواب رفع الحصانة عن اثنين من أعضائه. القاضي الحالي، طارق البيطار، لم يتأخر في الوصول إلى استنتاجات مشابهة: لا يمكن المضي قدماً في تحقيق احترافي ونزيه من دون مساءلة مسؤولين حاليين وسابقين تحميهم حصاناتهم النيابية والإدارية. غني عن البيان أن ما يحمي المسؤولين الذين يتعين عليهم الإدلاء بشهاداتهم أو الخضوع للتحقيق كمدّعى عليهم أمام القاضي بيطار، هي شبكة العلاقات الزبائنية والولاءات الأهلية والطائفية والحزبية.
تتقاطع الشبكة هذه مع الحصانات التي يوفرها الدستور للنواب وبعض القوانين الإدارية لموظفي الأجهزة الأمنية، لتشكل عقبة حقيقية أمام سير العدالة في بلد يعاني أصلاً من نقص فادح في انتظام القضاء واستقلاله ومن التدخل اليومي لكل من هبّ ودبّ من أصحاب النفوذ والسطوة والعزوة والسلاح.
على هذه الخلفية جاءت العرقلة التي تمارسها الجماعة الحاكمة بابتكار حجج وذرائع تحول دون مثول بعض أفرادها أمام قاضي التحقيق. لكن الجلي أن منظومة الفساد وصرف النفوذ لن تُسلّم مواقعها من دون قتال. وترسانتها حافلة بالأسلحة التي قد تصل إلى الاغتيالات وافتعال الاضطرابات الأمنية والاعتداء على أهالي الضحايا على غرار ما فعلت السلطة مع المتظاهرين أمام منزل وزير الداخلية محمد فهمي قبل أسبوعين، أو في المراوغة القانونية والمماطلة في إصدار القرارات اللازمة في مجلس النواب. وهذا ما يمكن استنتاجه من دعوة «تيار المستقبل» إلى تعديل الدستور لرفع الحصانات، على طريقة طرح مطلب مستحيل ثم الشكوى من أن أحداً لم يجاره في تنفيذه.
وفي حال سار التحقيق كما ينبغي، سنكون أمام لوحة متشابكة من الأذرع الأخطبوطية لأشخاص سوريين موالين لبشار الأسد، هم أصحاب الشركة التي استوردت مادة نيترات الأمونيوم من جورجيا، إلى مالكي سفن من الجنسيات الروسية واليونانية والقبرصية أكثرهم تدور حوله شبهات تبييض أموال وتجارات بالسلاح وما شابه، وصولاً إلى صف طويل من القضاة ورجال الأمن والإداريين اللبنانيين الذين سهلوا تفريغ الشحنة القاتلة في مرفأ بيروت وتغاضوا عن وجودها وبرروه وأسهموا في إخفاء خطرها مدة سبع سنوات.
لا يحتاج المرء إلى خبرة في تركيبة النظام اللبناني ليدرك أن شبكة كهذه، متعددة الجنسيات والولاءات السياسية والطائفية والتي يحتل أعضاؤها رتباً مختلفة في هرمية السلطة اللبنانية والسورية، لا يمكن أن تتحرك أو تتخذ قرارات من صنف إشغال عنبر من عنابر مرفأ بيروت باهظة الكلفة، لسبع سنوات من دون أن تحظى بغطاء قوي من كامل القوى الحاكمة ومن مشغليها الإقليميين. ويعرف المتعاملون مع إدارة المرفأ صعوبة إبقاء البضائع لأسبوع واحد من دون دفع رسوم عالية. أما بقاء 2750 طناً من نيترات الأمونيوم فظلت في مكانها عقداً إلا ثلاث سنوات.
وعلينا ألا نفاجأ فيما سيكشفه التحقيق، إذا نجح في التقدم إلى هدفه الأخير: العدالة للضحايا. علينا أن نتوقع ظهور أطراف كثيرة تبادلت الخدمات على حساب حياة اللبنانيين، ومررت لبعضها كافة أنواع الصفقات، وتغاضت عن جرائم وارتكابات لا تخطر في بال إنسان سويّ. ذلك أن ما كشفته انتفاضة 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 عن تشارك الطبقة الحاكمة في أعمال سرقة المال العام وتقاسمها الغنائم المستولى عليها من أموال المواطنين، سيتكرر على الأرجح في تحقيق المرفأ.
وتبقى مسألة إتمام التحقيق موضع تحد بين اللبنانيين كممثلين للضحايا، وبين سلطة عاتية فرضت في العامين الماضين إحباط كل ما كان ليخفف من وطأة الكارثة الحالية، من الخطة الإنقاذية (على علاتها) والتحكم برأس المال و«الهيركات» وصولاً إلى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وتشكيل حكومة تلبي الحد الأدنى من آمال مواطنين يزداد يأسهم وغضبهم.
التحقيق في تفجير المرفأ يواجه منظومة الفساد (تحليل)
التحقيق في تفجير المرفأ يواجه منظومة الفساد (تحليل)
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة