كريس ويتي... «مهندس» خطة بريطانيا للخروج من أزمة «كوفيد ـ 19»

الطبيب الواقعي الذي يقدم المشورة ويترك القرار للساسة

كريس ويتي... «مهندس» خطة بريطانيا للخروج من أزمة «كوفيد ـ 19»
TT

كريس ويتي... «مهندس» خطة بريطانيا للخروج من أزمة «كوفيد ـ 19»

كريس ويتي... «مهندس» خطة بريطانيا للخروج من أزمة «كوفيد ـ 19»

قبل سنة ونصف السنة، لم يكن اسم كريس ويتي معروفاً خارج الدوائر الطبية الضيقة في بريطانيا. أما اليوم، فقد أصبح من أكثر الشخصيات إثارة للانقسام في الشارع البريطاني. إذ ارتبط اسمه بوصف «الكاذب» و«المضلّل» في لافتات المتظاهرين المشككين بجائحة «كوفيد 19». وفي المقابل، ينظر إليه آخرون بامتنان، ويعتبرونه «صوت العقل والعلم» الذي يعمل في ظل حكومة «متهوّرة».
هذا، وقد تجمع العشرات الشهر الماضي خارج ما كانوا يتوقعون أنه مكان سكنه وسط لندن مطلقين شعارات تهديدية، واعترضه شابان في إحدى حدائق العاصمة. وبعكس هؤلاء، ترقّب آلاف موقفه قبل أيام من إعلان الحكومة المحافظة الحالية رفع جميع القيود المرتبطة بـ«كوفيد 19»، وتسلحوا بتوجيهاته وعلمه لمواجهة المشككين في أهمية الكمامات والتباعد الاجتماعي.
فمن هو كريس ويتي؟ وكيف تحوّل من طبيب متخصّص في علم الأوبئة والأمراض المُعدية إلى رمز استجابة بريطانيا لأكبر أزمة صحية منذ قرن؟
على عكس كثيرين في دوائر الاهتمام، نجح البروفسور كريس ويتي في الحفاظ على قدر كبير من الخصوصية. فرغم منصبه الحكومي البارز وظهوره المتواصل في مؤتمرات «كوفيد 19» الصحافية بالعاصمة البريطانية لندن، لم يعقد ويتي أي مقابلات صحافية تطرقت إلى حياته الشخصية أو اهتماماته خارج إطار عمله. ولقد نقلت صحيفة «الغارديان» عن مقرّبين منه أنه من هواة رياضة كرة المضرب، فيما قال خلال اتصال مرئي في فبراير (شباط) الماضي، نظمته الكلية الملكية للأطباء: «إنني أتطلع حقاً لرؤية العائلة والأصدقاء. إذ أرَ العائلة والأصدقاء منذ وقت طويل جداً، مثل معظم الناس».
كذلك لم يُخف ويتي شوقه لمغادرة لندن والاستمتاع بالطبيعة. قائلاً ذات يوم: «أتطلع حقاً إلى الخروج من لندن. أنا في لندن للعمل، ليس لأنني أرغب في العيش في لندن. أتطلع إلى الخروج إلى التلال في إنجلترا والجبال في أسكوتلندا، يبدو هذا الآن حلماً بعيداً جداً».

النشأة والمسيرة

وُلد كريستوفر «كريس» جون ماكراي ويتي في مدينة غلوستر الصغيرة، بجنوب غربي إنجلترا، لسوزانا وكينيث ويتي يوم 21 أبريل (نيسان) 1966. وأمضى كريس، وهو أكبر إخوانه الأربعة، جزءاً كبيراً من طفولته المبكرة في شمال نيجيريا؛ حيث كانت والدته معلّمة، بينما كان والده مسؤولاً في المجلس الثقافي البريطاني (British Council)، ولقد أقامت الأسرة خلال فترات انتداب والده الخارجية في كل من مدينة كادونا بشمال نيجيريا، وكذلك في جمهورية مالاوي.
أُرسل ويتي إلى بريطانيا للدراسة، وكانت البداية في مدرسة ويندلشام هاوس بمقاطعة ويست ساسكس (إلى الجنوب من لندن)، قبل أن يلتحق بكلية مولفرن Malvern College العريقة الراقية في غرب إنجلترا. ومنذ سن مبكّرة، شغف كريس بالطب والصحة العامة، وذلك بفضل علاقته الوطيدة بجدته لأمه غريس سمرهايس، التي كان يقيم معها في بعض الأحيان، والتي أسست في عام 1928 أول مستشفى للولادة في غانا، وهو من أوائل المستشفيات التي تقدم تدريباً على القبالة والتوليد في أفريقيا.
وقبل شهر من بلوغ كريس ويتي سن الـ18، سقط أبوه كينيث – الذي كان في حينه يشغل منصب نائب مدير المجلس الثقافي البريطاني في أثينا – ضحية جريمة قتل في اليونان، بينما كان يقود سيارته مع أصدقاء له في عام 1984. ويومذاك اتهم بارتكاب الجريمة مسلحون من منظمة «أبو نضال»، ورجحت تقارير في حينه أنه قتل خطأ، لأن المسلحين كانوا يستهدفون عميلاً في جهاز الاستخبارات البريطانية «إم آي 6» باع سيارته لويتي.
وبعد إنهائه دراسته الثانوية في مولفرن، التحق ويتي بكلية بمبروك في جامعة أكسفورد العريقة حيث تخرّج فيها بدرجتي بكالوريوس في الفسيولوجيا ودكتوراه في العلوم الطبية. ثم انتقل إلى كلية وولفسون في جامعة أكسفورد أيضاً حيث نال شهادة الطب عام 1991. بعدها التحق بمعهد لندن للصحة العامة وطب المناطق المدارية في جامعة لندن، ونال منه درجة دكتوراه أخرى، كانت هذه المرة في الصحة العامة وطب المناطق المدارية، ومعها الماجستير في علم الأوبئة عام 1996. غير أنه لم يكتفِ بكل هذا، إذ حصل على ماجستير قانون في القانون الطبي من جامعة نورثمبريا عام 2005، وماجستير في إدارة الأعمال من جامعة هيريوت وات في أسكوتلندا عام 2010. ودبلوم في الاقتصاد من الجامعة المفتوحة.

مناصبه الوظيفية

يتقلد كريس ويتي كثيراً من المناصب الحكومية المرموقة، نذكر منها رئيس المعهد الوطني للأبحاث الصحية، وكبير المستشارين العلميين لقسم الصحة والرعاية الاجتماعية، وكبير المستشارين الطبيين لحكومة المملكة المتحدة. إلا أن المنصب الذي يعرّف به ويتي في أروقة وايتهول (مقر أجهزة الحكومة)، واشتهر به في الأوساط الصحية الدولية، هو كبير المستشارين الطبيين في إنجلترا.
والحقيقة أن مسؤوليات ويتي لا تقف عند هذا الحد. فإلى جانب مناصبه «السياسية»، يواصل الطبيب الموسوعي المتخصص في الأوبئة عمله طبيباً ممارساً في أحد المستشفيات الجامعية في العاصمة البريطانية، كما كشف في ردّه على سؤال لأحد الصحافيين حول خططه لإجازة نهاية السنة العام الماضي. ثم قدّم ويتي دروساً في مدرسة لندن للصحة والطب الاستوائي، وقدم محاضرات في غريشام كوليدج بلندن.

وباء إيبولا

تقول سالي ديفيس، التي شغلت منصب كبير المستشارين الطبيين قبل ويتي، إنه خلال عملها إلى جانب ويتي لمدة 6 سنوات، وإبان استجابة بريطانيا لوباء إيبولا في أفريقيا، وجدته صلباً متمسكاً بمواقفه حتى في حال واجه تحديات من الوزراء. كذلك تقول جاستين غرينينغ، وزيرة التنمية البريطانية السابقة التي اشتغلت عن قرب مع ويتي عند شغله منصب كبير المستشارين العلميين في وزارة التنمية، إنه لم يساهم فقط بخبرته الممتدة عقوداً، بل استفاد كذلك من المجتمع العلمي الأوسع الذي كان جزءاً منه. وكتبت عنه في مقال نشرته صحيفة «يوركشير بوست» واصفة إياه «بذكائه ومنهجه، ساعدني ويتي في توجيه اجتماعات الأزمة الحكومية (كوبرا)؛ حيث أشركنا مجلس الوزراء في استراتيجيتنا للتغلب على الإيبولا». ثم تابعت: «أعلم منذ فترة عملنا معاً أن كريس سيعمل بلا كلل لتقديم أفضل نصيحة ممكنة» في إطار مكافحة «كوفيد 19».

جائحة «كوفيد ـ 19»

بعد 5 أشهر فقط من تعيين كريس ويتي خلفاً لسالي ديفيس كبيراً للمستشارين الطبيين في إنجلترا، وجد الرجل نفسه في عين عاصفة جائحة «كوفيد 19». وهكذا تحوّل هذا الطبيب والباحث الذي طالما سعى إلى حماية خصوصيته وإحكام علاقته مع الإعلام إلى أهم مسؤول غير منتخب في بريطانيا. وعلى مدى عدة أسابيع، تسمّر البريطانيون وراء شاشاتهم لمتابعة عرض ويتي شبه اليومي. وعلى الدوام، كان عرضه الغني بالإحصائيات والسيناريوهات المحتملة نقطة ارتكاز المؤتمرات شبه اليومية حول الجائحة، وكانت أعين البلاد عليه في كل خطوة تتّخذها الحكومة في تشديد أو تخفيف الإجراءات.
كذلك اعتاد البريطانيون على ملاحظة اعتماد رئيس الحكومة المحافظ بوريس جونسون عليه لدى الرد على أسئلة الصحافيين القلقين من المشهد الوبائي تارة، والمنتقدين لبعض السياسات المتبعة تارة أخرى. لكن ويتي، الذي وُصف تأثيره على جونسون بـ«الكبير»، كان يدرك جيداً أن عمله لا يتجاوز حدود الاستشارة. وبدا ذلك واضحاً عندما قال معلّقاً على قرار الحكومة رفع جميع القيود المرتبطة بـ«كوفيد 19» في 19 يوليو (تموز) الحالي: «المستشارون ينصحون، والساسة هم الذين يقرّرون».
وفي سياق موازٍ، رغم الاحترام الواسع الذي يحظى به ويتي في الأوساط الطبية والعلمية، فإنه لم يفلت من بعض الانتقادات الحادّة من طرف زملاء المهنة. ولعلّ الانتقاد الأبرز جاء من الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، وتحديداً من داخل البيت الأبيض، عندما عبّر الدكتور أنتوني فاوتشي، كبير المستشارين الطبيين للرئيس الأميركي، عن استغرابه من قرار بريطانيا تمديد الفترة بين جرعتي اللقاح من 3 إلى 12 أسبوعاً. وقال فاوتشي حينها إن «الوقت الأمثل» لتلقي جرعة اللقاح الثانية هو بعد 21 يوماً من الأولى، وأكد لشبكة «سي إن إن» في يناير (كانون الثاني) الماضي أنه «لن يؤيد» استراتيجية الحكومة البريطانية.
وفي المقابل، رأت الحكومة البريطانية، بتأييد من ويتي، منافع كثيرة في تأخير الجرعات الثانية. وأوضحت وزارة الصحة، في بيان، أنها ستعطي الأولوية في الجرعة الأولى «لأكبر عدد من الأشخاص في المجموعات المعرّضة للخطر». وتابعت: «سيتلقى الجميع جرعتهم الثانية، وسيحصل ذلك في غضون 12 أسبوعاً من الجرعة الأولى». وبينما اعتبر هذا القرار رهاناً عالي المخاطر، فإنه أتاح لبريطانيا إنجاز إحدى أنجح حملات التطعيم في العالم، وشملت حتى اليوم 86 في المائة من سكانها البالغين بالجرعة الأولى، وأكثر من 60 في المائة الجرعة الثانية.

قضية رفع القيود

بعكس رهان استراتيجية التلقيح، لقي قرار الحكومة البريطانية الأخير رفع جلّ القيود المرتبطة بمكافحة «كوفيد 19» الأسبوع المقبل انتقادات واسعة داخل حدود البلاد وخارجها. ويذكر أن رئيس الوزراء، تحت ضغط الحزبيين المحافظين، يعتزم رفع القيود التي أملتها الجائحة، وإعادة فتح مرافق اقتصاد إنجلترا من جديد، اعتباراً من 19 يوليو، رغم تحذيرات علماء ساهموا في بلورة استجابة البلاد للجائحة. فرغم تحقيق واحد من أعلى معدلات التطعيم في العالم، تواجه بريطانيا موجة جديدة من «كوفيد 19»، ولا سيما المتحور «دلتا»، إذ شهد عداد الإصابات اليومية ارتفاعاً بلغ 30 ألف حالة، بينما عادت الوفيات إلى الارتفاع، وإن كان بوتيرة أبطأ كثيراً من الشتاء الماضي، لتبلغ 50 حالة وفاة في اليوم.
ويمثل قرار بوريس جونسون في هذه الظروف مقامرة حقيقية، فهو يهدف إلى التعايش مع الفيروس فيما يعد أول اختبار من نوعه في العالم لقدرة اللقاحات على حماية الناس من المتحور «دلتا» الشديد العدوى.
وفي حين لم يعبّر ويتي صراحة عن معارضته لهذا القرار، فإنه شدّد على «ضرورة احترام إجراءات الوقاية، بما يشمل الاستمرار في التباعد الاجتماعي والحدّ من اللقاءات غير الضرورية والالتزام بالكمامات في الأماكن المغلقة والمكتظة». وتوقّع ويتي أن تشهد البلاد موجة إصابات جديدة، قد تؤدي في أوجها إلى إدخال 1000 إلى 2000 مصاب بالفيروس إلى المستشفيات، وذلك بحلول منتصف الشهر المقبل. وقال معلقاً: «ما نأمله، إذا التزمنا بحذر شديد خلال الفترة المقبلة، هو أن تكون الذروة التالية أقل بكثير من الذروة التي شهدناها في يناير، والتي تسببت في ضغوط هائلة على هيئة الصحة العامة».
ما يّذكر أن كثيرين أعربوا في الفترة الماضية عن اعتراضهم على قرار الحكومة. واعتبرت آن كوري، خبيرة علم الأوبئة في كلية إمبريال كوليدج، والتي كانت وراء أحد النماذج التي استفاد منها جونسون في قراره الأولي إرجاء «يوم الحرية»، أنه من السابق لأوانه الإعلان أن البلاد تستطيع التعايش مع تزايد الحالات. وقالت لوكالة «رويترز» إن تأجيل رفع القيود مرة أخرى ستكون له فائدته. ثم أضافت: «أعتقد أن التأجيل كسب للوقت، ولدينا خطوات قد تفيد في تقليل انتشار العدوى»، مشيرة إلى الجرعات التنشيطية واحتمال تطعيم الأطفال.
من ناحية أخرى، كتب أكثر من 100 عالم رسالة إلى دورية «لانسيت» الطبية المرموقة، وصفوا فيها خطط جونسون لرفع القيود كلها بأنها «خطيرة وسابقة لأوانها». واعتبروا أن الاستراتيجية القائمة على التعايش مع مستويات عالية من العدوى «غير أخلاقية».
لكن حكومة جونسون تقول إن عليها أن تنظر «إلى ما هو أبعد من مجرد المنظور الوبائي». وأشار وزير الصحة الجديد، ساجد جاويد، وهو رجل أعمال، إلى مشكلات تعليمية واقتصادية تراكمت خلال الجائحة، ورأى أن في هذه المشكلات ما يحفز على العودة للحياة العادية، حتى إذا بلغت الإصابات 100 ألف حالة يومياً، على حد قوله.
وبدأ نقاش حاد بين من يعتقدون أن العطلة الدراسية الصيفية تمثل أفضل أمل لرفع القيود هذا العام، وآخرين يرون أن جونسون يرتكب خطأ آخر بانتظاره فترة طويلة قبل إصدار أوامر الإغلاق السابقة، بعدما اتهموه بالتسبب في واحد من أعلى معدلات الوفيات في العالم.



اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
TT

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين اتهمها بتمويل جماعات إرهابية من بينها «بوكو حرام»، التنظيم الإرهابي الذي يخوض حرباً داميةً ضد نيجيريا منذ 2009، قتل فيها عشرات آلاف النيجيريين. في نيجيريا لا صوتَ يعلو اليوم على مطالب التحقيق في مزاعم وصول أموال الوكالة الأميركية إلى «بوكو حرام»، ومحاسبة المتورطين في القضية جميعاً؛ لأن النقاش الذي يدور في الصحافة المحلية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ أبعاداً خطيرة بعد اتهام شخصيات في الوسط السياسي والمجتمع المدني بأنها متورطة في إيصال أموال الوكالة إلى التنظيم الإرهابي. واتسعت دائرة الجدل ليطرح أسئلة حول خطورة أموال المساعدات الخارجية على الأمن القومي للدول المستفيدة منها، خصوصاً إثر الكلام عن دور سياسي لعبته تمويلات «الوكالة» في خسارة الرئيس النيجيري الأسبق غودلاك جوناثان رئاسيات 2015.

منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في يناير (كانون الثاني) الماضي، وقَّع الرئيس العائد عدداً من القرارات أو «الأوامر التنفيذية»، التي كان في مقدمها قرار بتعليق جميع المساعدات الخارجية الأميركية باستثناء تلك المخصَّصة لمصر وإسرائيل. وكانت الذريعة، انتظار التدقيق في نشاطات «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» التي ظلت لأكثر من 7 عقود تمثّل وجه الدبلوماسية الناعمة للولايات المتحدة.

ترمب يريد اليوم طيّ حقبة هذه الوكالة، وأسند مهمة تفكيكها إلى الملياردير إيلون ماسك، وزير «كفاءة العمل الحكومي» في فريقه الخاص. ولم يتأخر الأخير في وضع يده على جميع وثائق الوكالة، التي وصفها بأنها «عشٌ للأفكار اليسارية المتطرفة التي تكره أميركا».

هذا النقاشُ ظل أميركياً خالصاً، حتى جاءت تصريحات سكوت بيري، عضو الكونغرس عن ولاية بنسلفانيا، لتخرج به نحو دوائر أبعد. إذ قال الرجل إن 697 مليون دولار أميركي من التمويلات السنوية لـ«الوكالة» تنتهي بحوزة تنظيمات إرهابية، من بينها جماعة «بوكو حرام»، وجماعة «طالبان»، وتنظيم «القاعدة».

تصريحات بيري جاءت خلال جلسة استماع للجنة الفرعية لمراقبة كفاءة الحكومة، تحت عنوان «الحرب على الهدر: القضاء على ظاهرة المدفوعات غير المشروعة والاحتيال». وقال بيري أمام اللجنة: «أموالكم تذهب لتمويل الإرهاب، عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية... يجب أن يتوقف هذا فوراً».

وأضاف بيري في حديثه أمام لجنة الاستماع أن الوكالة خصَّصت 136 مليون دولار لبناء 120 مدرسة في باكستان، إلا أنه لم يُعثر على أي دليل يثبتُ تنفيذ هذه المشاريع، معتبراً أن ذلك يثير الشكوك حول مصير هذه الأموال.

علم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (آ ف ب)

مطالب التحقيق

تصريحات عضو الكونغرس أثارت بطبيعة الحال جدلاً واسعاً في نيجيريا، وحظيت بحيّز واسع من التداول في الصحافة المحلية. وخلال برنامج تلفزيوني على قناة محلية لنقاش تصريحات سكوت بيري، قال علي ندومة، عضو مجلس الشيوخ في نيجيريا عن ولاية بورنو، إن على نيجيريا فتح «تحقيق شامل حول الادعاءات التي تفيد بأن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تموّل (بوكو حرام)».

وأردف السياسي النيجيري الذي ينحدرُ من بورنو، أكثر ولايات نيجيريا تضرراً من هجمات «بوكو حرام» الإرهابية: «لا يمكنكم القول إنها مجرد مزاعم، الأمر يتجاوز ذلك. ولهذا السبب يتوجَّب على الحكومة النيجيرية، والبرلمان الوطني على وجه الخصوص، التحقيق في هذه الادعاءات والتحقّق من صحتها، لأنها خطيرة للغاية».

ثم تابع ندومة: «هذا التطوّر مقلق للغاية، خصوصاً أن إحدى الجماعات الإرهابية التي ذكرها سكوت بيري هي (بوكو حرام)، التي لم تدمّر شمال شرقي نيجيريا فحسب، بل امتد تأثيرها أيضاً إلى مناطق أخرى من البلاد. تتذكرون أن (بوكو حرام) فجَّرت مقر الشرطة، ومكتب الأمم المتحدة في أبوجا، وكانت الخسائر البشرية هائلة. لذا، يجب أن تكون الحكومة النيجيرية مهتمةً بهذا الأمر».

ومن ثم، أعرب ندومة عن قلقه الكبير حيال هذه المزاعم، لافتاً إلى أن «أجهزة الأمن النيجيرية سبق أن أثارت هذه القضية بشكل غير مباشر مرات عدة»، في إشارة إلى تصريحات أدلى بها قائد أركان الجيش النيجيري أخيراً ذكرت أن «دولاً ومنظمات أجنبية» متورطة في تمويل «بوكو حرام». وخلص عضو مجلس الشيوخ النيجيري إلى التأكيد على ضرورة التحقيق في هذه المزاعم، وأن الجميع «كان يتساءل منذ سنوات طويلة عن مصدر تمويل هؤلاء الأشخاص».

قرويون نيجيرون إثر تعرّض قريتهم لإحدى هجمات "بوكو حرام" (آ ب)

المسلمون... و«بوكو حرام»

في الواقع، لأكثر من 15 سنة، دأبت جماعة «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا، وكان السؤال الذي يُطرَحُ بإلحاح من قِبَل الجميع هو: مَن يقف خلف هذا التنظيم الإرهابي؟ ومَن يوفر له التمويل والسلاح... ويمكِّنه من تجنيد آلاف الشباب المحبطين وفاقدي الأمل؟.

طيلة تلك الفترة، كانت أصابع الاتهام توجَّه إلى زمر من المسلمين الذين يشكلون غالبية سكان شمال نيجيريا، حيث تنشط الجماعة الإرهابية. ولكن مع إثارة الجدل حول مزاعم تمويل «بوكو حرام» عبر «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» أصدرَ «مركز الشؤون العامة للمسلمين» في نيجيريا بياناً يستحضر فيه اتهامات سابقة للمسلمين بتمويل الجماعة.

ولقد طلب «المركز» من البرلمان النيجيري التحقيق في تلك المزاعم، وأعرب رئيسه ديسو كامور، عن «قلقه العميق إزاء هذه الادعاءات»، قبل أن يستحضر «حملة التدقيق والاتهامات الظالمة التي واجهها المسلمون النيجيريون، ومنها التعاطف مع (بوكو حرام)».

وقال كامور: «إذا كانت هذه المزاعم صحيحة، فإنها ستكشف نفاق أولئك الذين ألقوا باللوم على المجتمعات المسلمة المحلية، بينما كانت جهات خارجية تدعم الإرهابيين». وطالب، بالتالي، السلطات النيجيرية بالتحقيق في المزاعم لأن «النيجيريين يستحقون الشفافية والمساءلة بشأن أي تورّط أجنبي في تمويل الإرهاب على أراضينا».

شكوك كبيرة

من جانبه، ذهب آدامو غاربا، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية في نيجيريا، والقيادي في حزب «المؤتمر التقدمي الشامل»، إلى أن «شكوكاً كبيرة» تحوم حول تمويلات الوكالة في نيجيريا، وأعلن تصديقه للادعاءات بأن بعض التمويلات قد تكون بالفعل أسهمت في تسليح «بوكو حرام» و«داعش في غرب أفريقيا».

وادعى غاربا، في مقطع فيديو نشره عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «إكس»، أن «الوكالة» أنفقت مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا العام الماضي، وتساءل عن طريقة صرف هذا المبلغ الكبير.

ثم أضاف: «ذكرتُ سابقاً أن (بوكو حرام) و(داعش)، ومختلف التنظيمات الإرهابية في المنطقة، تتلقى أسلحتها عبر جهات أجنبية سرّية تموّلها وتزوّدها بالسلاح. وبعد الكشف عن دور (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، يكفي أن نعرف أنه في العام الماضي وحده، أنفقت الوكالة مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا، فأين ذهب هذا المال؟ هل تعلم ماذا يعني 824 مليون دولار؟ عند تحويله إلى النيرة (العملة النيجيرية)، يساوي 1.3 تريليون نيرة».

واستطرد قائلاً: «هذا يعني أن كل ولاية يمكن أن تحصل على 36 مليار نيرة، ومع ذلك، يزعمون أنهم أنفقوا هذه الأموال على الحدّ من وفيات الأطفال والتعليم، لكن ماذا رأينا؟ لا شيء. متى دخل هذا المال؟ وأين ذهب؟ هذه الأموال تذهب لتمويل (بوكو حرام)، والخاطفين الذين يستخدمونها للقتل وتدمير بلادنا، هذه هي الحقيقة».

قضية باينانس

في سياق موازٍ، بينما يحتدم النقاش في نيجيريا حول اتهام «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» بتمويل أنشطة «بوكو حرام»، اتهم فيمي فاني-كايودي، وزير الطيران السابق في نيجيريا، أخيراً، مسؤولاً تنفيذياً في شركة باينانس، أكبر منصة عالمية لتداول العملات الرقمية، بالتورط في إيصال التمويلات إلى الجماعة الإرهابية.

وزعم الوزير السابق إن تيغران غامباريان، المسؤول التنفيذي في شركة «باينانس» كان «أداة» استخدمتها الوكالة لتمويل الجماعة، قبل أن يصف غامباريان بأنه كان «عامل تمكين للإرهاب وأسهم في تخريب اقتصاد نيجيريا».

وللعلم، اعتُقل غامباريان في نيجيريا العام الماضي بعد اتهام السلطات النيجيرية شركة «باينانس» بالتهرب الضريبي، والتورّط في عمليات غسل أموال، بالإضافة إلى المساهمة في إضعاف العملة المحلية «النيرة». إلا أنه أُفرِج عن الرجل؛ بسبب تدهور وضعه الصحي، بينما تشير بعض المصادر إلى أن السلطات النيجيرية تعرَّضت لضغط دبلوماسي أميركي كبير.

وفي آخر تطور للقضية، رفعت نيجيريا دعوى قضائية في الأسبوع قبل الماضي ضد منصة «باينانس»، تطالبها بدفع 79.5 مليار دولار، تعويضاً عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن عملياتها في البلاد، بالإضافة إلى مليارَي دولار ضرائب متأخرة عن العامين الماضيين.

تمويل دون قصد!

في أي حال، لا يخلو النقاش الدائر في نيجيريا حول العلاقة بين «الوكالة» و«بوكو حرام» من حسابات سياسية ضيقة. ومن الأصوات التي بدت أكثر رصانةً، السفير والخبير الأمني نورين أبايومي موموني، عضو «حزب المؤتمر التقدمي» الحاكم، الذي نشر مقالاً تطرَّق فيه إلى طريقة عمل المنظمات الدولية، مشيراً إلى أنها تحتاج إلى المراجعة، لأنها قد تُموِّل أنشطة إرهابية «دون قصد».

وتابع: «أنا قلق للغاية بشأن الاتهامات الأخيرة» التي تفيد بأن الوكالة قد تكون دعمت الإرهاب دون قصد في نيجيريا ومناطق أخرى من العالم... «هذه الادعاءات تثير تساؤلات جوهرية ليس فقط حول نزاهة المساعدات الإنسانية، ولكن أيضاً حول تداعياتها الأوسع على الأمن العالمي، والعلاقات الدبلوماسية».

وأضاف أبايومي موموني أن «على الوكالات الدولية العاملة تقديم الدعم الإنساني من دون الإضرار بأمن المجتمعات المستضيفة». ورأى أن الاتهامات الأخيرة تؤكد «الحاجة الملحة إلى تعزيز الرقابة والمساءلة في برامج المساعدات الدولية. ومن الضروري أن تعزز وكالات مثل الوكالة الأميركية آليات المتابعة والتقييم والتدقيق؛ لضمان أن تصل المساعدات إلى مستحقيها ولا يتم تحويلها لدعم التطرف العنيف».

وأوضح أنه «إذا ثبتت صحة هذه الادعاءات، فقد تؤدي إلى زيادة التدقيق في سياسات المساعدات الخارجية الأميركية، ما يستدعي عملية إصلاح جذرية... لأن اتباع نهج شفاف في تمويل المساعدات والالتزام بالمعايير الأخلاقية في تقديم الدعم الإنساني أمران أساسيان. وبالتالي، على الحكومة الأميركية أن تعزز التزامها بمنع تمويل الإرهاب، واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أن تكون المساعدات وسيلةً لتحقيق السلام والاستقرار، لا العنف».

المال السياسي

غير أن الاتهامات الموجَّهة إلى «الوكالة» لم تقتصر على تمويل الإرهاب في نيجيريا، بل وصلت إلى أن بعض تمويلاتها أسهمت في التأثير على الانتخابات الرئاسية في البلد الذي يملك الاقتصاد الأكبر في غرب أفريقيا، والذي يبلغ تعداد سكانه نحو ربع مليار نسمة.

إذ كتبت الصحافة المحلية، ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، عن «علاقة» ربطت «الوكالة» مع قيادة حملة «أعيدوا فتياتنا» التي أطلقها ناشطون في المجتمع المدني عام 2014 إثر اختطاف «بوكو حرام» مئات الفتيات من بلدة شيبوك في قضية هزَّت الرأي العام العالمي آنذاك. ولقد ادعى ناشطون سياسيون أن الحملة كانت مدعومة سراً من «الوكالة» بهدف الإطاحة بالرئيس النيجيري آنذاك، غودلاك جوناثان، بعد حملة واسعة لتشويه سمعته، ربطه بالفشل، وحمَّلته مسؤولية اختطاف الفتيات والعجز عن تحريرهن، ما فتح الباب واسعاً أمام فوز محمدو بخاري بانتخابات 2015 الرئاسية.

كذلك تعرَّضت الناشطة النيجيرية عائشة يسوفو، التي كانت من أبرز وجوه الحملة، لهجوم حاد على منصة «إكس»، حين طالبها البعض بتقديم تفسير أو اعتذار، لكن الناشطة النيجيرية في ردِّها على هذه الاتهامات، نفت أي علاقة لها أو للحملة بـ«الوكالة» أو أي منظمة دولية أخرى. وقالت في تغريدة مقتضبة: «أنا أعمل مع نيجيريين ملتزمين ببناء أمة عظيمة، بعيداً عن نظريات المؤامرة والتشكيك». لأكثر من 15 سنة دأب تنظيم «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا... وكان السؤال المطروح بإلحاح:

مَن يقف خلفه؟