«درب الصد»... عالم يسير نحو الخراب

الفضاء الروائي والاجتماعي والسياسي العراقي بعد الاحتلال

«درب الصد»... عالم يسير نحو الخراب
TT

«درب الصد»... عالم يسير نحو الخراب

«درب الصد»... عالم يسير نحو الخراب

رواية «درب الصد» الصادرة عام 2021 للروائية هدية حسين مشبعة بحس أنثوي خاص، والرواية تعد القارئ من خلال أفق توقع بما خفي من أسرار من خلال العتبة النصية الأولى للرواية، ونعني بها عنوان الرواية الذي ينطوي على النصف الأول من مثل عراقي شائع هو «درب الصد ما رد» والإيحاء بأن الطريق الذي قد تسلكه الشخصية الروائية هو طريق خطر وقاتل، ولا عودة سالمة لسالكه. وربما يعزز أفق التوقع هذا المشهد الدرامي الصامت (بانتومايم) الأخاذ والغامض الذي تستهل المؤلفة روايتها به.
إذْ تنفتح خشبة المسرح الروائي بمشهد صندوق خشبي موضوع على طاولة في إحدى زوايا الغرفة، وفجأة ينزلق شبح امرأة بجسد مضيء يحمل الصندوق ويختفي، دون أن يكترث بالرجل الممدد على أرض الغرفة. والروائية لا تكتفي بهذا المشهد المسرحي الصامت بل تلحقه بسؤال موجه للقارئ، لم أجده مبرراً من الناحية السردية لأنه يمثل تدخلاً وإقحاماً من قبل المؤلفة:
«ترى ماذا كان في الصندوق، ومن هي المرأة، ومن هو الرجل الذي يحاول استخذاء الهواء» (ص 5).
وأعتقد أن المشهد هذا هو الذي يطرح هذه الأسئلة وغيرها، كما سنعرف لاحقاً أن هذا المشهد سوف يكتمل في الصفحة الأخيرة من الرواية، لنكتشف أن الرجل هو بطل الرواية سراج البستاني، والذي يقترب من نهايته التراجيدية، بعد معاناة شديدة، وخساراته المتكررة، لكن المرأة، تظل إلى حدٍ ما غامضة، لكننا تأويلياً، نرجح أن تكون المرأة هي (وفاء) زوجة البطل التي يعتقد أنها تعرضت إلى الاختطاف من قبل إحدى العصابات الطائفية، والذي يجعلنا نذهب إلى الاعتقاد بأن (وفاء) قد خانت زوجها مثل صديقتها (أميرة) التي خانت زوجها ودبرت خطة هربها، وهربت مع (سليم) صاحب السوبر ماركت إلى الأردن، وحرضت (وفاء) على سلوك هذا الطريق الذي سيمثل «درب الصد ما رد»، وسيكون الزوج سراج البستاني هو الضحية حيث يلفظ أنفاسه الأخيرة، مسجلاً آخر خساراته.
«لم يعد الهواء يكفي لمرور آخر أنفاسه. خيوط أنفاسه تنسلت خيطاً بعد خيط». (ص146)
وبهذا التكرار للاستهلاك الروائي تمنح المؤلفة روايتها صفة البنية الدائرية من الناحية السردية.
ولم تقتصر أحزان سراج على اختطاف زوجته، بل امتحن أيضاً بهجرة ابنه (نعيم) واختياره طريقاً آخر، هو الانضمام إلى إحدى المنظمات الإرهابية، التي اصطادته عبر جامع محلته، وأعدته ليكون أداة للقيام بعمليات إرهابية وانتحارية لاحقاً في إحدى الدول الأوروبية، كما كانت تقلقه أنباء أخته (رحاب) التي انقطعت عنه، بعد أن أقامت في النصف الأبعد من الكرة الأرضية، وتحديداً في أستراليا وخشيته أن تكون قد تعرضت لمكروه في واحدة من الحرائق التي تفتك بالغابات والناس هناك.
لكن المشكلة التي أقلقته كثيراً كانت عملية الاختطاف المصطنع لـ(منيرة) زوجة صديقه (مولود) التاجر، وهربها سراً إلى الأردن مع (سليم) صاحب السوبر ماركت، حيث شاهدها جارهم (إبراهيم الفيترجي) بصحبة (سليم) مراراً في بعض المطاعم والفنادق، ومنها فندق (ماريوت). وقد دفع هذا الحادث إخوة (منيرة) إلى مهاجمة بيت (إبراهيم الفيترجي) وحرق محله، حيث وجدوا جثته متفحمة، وبقي يحمل معه أسراراً بذلوا جهوداً لمعرفتها.
لقد كانت حادثة هرب (منيرة) دافعاً لسراج للشك بأن زوجته (وفاء) قد اختارت الطريق ذاته تشجيعاً لها من قبل صديقتها (منيرة)، ومن تلك اللحظة بدأت ثقته تنهار بالجميع. وعمّق هذا الإحساس لديه، حواره مع (حليمة) الخبازة التي أنهت حوارها بعبارة أثارت المزيد من الظنون والشكوك لديه، واحتمال إشارتها الخفية إلى أن زوجته (وفاء) قد هربت مع عشيقها المفترض:
«الرجال غفلت ونامت، والنسوان سابت وغابت». (ص73)
وراح سراج يتساءل مع نفسه: «من يا ترى كان عشيق وفاء؟» وظل الوسواس يطارده «كلما حاول أن يبرئ (وفاء) فإن الخناس يوسوس في صدره، ويربك ذهنه» (ص84) ويستذكر كل ما قيل في الماضي عن كيد النساء وخيانتهن، وأنهن مصدر كل شيء (ص84).
ومن الجانب الآخر تضيء (أفنان) ابنته، من خلال حلمها ومونولوغها الداخلي، جوانب من شخصية أمها (وفاء) وتعلقها بها:
«لا تدري متى توقفت أحلامها وكوابيسها عن أمها، آخر مرة حلمت بها كانت منذ أكثر من سنة» (ص ١١٧).
لكن الحلم الذي شاهدته عن أمها له دلالة عميقة هذه المرة: «كانت وفاء تركض في صحراء، وأفنان في إثرها، حتى سقطت في بئر عميقة» وتصاب (أفنان) بالإحباط. (ص١١٧)، وهذا الحلم يحمل دلالة إضافية، قد يلتقطها القارئ، على احتمال ارتكاب (وفاء) سقطة الخيانة، والسير في درب الصد ما رد، كما يشير عنوان الرواية بوصفه عتبة نصية دالة، حاملاً للدلالة السيميائية والثقافية.
وتحفل الرواية، من الجانب الآخر بعدد من المونولوغات والمرويات الثانوية التي تؤثث الفضاء الروائي والاجتماعي والسياسي والعراقي خلال فترة ما بعد الاحتلال، ربما أبرزها مونولوغ حليمة الخبازة الداخلي الذي تسرد فيه طفولة ولدها سعدون الذي أصبح مجنوناً، بعد أن تعرض هو والجنود الذين معه إلى قصف أميركي خلال الاحتلال في (أم قصر)، قتل فيه جميع المقاتلين باستثناء ولدها سعدون الذي وجد نفسه داخل بركة من الدماء، وتحيط به مجموعة من الرؤوس المتجاورة. وهنا يستكمل سعدون المجنون رواية المشهد الذي أحب أطفال المحلة سماعه مراراً. «على بعد عدة أمتار كانت الرؤوس متجاورة تسأل بعضها عما حدث، وكيف، ولماذا حدث، حتى رأسي شاهدته، فتحسست رقبتي، وتبين أنني بلا رأس» (ص ٣٢).
ويروي سعدون كيف أنه بقي بلا رأس، فتناول رأساً اكتشف لاحقاً أنه يعود إلى نائب الضابط عباس «ولما نظرت في المرآة اكتشفت أن الرأس الذي ركبته على رقبتي يعود إلى نائب ضابط عباس». (ص ١٣٣)
وهكذا عاد (سعدون) من الحرب مجنوناً، وهي إشارة سيميائية إلى أن العالم، بتأثير الاحتلال قد أصيب بالجنون، وأنه يسير نحو الخراب، وكما كان يقول (سعدون) في لازمته أن العالم أصبح خراباً. وقد علقت (حليمة) الخبازة على وضع ابنها ومأساته «الذي عاشه سعدون يميت أي رجل. الحمد لله الذي عاد بنصف ذاكرة. أراه ويراني ويملأ علي فراغ حياتي التي توقفت بعد» (ص135) وعندما تسألها جارتها (أم نهلة) فيما إذا كانت الحكاية التي يرويها (سعدون) للأطفال صحيحة، تجيب قائلة:
صحيحة، يا أم نهلة، فيما عدا الرأس. من القهر شاب رأس ابني» (ص136)
ويمكن القول إن مأساة سعدون المجنون تشكل الخلفية الاجتماعية والسياسية والتاريخية لمرحلة ما بعد الاحتلال التي أصيبت بلوثة الجنون وأصبحت خراباً...
هذا الوجه الآخر للمجتمع راح بدوره يكتم على أنفاس سراج البستاني. وكان للخبر العاجل الذي بثه التلفزيون وقع الصاعقة، وربما بمثابة إطلاقة الرحمة التي أجهزت عليه، حيث أعلن المذيع أن عملية إرهابية بشعة نفذت في إحدى الدول الأوروبية وكان مخططها نعيم سراج البستاني، ابنه بالذات: «الجسد الذي خربته الأحزان لم يعد يتحمل الصدمة، سراج في آخر أحزانه وآخر أنفاسه وآخر نقطة زيت في قنديل حياته، الوقت هو الرابعة فجراً، عندما أدرك أنه مهزوم». (ص ١٤٥(
لقد اكتشف (سراج) أن ابنه نعيم قد خانه، وخان تربيته له بانخراطه بمثل هذا العمل الإرهابي، مثلما خانته (وفاء) ولفقت خطة اختطافها، لتهرب مثل (منيرة) مع عشيق ما إلى الأردن، تاركة إياه نهباً للأحزان والقهر، ووليمة سهلة للموت. وعند هذا المشهد تعيد الروائية استكمال المشهد الاستهلالي وكتابته عن شبح المرأة والصندوق، لتمنح الرواية بنية دائرية سردياً... «ومن بين كثافة الظلام، ينزلق شبح امرأة بجسد مضيء وشعر منثور... تنحني لتحمل صندوقاً خشبياً موضوعاً على طاولة في إحدى زوايا الغرفة ثم تستدير وتختفي تماماً».(ص 146)
في ذلك الوقت، وعند الساعة الرابعة فجراً، كان سراج البستاني يغمض عينيه، وقد بدا له كل شيء مغشياً ورماديا: «أدرك سراج في لحظاته الأخيرة أنها النهاية». (ص 146)
وهذه النهاية تحسم تساؤل القارئ، وتجيب بصورة غير مباشرة عن أفق توقعه تاركة له فسحة للتأويل والتخيل...
رواية «درب الصد» هي رواية عن تدمير الحياة المدنية والقيم الإنسانية من قبل الاحتلال، وفي تشكلها الدائري الرابط بين النهاية والاستهلال، تأكيد على وحدة المناخ الاجتماعي والسياسي. والرواية أيضا، وربما بالقدر نفسه، رواية عن الخيانة واختلال القيم، تحديداً، الخيانة الزوجية التي ارتكبتها الزوجة (وفاء) وخيانة الابن نعيم لتربية الأب سراج وللقيم التي رباه عليها. وربما ترمز تأويلياً للخيانة التي تعرض لها المجتمع العراقي من خلال عملية الاحتلال، وقد يختزل صوت (سعدون) المجنون في لازمته الأثيرة بصراخه الموجع بأن العالم قد أصبح خراباً بكامله بعد الاحتلال.



سردار عبد الله يحاول ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي

سردار عبد الله يحاول ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي
TT

سردار عبد الله يحاول ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي

سردار عبد الله يحاول ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي

صدر عن دار «نوفل - هاشيت أنطوان» كتاب «موجَز الرحلتَيْن في اقتفاء أثر مولانا ذي الجناحَيْن» للكاتب والسياسي العراقي الكردي سردار عبد الله. في هذا الكتاب، الذي نال تنويهاً من جائزة ابن بطّوطة لأدب الرحلات، يحاول سردار عبد الله، من خلال رحلتين قام بهما في عام 2018 إلى الهند، ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي.

هناك، في مدينة جيهان آباد القديمة، قضى الشيخ خالد النقشبندي عاماً في منتصف القرن التاسع عشر، أسهمت تلك السنة في تعزيز دور الشيخ لإحداث تغييرات بعد عودته؛ إذ تبنى الطريقة النقشبندية التي باتت تسمى فيما بعد باسمه «النقشبندية الخالدية». تقودنا هذه الرحلة إلى أحداث تاريخية مهمة حينها مثل سقوط ولاية بغداد والطريقة الصوفية البكتاشية. فكانت طريقته الصوفية بمثابة البديل الروحي أولاً؛ ما أحدث تحولاً كبيراً في تركيبة الزعامة الكردية، التي انتقلت من طبقة الأمراء والإقطاع إلى رجال الدين المتنوّرين.

اتخذ الكاتب قراراً جازماً بألا يعود من الهند ما لم يعثر على ذلك المكان المجهول، غير أنه في رحلة بحثه تلك، يخوض في التاريخ تارة وفي العجائب والطرائف التي يصادفها في تلك البلاد تارة أخرى.

«كيف لنملةٍ أن تطارد نسراً؟»، يتساءل الكاتب، كيف لمريدٍ أن يقتفيَ آثارَ شيخٍ حملَ الشريعةَ على جناحٍ والحقيقةَ على آخر، وجابَ بهما أصقاع الدنيا مُحلِّقاً؟

في هذه الرحلة الممتعة في الزمان والمكان والروح، يُشاركُ الكاتب قرّاءَه تفاصيلَ رحلتَيْه إلى الهند عام 2018؛ بحثاً عن خانقاه الشاه عبد الله الدهلوي. هناك، في مدينة جيهان آباد القديمة، قضى الشيخ خالد النقشبندي عاماً خلال بدايات القرن التاسع عشر، عاد من بَعدِه إلى كردستان وبغداد والشام، يحملُ طريقةً أحدثتْ تحوّلاً كبيراً في المنطقة، في فترةٍ مهمّةٍ تاريخيّاً شهدتْ سقوط ولاية بغداد، وسقوطَ الإمارات الكُرديّة؛ ما خلق فراغاً رهيباً في السلطة.

في كتابه، الذي يقع في 216 صفحة، يتساءل سردار عبد الله ثانية: «لماذا يثور مَن تتلمذ على يد الشيخ النقشبندي، بدءاً بالشيخ النهري في كردستان وصولاً إلى الأمير عبد القادر في الجزائر، ضدّ المحتلّين؟»، فتأخذ الرحلة بُعداً أعمق...

ويكتشف كاتبُنا. فبعدما اتخذ قراراً جازماً بألّا يعود من الهند ما لم يعثر على المقام المنشود، سيعثر المُريد على كنوز المعرفة ودُرَرِ المشاهَدات وهو في طريقه إلى الوجهة الأساسيّة.

وسردار عبد الله - كاتبٌ وسياسيّ كرديّ ومرشَّحٌ سابق لرئاسة العراق. ترأّس هيئة تحرير مجلّاتٍ وصحفٍ كرديّةٍ عدّة، بعد سنواتٍ قضاها في جبال كردستان ضمن قوّات البيشمركة الكرديّة. له إصدارات عدّة باللغتَيْن الكرديّة والعربيّة. «موجز الرحلتَيْن في اقتفاء أثر مولانا ذي الجناحَين» هو كتابه الثاني الصادر عن «دار نوفل» بعد روايته «آتيلا آخر العشّاق» (2019).