تأثيرات صحية عميقة وطويلة الأمد لتغيرات المناخ على الإنسان

قدمت مراجعة علمية جديدة لباحثين من أميركا الشمالية، صورة أوضح عمّا نعلمه حتى اليوم عن الآثار الصحية لتغيرات المناخ، وعن الجوانب المستقبلية للبحث العلمي حول هذه العلاقة.
ووفق ما تم نشره ضمن عدد يونيو (حزيران) الماضي من المجلة الطبية البريطانية المفتوحة BMJ OPEN، هدف الباحثون إلى إجراء مراجعة منهجية متقدمة لحوالي 100 من الدراسات التي تم نشرها سابقاً حول هذا الأمر، ومعظمها أجريت بعد عام 2015.
- المناخ وصحة الإنسان
ويُعتبر موضوع علاقة تغيرات المناخ بالحالة الصحية للإنسان أحد المواضيع الحيوية، كما يعتبر البحث العلمي لفهم جوانب هذه العلاقة ذا جدوى استثمارية تطبيقية.
وبالمقارنة مع الكوارث والمخاطر البيئية الأخرى، كالزلازل والبراكين وموجات التسونامي والميكروبات، تعتبر التأثيرات المباشرة وغير المباشرة لتغيرات المناخ هي الأقوى في عمق وطول أمد تداعياتها على صحة الإنسان. إضافة إلى كونها من المخاطر التي يُمكن التعامل معها لتخفيف تأثيراتها الصحية. والخطوة الأولى في ذلك هو فهمها بشكل دقيق وعلمي، وهو ما حاولت هذه الدراسة التوصل إليه وفق ما هو متوفر من أدلة علمية حتى اليوم.
وتفيد المراكز الأميركية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها بالقول: «يؤثر تغير المناخ، على صحة ومرض الإنسان بطرق عديدة. وتشمل الآثار الصحية لهذه الاضطرابات زيادة أمراض الجهاز التنفسي والقلب والأوعية الدموية، والإصابات والوفيات المبكرة المتعلقة بظواهر الطقس المتطرفة، والتغيرات في انتشار الأمراض المنقولة بالغذاء والمياه والتوزيع الجغرافي للأمراض المعدية الأخرى، والتهديدات للصحة العقلية».
والواقع أن العواقب البيئية لتغير المناخ، مثل ارتفاع درجات الحرارة، وارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة حالات الجفاف، والأعاصير المدارية، والفيضانات، وحرائق الغابات، كلها تؤثر على صحة الإنسان وحياته. ووثقت الدراسات العلمية السابقة مجموعة من الآثار الصحية المتعددة لتغير المناخ، بما في ذلك زيادة انتشار الإصابات بالأمراض المعدية والأنواع التي لم تكن شائعة من قبل وفي مناطق لم تعهدها سابقاً، وأنواع شتى من اضطرابات الجهاز التنفسي، وارتفاع معدلات المرض Morbidity والوفيات Mortality المرتبطة بارتفاع الحرارة، وضعف التغذية، والنتائج النفسية الصحية السلبية.
ولكن في دراستهم الحديثة، تميز جهد الباحثين بترتيب بيانات الدراسات العلمية السابقة حول هذا الأمر، وذلك وفق اختلاف المناطق الجغرافية واختلاف أماكن مجموعات الباحثين العلميين، في أرجاء العالم. كما قاموا برسم خرائط التأثيرات المناخية Climate Impacts ومُخرجات التداعيات الصحية Health Outcomes الناجمة عنها لتوليف نتائجها الرئيسية.
- تأثيرات ملموسة
وبشكل أدق، قام الباحثون بتجميع الأدلة حول خمس فئات من تأثيرات المناخ، والتي كان أكثرها شيوعاً هو: ظواهر الأرصاد الجوية (الحرارة، الرطوبة، هطول الأمطار أو الثلوج) وظواهر الطقس المتطرفة (موجات الحرارة، موجات الصقيع، الأعاصير المدارية، الفيضانات، الأمطار الشديدة، العواصف)، وجودة الهواء (تلوث الهواء، دخان حرائق الغابات).
كما غطت المراجعة 10 فئات من التداعيات الصحية المحتملة، والتي كانت الثلاثة الأكثر شيوعاً منها هي: الأمراض الميكروبية المعدية، ومعدلات الوفيات، وحالات الأمراض التنفسية أو القلبية الوعائية أو العصبية.
وأشارت معظم المراجعات إلى وجود تأثير ضار لتغير المناخ على العديد من النتائج الصحية الضارة.
وفي الاستنتاجات قال الباحثون: «تشير معظم المراجعات المنهجية للتأثيرات الصحية لتغير المناخ إلى وجود ارتباط بين تغير المناخ وتدهور الصحة بطرق متعددة، وبنتائج سلبية على صحة الإنسان. وتقدم هذه الدراسة ملخصاً شاملاً عالي المستوى للبحوث حول التأثيرات الصحية لتغير المناخ».
وتكمن قوة هذه الدراسة في أنها تقدم أول نظرة عامة واسعة على الدراسات السابقة، لاستكشاف الآثار الصحية لتغير المناخ. الأمر الذي قدّم ملخصاً واضحاً ومفصلاً وفريداً للحالة الحالية من الأدلة المعرفية حول كيفية تأثير تغير المناخ على صحة الإنسان.
وأشار الباحثون بشيء من التفصيل إلى ثلاثة جوانب:
الأول، أن تأثيرات ظواهر الأرصاد الجوية Meteorological Impacts، التي تتعلق في الغالب بدرجات الحرارة والرطوبة وهطول الأمطار أو الثلوج، كانت هي أكثر التأثيرات التي تمت دراستها. وذلك بالمقارنة مع المظاهر الأخرى للتغيرات المناخية. والأمر الآخر، أنه رغم محاولة الباحثين استكشاف «جميع» النتائج الصحية التي تم رصدها في الدراسات السابقة (المباشرة وغير المباشرة) للتغيرات المناخية، إلاّ أن بعض النتائج الصحية المحتملة للتأثيرات المناخية، كان من النادر استكشافها ودراستها. وأعطوا على ذلك أمثلة: الصحة العقلية، ومستوى التغذية، والأمراض الجلدية، وأمراض الحساسية، والصحة المهنية، ونتائج الحمل. كما لم تحظ بدراسات وافية تلك التأثيراتُ الطويلة المدى لعوامل عدة، كارتفاع درجة الحرارة والجفاف ودخان حرائق الغابات مثلاً.
والأمر الثالث، أفاد الباحثون بأن تلك الدراسات السابقة ركّزت في المقام الأول على نتائج الصحة البدنية، مثل: الأمراض المُعدية، والوفيات، والنتائج التنفسية، والقلبية الوعائية والعصبية. بينما يجدر توسيع نطاق تركيزنا ليشمل أنواعاً أخرى من النتائج الصحية. وأضافوا أن المراجعات التي استكشفت آثار تغير المناخ على الصحة العقلية، ركزت في الغالب على الآثار النفسية المباشرة والفورية عند مواجهة الظواهر الجوية المتطرفة.
ومع ذلك، يحذر علماء النفس أيضاً من الآثار غير المباشرة والآثار الطويلة المدى لتغيرات المناخ على الصحة العقلية، والتي كما أفاد الباحثون أصبحت أكثر انتشاراً بين الأطفال والبالغين على حد سواء. ومنها على سبيل المثال: القلق البيئي، والاكتئاب المناخي. وأشاروا إلى أن أهمية استكشاف هذه الآثار لتغير المناخ على الصحة العقلية، بقولهم: «لأن قدرة البشرية على التكيف مع تغيرات المناخ والتخفيف من تأثيراتها السلبية، تعتمد في النهاية على قدرتنا العاطفية والنفسية على مواجهة هذا التهديد».