الوحدة ومكابداتها... شعرياً

محمد سالم في ديوانه الفائز بجائزة «القاهرة للكتاب»

الوحدة ومكابداتها... شعرياً
TT

الوحدة ومكابداتها... شعرياً

الوحدة ومكابداتها... شعرياً

لماذا يلجأ الشاعر إلى السخرية من ذاته والتقليل من شأنها إلى حد التحقير أحياناً، هل نحن بصدد مرثية تتجاوز حدود الرثاء التقليدي، أم أنه نوع من اللعب مسكون بما هو أبعد من الفانتازيا وشطح الخيال ونوازع البوح والاعتراف، لتظل المسافة رخوة بين الذات وموضوعها، قابلة للمساءلة والحذف والبتر والإضافة أيضاً.
تطل هذه الأسئلة والهواجس بقوة وتشكل مداراً للرؤية في ديوان «سيرة رجل تافه ووحيد» للشاعر محمد سالم، الفائز بجائزة معرض القاهرة للكتاب هذا العام. ثمة فجوة من فقدان الثقة وانعدام الحوار، بين الذات الشاعرة وواقع العالم من حولها، وهو واقع متجهم، ممعن في الصمم والخواء، تغيب فيه أنفاس البشر، وتبدو مجرد صدى لذكريات متهرئة وأحلام عابرة، ولا يجد الشاعر ما يؤنس وحدته سوى أن يشاكس الأشياء، يفتش في ظلالها عن شيء يخصه، ورائحة تشبهه. ربما من خلالها يجد ما يشاركه همومه وانفعالاته ونزقه، أو على الأقل يخفف من أعباء الوحدة، ولو بالتسلية الساخرة المرة.
بهذه الروح، يعي الشاعر المشهد، ويعيشه ككرة من المطاط ترتطم بالحائط ثم ترتد إليه. وهكذا، دواليك، حتى يتعب الاثنان، أو لا يجد أحدهما ما يصنعه للآخر، فينسحب في هدوء مرتضياً برشاقة الهزيمة والسخرية من كل شيء. فلا بأس إذن أن يسخر من حجرته، بعد أن ضاقت بأنفاسه، وفقدت ميزتها كرحم مكاني يحتويه... يقول في مستهل الديوان، وفي نص يشكل مناط الجدارة الشعرية بين نصوصه وصفحاته التي تزيد على المائة صفحة:
«ضقتِ أيتها الحجرة
وصرتِ تثورين لأتفه سبب
فما رأيك أن أخلصك الآن من أشيائك القديمة
أو أن يلين قلبك ونقتسمها
كي يستطيع الهواء أن يجد طريقاً لرئتيكِ
ما رأيك؟
ماذا تريدين؟
المقعد؟
حسنٌ، لا أحد يزورني
ولطالما اشتكى من الوحدة
لكن احذري، ساقه المكسورة لم تتحمل همومي.
السرير أيضاً؟!
أيتها الطماعة، كيف أقنع إغفاءاتي المضطربة أن تبحث عن بديل
وماذا ستفعلين في الكوابيس التي تنخر عظمه؟!
لا بأس، احمليه
فقط حين تُخرجين الوسادة للشمسِ احرصي
كي لا يفر حلمٌ جميلٌ مر بالخطأ».
لا يسعى الشاعر إلى أنسنة الأشياء والتقاط مفارقاتها العابرة، أو تحميلها بما تنأى عنه من الدلالات والرموز، فهي محملة بكل هذا، وفقاً لوظائفها ومهامها الحياتية الواقعية، ثم إنها كائنات لها وجودها، وحيواتها الخاصة، وحيزها المكاني والزماني أيضاً، لذلك يبرز الوعي بالذات الشاعرة، وكأنها ثمرة من ثمرات اللغة والطفولة تحتاج للرعاية حتى لا تشيخ وتذبل، وتفقد نضرة الحياة، وروح المرح والسخرية.
حين تجلس على الكرسي فإنك تمارس نوعاً من الوجود المزدوج: وجود الكرسي نفسه في حيزه المكاني، ووجودك أنت المضاف إليه، كقيمة وحركة ودلالة، تتنوع بحسب المزاج، وطبيعة المشاعر العاطفية، فشتان بين هذا الوجود المضاف في حالة السأم والضجر والألم، وبينه في حالة البهجة والمرح والفرح العاطفي والسرور.
في هذا القوس، تستمر اللعبة إذن حتى آخر الشوط، آخر الملل والسأم والضجر، ربما يمتزج المشهد برقته الهاربة، أو يفيض عن شيء آخر، أكثر دلالة ومفاجأة:
الخزانة!
لكنها فارغة
ليس بها سوى صورٍ ممحوة
لم أشأ إيلام جدرانك بالمسامير كي أعلقها
حسنٌ لن أضن بها
نحصي إذن ما تبقى
التواريخ على الحائطِ!
لقد بَعُدَتْ جداً
وغدت باهتة، فلا أستطيع أن أميز الحزين من الفرِحِ
لذلك سأتركها أمانة في عنقكِ
ثم ماذا؟
أظنكِ لستِ بحاجة إلى ماكينة حلاقة صدئة
أو فرشاة أسنانٍ قديمة
ما الذي أبقيتِ لي أيضاً؟
كتباً! مرآة ضريرة!
ذكرياتٍ!
ألا ترين أنها قسمة ضيزى
خذي كل شيء وانزعي السلاسل
أستطيع أن أحمل العتمة بعيداً
أعصب عينيها كي تتوه
وألقيها لأول مقلب للقمامة
أو أربطها بحجر وأقذفها إلى البحر
فقط دليني على الباب
كان هنا باب.
رغم التعليل الخشن في «أعصب عينيها كي تتوه»، يحقق النص من خلال علاقة التوازي بين النفي والإثبات حول حقيقة وجود «الباب» في لطشة الختام نموه الدرامي بسلاسة لغوية، وحساسية شعرية شديدة الإثارة، تضعه في قلب سيمولوجيا العلامة، فالباب ليس مجرد رمز أو دلالة محددة الإطار، إنما علامة عابرة مفتوحة على إمكانية الدخول والخروج، تبلغ ذروتها فنياً بإمكانية عزل العالم ونفيه في قبضة الوحدة، داخل هذا الحيز المكاني الضيق. ما يمنح النص رحابة في المعني، والقدرة على الاتساع زمانياً ومكانياً.
تتداعي أجواء هذا النص المفتاح في أغلب النصوص، لكن بفاعلية شعرية أقل، تراوح ما بين الثقل والخفة، ونثر الحكي ونثر الشعر، فتعاود الذات الشاعرة اللعب مع نفسها ومحاولة صناعة البهجة من نثريات الحياة، متقمصة إيقاع العازف الموسيقي، ومهارة الخباز ومناخات الطفولة، ومن نافذة الاحتياج والوجع الإنساني، تطل على الوحدة، تخشى عليها من الحيرة والتسكع في الطرقات، وكأنها صديق حميم. تطالعنا هذه الأجواء في نص رقم (22) يقول فيه الشاعر:
ستخرجين للشارع أيتها الوحدة
بشعرك الأشعث
وملابسك الممزقة
وأظافرك الطويلة التي طالما نهشت أرواحنا
تسألين كل عابر
أن يرق لكِ
فيمضون
والعيال الذين مات آباؤهم تحت وطأتك
يقذفونك بالحجارة
بتعاويذ تعلمناها من الخوف نُبطل بها حيَلكِ
ونمد أصابعنا في جوفك
ننزع روحك
روحك مصاصة الدماء
كل ألاعيبك انكشفت
ستموتين وحدكِ
حتى اللعنات
لن نصبها عليك
مخافة أن تصحبكِ إلى قبرك
وتؤنس وحدتك».
تتحول السخرية هنا إلى علامة، تنشط فوق سطح الطفولة، وبقوة العلامة تتجرد الصورة الشعرية من النمطية الذهنية، وتصبح شكلاً من أشكال اللعب المغوي، وتتسع طاقة الصورة بصرياً، فهناك صوت لحركة العناصر والأشياء في النص، يدفعها إلى تمثل حسية أبعد، مفتوحة على براح الحواس، كما تتسع المسافة بين الدال والمدلول، وتصبح مسرحاً للعب بين الذات وموضوعها، كأنهما في صراع مكشوف، من أجل أن تبقي حرية النص هي التي تحدد ضربتي البداية والنهاية. يطالعنا ذلك في نص رقم (2) مشكلاً عتبة تمهيدية لهذا النمو الساخر المرح... يقول الشاعر فيه:
«أنا صانع البهجة الذي كلما فرغتُ من العمل
أجمع صغاركم
أصنع لهم عرائسَ العجين
وغابة لا تأكلهم وحوشها
الغابة التي يصنعها المجانين
أصنع لهم آباء طيبين
ظهورهم مستقيمة
وأمهات بعيون لم يطفئها الحزن»
لا تنفصل الأنثى المفتقدة برمزيتها المتنوعة عن هذه الأجواء أيضاً. فتنعكس عليها ما تخلفه الوحدة من وحشة، ويبدو حضورها دائماً كأنه غياب يشبه الحضور. بل كأن الوحدة أنثى... يقول في نص رقم (4):
«الأمر ليس بهذه البساطة
أستيقظ فلا أجدكِ
أمور كهذه لم تعد تناسبكِ
ولا أظنك على سفر
أو – لا قدر الله - قد هربتِ
أحذيتك بكاملها
ولم تتركي - مثل هاربات الدراما - ورقة
ولم تكتبي
لم تكتبي
ما الذي كنت ستكتبين لو أنك فعلتِ
(تركت لك عكازة أبيك)
مثلاً؟
أبي أضاعها
تعلمين كان يهش بها على غنمه
حاصرته الذئاب وانقضت على عكازتيه
فآوى إلى ركن قصي وبكى».
لكن، يشوب حضور الأنثى نظرة أحادية، فغالباً ما تتحول الى مرآة تنعكس عليها الأشياء كما ترسمها الذات الشاعرة وتريدها وتتمناها. لذلك تبدو حريتها وصورتها محددتين مسبقاً، وصدى لصوت الشاعر، لا تنفك عن ذكرياته وأحلامه وصراعاته المتوهمة، كما لا تسعى النصوص إلى اكتشاف ما يكمن وراء هذه الصورة، بل تصفها وكأنها المسئولة عن خراب العالم: (أنتِ لا تحبين إلا نفسكِ/ قاسية وبلا قلب تقريباً/ تعلمين أن طاغية يعتقل الآن بلداً بكامله/ كل يوم يجرهم في طوابير). ومع ذلك لا يتمنى الشاعر سوى أن تموت بعده بدقائق، لأنه يكره الوحدة والظلام... كما في نص رقم (34):
«ماذا تفعلين بعد موتي
بالتأكيد لن تكوني وحيدة
وتعيسة
سوف تظلين كما أنت محاطة بالمحبين
ولست غبياً لأدعوك على العشاء
ثم أقترح عليك أن نتخلص من العالم
بانتحار ثنائي
فأنا أعرف أنك تحبين الحياة جداً
لذلك دعوت الله أن يلحقك بي بعد عدة دقائق
لأنني أكره الوحدة والظلام».
ورغم ذلك، يحمل الديوان طاقة شعرية متدفقة، وشاعراً له رؤيته ورائحته الخاصة، أحسب أن أعماله القادمة ستكون أكثر إثارة للدهشة والأسئلة.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.