رون دي سانتيس حاكم فلوريدا ونجم «حزب ترمب» الصاعد

صعوده يعكس التغييرات البنيوية التي يشهدها الحزب الجمهوري

رون دي سانتيس حاكم فلوريدا ونجم «حزب ترمب» الصاعد
TT

رون دي سانتيس حاكم فلوريدا ونجم «حزب ترمب» الصاعد

رون دي سانتيس حاكم فلوريدا ونجم «حزب ترمب» الصاعد

قد يكون رونالد دي سانتيس حاكم ولاية فلوريدا الأميركية في طريقه ليكون أحد أبرز الشخصيات السياسية، التي سجلت اندفاعة صاروخية قياسية في المشهد الأميركي العام، والحزب الجمهوري بشكل خاص، خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً.
عام 2018 عندما كان في الأربعين من عمره، أصبح دي سانتيس أصغر حاكم ولاية في الولايات المتحدة، عبر مسيرة قادته للصعود سريعا، من خدمته العسكرية كضابط ومحامٍ في مكتب المحامي العام للبحرية الأميركية، إلى مقاعد مجلس النواب الأميركي نهاية عام 2012. وفي الفترة الأخيرة برز اسمه كأحد أبرز المرشحين، لنيابة الرئيس الأميركي، في حال ترشح الرئيس السابق دونالد ترمب في انتخابات 2024. وهو ما أوحى به في أحد خطاباته الأخيرة، أو لمنصب الرئاسة نفسها إذا أحجم ترمب عن الترشح... وهذا، بعدما تمكن من تقديم نفسه كأحد أخلص ورثة «الترمبية»، متبنيا خطابا زايد فيه على معظم «يمينيي» الجمهوريين و«وسطييهم» على حد سواء.
تمكن رون دي سانتيس سريعاً من التموضع تحت شعارات دونالد ترمب، منذ أعلن الأخير خوضه انتخابات الرئاسة الأميركية صيف العام 2015. ثم تحول إلى أحد أبرز المؤيدين لخطابه السياسي الشعبوي، المتناغم تماماً مع أفكاره ومعتقداته التي وصفت بـ«المتطرفة»، في العديد من الملفات والقضايا الخلافية التي شهدتها ولا تزال الولايات المتحدة. واليوم يقول منتقدوه إنه يدرك تماماً بأن حظوظه السياسية، سواءً في حال أراد خوض انتخابات التجديد لمنصب حاكم فلوريدا عام 2022 أو انتخابات الرئاسة عام 2024، مرهونة بعلاقته بـ«صانع الملوك» ترمب في الحزب الجمهوري.
كانت لافتة جداً اندفاعة دي سانتيس الأخيرة لتبني العديد من التشريعات المتشددة الهادفة إلى تقييد حق التصويت في ولايته وعلى المستوى الوطني. إذ دعا إلى إلغاء صناديق الاقتراع خارج مراكز الاقتراع، فضلاً عن الحد من التصويت عن طريق البريد من خلال مطالبة الناخبين بإعادة التسجيل كل عام للتصويت بالبريد والمطالبة بأن التوقيعات على بطاقات الاقتراع بالبريد «يجب أن تتطابق مع أحدث توقيع في الملف». وفي موضوع كوبا، هناك من يقول إن حرص دي سانتيس على الحفاظ على العلاقات المتوترة والقطيعة مع كوبا بشكل خاص، يعادل الاحتفاظ بولاية فلوريدا في قبضة الجمهوريين. ولذا عندما أعلن الرئيس الأسبق باراك أوباما عن إعادة العلاقات معها، مع ما كان يعنيه ذلك بالنسبة لمستقبل النظام الشيوعي نفسه في كوبا، كان الجمهوريون أكثر المتوترين.
- سيرته الشخصية
ولد رون دي سانتيس يوم 14 سبتمبر (أيلول) 1978 في مدينة جاكسونفيل الكبيرة بشمال شرقي ولاية فلوريدا. وهو كاثوليكي، والده رونالد دي سانتيس من أصل إيطالي ووالدته كارين روجرز. وهو متزوج من كايسي بلاك، المذيعة التلفزيونية السابقة.
انتقلت عائلته إلى مدينة أورلاندو، ثم إلى دنيدن بفلوريدا، عندما كان عمره ست سنوات. وبعد تخرجه من المدرسة الثانوية عام 1997، التحق بجامعة ييل العريقة، حيث كان قائد فريق البيسبول (كرة القاعدة) في الجامعة وانضم في العام نفسه إلى أخوية دينية كاثوليكية. وبعد التخرج في جامعة ييل عام 2001 بدرجة البكالوريوس في التاريخ بامتياز مع مرتبة الشرف، أمضى سنة علم للتاريخ في إحدى المدارس، ثم التحق بكلية الحقوق بجامعة هارفارد، العريقة أيضاً، وتخرج فيها عام 2005 مجازاً في القانون بامتياز.
وعام 2004 تلقى دي سانتيس دورة ضابط احتياط بحري، وعين في فيلق المحامي العام في مركز الاحتياط البحري الأميركي في مدينة دالاس بولاية تكساس، بينما كان لا يزال طالبا في كلية الحقوق بجامعة هارفارد. وأكمل مدرسة العدل البحرية في 2005. وفي وقت لاحق من ذلك العام، عين مدعيا عاما في مكتب خدمة القيادة الجنوبية الشرقية في القاعدة البحرية «ماي فورت» بفلوريدا.
وفي عام 2006 رقي دي سانتيس إلى رتبة ملازم حيث عمل مع قائد «قوة المهام المشتركة» في قاعدة غوانتانامو، وعمل مباشرة مع المحتجزين في المعتقل. وعام 2007 عين مستشاراً قانونيا للقوات الأميركية الخاصة «نافي سيل» المنتشرة في الفلوجة في العراق، حيث خدم لمدة سنة، ليعين مجددا بعد عودته من العراق في الخدمة القانونية للمنطقة البحرية الجنوبية الشرقية.
بعدها، عينته وزارة العدل كمساعد المدعي العام الأميركي في المنطقة الوسطى بفلوريدا، ثم محامي دفاع للمحكمة حتى تسريحه من الخدمة الفعلية في فبراير (شباط) 2010. وحصل خلال هذه المسيرة على وسام النجمة البرونزية، وميدالية تكريم سلاح البحرية وميدالية الحرب العالمية على الإرهاب وميدالية الحملة العراقية.
- مسيرته في الكونغرس
سجل دي سانتيس في مجلس النواب يشهد بالتزامه السياسي اليميني، إذ تبنى عام 2017 تشريعاً يلغي القيود على الرئيس لمنعه من إقالة المستشارين الخاصين، مستهدفاً المستشار روبرت مولر الذي حقق في تدخل روسيا بالانتخابات. وقبل ذلك عام 2016 تبنى تشريعاً يلزم وزارة العدل على تقديم تقارير ولوائح إلى الكونغرس، في حال امتنعت أي وكالة فيدرالية عن إنفاذ القوانين تقديمها لأي سبب من الأسباب، مستهدفاً الرئيس الأسبق باراك أوباما. أيضاً، تبنى عام 2018 تشريعاً يدعو إلى تقييد فرض ضرائب جديدة، خصوصاً على الشركات، يتضمن تصويت الغالبية العظمى لإبطاله، وعارض السماح للبالغين الأصحاء الذين ليس لديهم أطفال الحصول على خدمات برنامج الرعاية الصحية «ميديكيد».
أيضاً تبنى دي سانتيس تشريعاً يدعم الذين يحملون تراخيص بحمل أسلحة نارية بعرضها علانية بدلا من إخفائها. وبينما شجع عمداء الشرطة المحليون في فلوريدا، على التعاون مع الحكومة الفيدرالية في القضايا المتعلقة بالهجرة، عارض بقوة مشروع «داكا» الخاص بالمهاجرين «الحالمين» الذين قدموا إلى الولايات المتحدة بطريقة غير شرعية عندما كانوا أطفالا. ووقع في يونيو (حزيران) 2019 قانونا يفرض على الشركات استخدام برنامج التأكد «إي فيريفاي»، الذي يفرض حظرا على مستوى الولاية لحماية الملاذات الآمنة للمهاجرين غير الشرعيين، علما بأن ولاية فلوريدا ليس لديها تشريعات من هذا القبيل، ما دعا المدافعين عن الهجرة إلى القول إن القانون دوافعه سياسية.
وهكذا، باختصار شديد يمثل دي سانتيس نموذجا مثاليا للشخصيات السياسية الإشكالية التي تتصارع، سواء مع الطبقة السياسية التقليدية داخل الحزب الجمهوري نفسه، أو مع الحزب الديمقراطي وتياراته المختلفة. وصعوده السياسي قد يشكل مثالا صارخا عن التغيير البنيوي الذي يمر به الحزب الجمهوري، الذي بات يطلق عليه اليوم «حزب ترمب»، مبتعدا عن وسطيته وتقاليده السياسية التي وفرت للحياة السياسية الأميركية توازنا دقيقا، ما قد يهدد بنمو قوى التطرف السياسي في المقلب الآخر، مع قيادات يسارية راديكالية باتت تفرض يوما بعد يوم حضورها القوي، رغم انضباطها حتى الآن تحت سقف المحصلة العامة لدى الديمقراطيين.
- نحو منصب الحاكم
عام 2012، أعلن درون ي سانتيس أنه سيخوض الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري عن الدائرة السادسة لمجلس النواب في فلوريدا، حيث فاز على 6 مرشحين جامعاً 39 في المائة من الأصوات، ثم هزم مرشحة الحزب الديمقراطي هيذر بيفن في الانتخابات العامة بنسبة 57 مقابل 43 في المائة. وبقي في منصبه حتى العام 2018 ليترشح على منصب حاكم الولاية في ذلك العام.
خلال حملة انتخابات عام 2016 أعلن دي سانتيس ترشحه لمنصب عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فلوريدا، بعدما ترشح السيناتور الجمهوري من أصل كوبي ماركو روبيو لمنصب الرئاسة الأميركية في مواجهة دونالد ترمب. ولكن بعد خسارته الانتخابات التمهيدية أمام ترمب، أعلن روبيو نيته الترشح مجدداً لمجلس الشيوخ، الأمر الذي أجبر دي سانتيس على الانسحاب من السباق، بضغط من الحزب الجمهوري الذي كان يخشى تشتت أصوات الناخبين، وخصوصاً الكتلة اللاتينية ذات الأغلبية الكوبية، ما قد يعرضهم لخسارة مقعد عزيز في «ولاية جمهورية». ومجدداً، اختار دي سانتيس الترشح مجددا لمقعده النيابي في مجلس النواب حيث غدا واحدا من أشد مناصري ترمب.
وفي ديسمبر (كانون الأول) 2017، أعلن ترمب أنه سيدعم دي سانتيس إذا ترشح لمنصب حاكم ولاية فلوريدا. وبالفعل، في يناير (كانون الثاني) 2018، أعلن دي سانتيس ترشحه لخلافة الحاكم الجمهوري المنتهية ولايته ريك سكوت. وخلال الانتخابات التمهيدية للجمهوريين، شدد دي سانتيس على دعمه لترمب، عرض مقطعاً انتخابياً مصوراً يظهر فيه كيفية تعليم أطفاله «بناء الجدار» مع المكسيك. وردد شعار «اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، كما ألبس أحد أبنائه قبعة حمراء مطبوعا عليها ذلك الشعار.
وفي أغسطس (آب) 2018 ربح الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري لمنصب الحاكم، ليفوز في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) على منافسه الديمقراطي الأسود أندرو غيلوم، عمدة مدينة تالاهاسي، بعد إعادة فرز الأصوات. إلا أنه أثار لغطاً كبيراً لكلمات قالها زعم أنها عنصرية، حين قال إن «آخر شيء علينا القيام به هو محاولة رفع قرد يتبنى أجندة اشتراكية وزيادات ضريبية ضخمة وإفلاس الولاية». واعتبرت كلمة «قرد» عبارة عنصرية، لكون خصمه غيلوم أميركياً أسود من أصل أفريقي. وحظي الحادث بتغطية إعلامية واسعة، نفى بعدها دي سانتيس أن يكون تعليقه قد تعمد توجيه إشارات عنصرية.
وبعد ثلاثة أيام من تأديته اليمين الدستورية في 8 يناير 2019، أصدر عفواً عن أربعة رجال سود أدينوا زورا بالاغتصاب عام 1949، لينفي عنه تهمة العنصرية. ولكن في الأسبوعين الأولين له في المنصب، عين 3 قضاة، هم باربرا لأجوا وروبرت جيه لوك وكارلوس جي مونييز، لملء الشواغر الثلاثة في المحكمة العليا في فلوريدا، ما أدى إلى تحويل غالبية المحكمة من ليبرالية إلى محافظة.
- مواقفه من كوفيد ـ 19
لعل المبارزات السياسية الأكثر إثارة للجدل التي خاضها دي سانتيس، هي تلك المتعلقة بالتعامل مع جائحة كوفيد19. إذ قرر في مارس 2020، ألا يعلن حال الطوارئ في فلوريدا. وبعد إلغاء المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري عام 2020 في مدينة تشارلوت في أعقاب النزاع بين ترمب وحاكم ولاية نورث كارولينا روي كوبر، بسبب اعتراض الأخير على تنظيم تجمع كبير بغياب «بروتوكولات» للصحة العامة لمنع انتشار الفيروس. أطلق دي سانتيس حملة ناجحة لجعل مدينة جاكسونفيل في فلوريدا مكاناً بديلاً للمؤتمر، متنافسا مع ولايات جمهورية أخرى هي تينيسي وجورجيا. ولكن في النهاية، تقرر إلغاء الحدث بأكمله لصالح التجمعات عبر الإنترنت والتلفزيون.
ووفقاً لصحيفة «صن سنتينال»، فإن الرجل الذي يدين بمنصبه إلى الدعم المبكر من ترمب، فرض نهجا يتماشى مع آرائه وقاعدته القوية من مؤيديه. فلقد رفض دي سانتيس تنفيذ قرار ارتداء الكمامات الفيدرالي في ولايته، وتأخر في تطبيق قرار البقاء في المنازل «لأن الرئيس ترمب لم يصدر قراراً بعد»، في الوقت الذي كانت فلوريدا واحدة من أكثر المراكز العالمية التي ينتشر فيها الفيروس، حيث اتهم بتهميش خبراء الصحة والعلماء. وإبان حملة إعادة انتخاب ترمب، عمل على مساعدته في الفوز بفلوريدا، حيث حضر تجمعاته من دون ارتداء الكمامة، خلافاً لتوجيهات الصحة العامة في ذلك الوقت.
- سياسي يميني محافظ
كسياسي محافظ، يتبنى دي سانتيس مواقف يمينية تتراوح من معارضته الإجهاض وموانع الحمل، إلى «خفض الإنفاق بدلا من زيادة الضرائب لتقليل العجز في الميزانية الفيدرالية وتقليص حجم الدولة لتحفيز النمو الاقتصادي». وحقاً، صوت لمصلحة قانون التخفيضات الضريبية والوظائف لعام 2017. وقال إن مشروع القانون سيؤدي إلى «معدل ضرائب أقل بشكل كبير» و«إنفاق كامل للاستثمارات الرأسمالية» وضمان المزيد من الوظائف لأميركا.
أخيراً يعارض دي سانتيس برامج التعليم الفيدرالية مثل قانون «عدم ترك أي طفل وراء الركب»، بحجة أن سياسة التعليم يجب أن تقر على المستوى المحلي. وفي يونيو الماضي، قاد دي سانتيس جهدا لحظر تدريس نظرية العرق النقدي في المدارس العامة في فلوريدا، رغم أنها لم تكن أبدا جزءا من المنهج الدراسي في الولاية. وفي المقابل، قدم مواد جديدة لتعليم التربية المدنية، بما في ذلك دروس حول «شر الأنظمة الشيوعية والشمولية»، ما دعا منتقدو القانون، بما في ذلك جمعية فلوريدا التعليمية، إلى القول إنه سيكون له «تأثير مخيف على الحرية الفكرية والأكاديمية»، وأن مشاريع القوانين صممت لترهيب المعلمين وقمع التبادل الحر للأفكار.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».