قوانين الحماية الفكرية... لماذا لا تطبق تماماً في البلدان العربية؟

منظمات وهيئات كثيرة تأسست منذ بداية القرن العشرين

قوانين الحماية الفكرية... لماذا لا تطبق تماماً في البلدان العربية؟
TT

قوانين الحماية الفكرية... لماذا لا تطبق تماماً في البلدان العربية؟

قوانين الحماية الفكرية... لماذا لا تطبق تماماً في البلدان العربية؟

يواجه المؤلفون والكتاب في الوقت الحاضر خطر سرقة مصنفاتهم ومؤلفاتهم، وأحياناً تعريضها للتشويه. وخلال معارض الكتب الأخيرة التي نظمت في القاهرة وبغداد والشارقة، اشتكى كثير من المؤلفين العرب من استفحال هذه الظاهرة المقلقة، وطالبوا بوضع حلول لها من خلال تطبيق ضوابط تشريعات حقوق الملكية الفكرية التي وقعت عليها معظم الدول العربية.
وقد تأسست كثير من المنظمات والهيئات للدفاع عن حقوق المؤلفين ومصنفاتهم الفكرية، ربما في مقدمتها منظمة «الويبو» أو «المنظمة الدولية لحماية الملكية الفكرية» التي تتخذ من جنيف مقراً لها. ومع أن الأهداف الأساسية لمثل هذه المنظمات تتركز أساساً على حماية العلامات التجارية وبراءات الاختراع، فإن جوانب مهمة كانت تعنى بوضع الضوابط والتشريعات الخاصة بحماية حقوق المؤلفين ومصنفاتهم الفكرية. كما بادرت كثير من الدول العربية إلى الانضمام إلى منظمة «الويبو» العالمية هذه، وتأسيس منظمات وطنية خاصة لحماية حقوق المؤلف، منها مصر والعراق وسوريا ولبنان والسعودية والجزائر والمغرب والإمارات والسودان وغيرها.
ويبدو أن للبنان خلفيات تاريخية بالنسبة لحماية الحرية الفكرية، إذ تشير ديباجة القانون اللبناني المرقم 12 جمادي الأولى عام 1358 هجرية (1910) الذي أمنَّ للمؤلفين حق الحماية الفكرية على منتجاتهم الفكرية، إلى أنه أنشئ في عهد الانتداب الفرنسي مكتب خاص للحماية الفكرية بتاريخ 19 يوليو (تموز) 1923، ثم صدر قرار بالخصوص يحمل رقم (2385) بتاريخ 17 يناير (كانون الثاني) 1924، حيث ارتبط منذ ذلك التاريخ بميثاق «برن» المعقود في 9 سبتمبر (أيلول) 1886. كما سعى لبنان إلى الانضمام إلى عدد من الاتفاقيات الدولية حول حماية الملكية الفكرية الخاص بمنظمة التجارة العالمي، فضلاً عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية (ويبو). أما قانون حماية الملكية الأدبية، فقد صدر بقانون تحت رقم (75) في أبريل (نيسان) 1999.
وفي سوريا، صدر قانون حماية حقوق المؤلف والحقوق المجاورة عام 2014. وحدد هذا القانون ارتباط تطبيق القانون بوزارة الثقافة، وتحديداً من قبل مديرية حماية حقوق المؤلف والحقوق المجاورة. وجاء في تعريف المصنف أنه «الوعاء المعرفي الذي يحمل إنتاجاً أدبياً أو فنياً أو علمياً مبتكراً، مهما كان نوعه أو أهميته أو طريقة التعبير أو العرض فيه».
وفي مصر، صدر قانون حقوق الملكية الفكرية المرقم (82) لسنة 2002، حيث أشارت الديباجة إلى أن القانون قد حل محل عدد من التشريعات السابقة، منها قوانين تتعلق بالعلامات التجارية، والقانون رقم (354) لسنة 1954. وقد حدد القانون حقوق المؤلف والحقوق المجاورة التي تنطبق على المصنف المبتكر، أدبي أو فني أو عملي، أياً كان نوعه أو طريقة التعبير عنه. كما تضمن القانون تفاصيل دقيقة حول حقوق المؤلف وورثته، فضلاً عن تحديد مفهوم الحقوق المجاورة.
وصدر في الجزائر تشريع خاص بحماية الملكية في حقل حماية البرمجيات في عام 2011 تحت رقم (26)، وقد خصص هذا التشريع أبواباً لحماية الملكية الفكرية، وأشار إلى أن الاحتلال الفرنسي للمدة من 1830 حتى 1962 كان يطبق القوانين الفرنسية على حقوق الملكية الفكرية. أما في المرحلة الثانية التي أعقبت الاحتلال، فقد أصدرت الدولة مجموعة من القوانين، منها القانون رقم (154-62) المؤرخ بـ31 يناير (كانون الثاني) 1962 الذي سمح بالعمل بالقوانين الفرنسية، ما لم يتعارض أي منها مع السيادة الوطنية. وفي عام 1966، صدر الأمر رقم (48-66) المتضمن انضمام الجزائر إلى اتفاقية باريس المتعلقة بحماية الملكية الصناعية. وفي السبعينيات، صدر قانون حق المؤلف رقم 23 - (6) 14، المؤرخ بـ3 أبريل (نيسان) 1973. وأشار الفصل الأول من القانون إلى تعريف حق المؤلف، حيث عد أن كل إنتاج فكري، مهما كان نوعه ونمطه وصورة تعبيره، ومهما كانت قيمته ومقصده، يخول لصاحبه حقاً في ما يسمى «حق المؤلف». واختتم القانون بجملة من التوصيات، منها التثقيف بفكرة الملكية الفكرية وأهميتها.
وأصدرت دولة الإمارات عام 1992 القانون رقم (37) الخاص بالعلامات التجارية وتعديلاته، وفيه أبواب خاصة بحقوق المؤلف الفكرية ومصنفاته، حيث أشار القانون إلى شمول الكتب والمقالات وغيرها من المصنفات المكتوبة بمواد هذا القانون، وقد أنيطت مهمة تسجيل هذه الحقوق الخاصة بالمصنفات الفكرية بوزارة الاقتصاد. كما وردت إشارة مهمة حول مدة حماية المصنفات الفكرية، تنص حسب المادة (20) على حماية الحقوق المالية للمؤلف مدة حياته، وخمسين سنة تبدأ من أول السنة الميلادية التالية لسنة وفاته.
ولقد حظيت تشريعات الملكية الفكرية باهتمام خاص في المملكة العربية السعودية، وصدر أول تشريع باسم العلامات الفارقة في عام 1358 هجرية، وأنشئت الهيئة السعودية للملكية الفكرية التي اعتمدت بقرار مجلس الوزارة عام 1437 هجرية. وقامت الهيئة بكثير من الحملات التفتيشية على مستوى المملكة، بالشراكة مع الجهات الأمنية والمتخصصة للحد من انتهاكات حقوق الملكية الفكرية، ونظرت في كثير من المنازعات والتجاوزات الخاصة بحقوق الملكية الفكرية، ووقعت خلال هذه المدة مجموعة من اتفاقيات الشراكة مع بعض الدول ومكاتب الملكية الفكرية في كوريا وأميركا واليابان ومكتب البراءات الأوروبي. ولتطوير كفاءة العاملين في مجال الملكية الفكرية، أنشأت الهيئة السعودية للملكية الفكرية أكاديمية الملكية الفكرية، بالشراكة مع المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو)، وهو إنجاز جدير بالتقدير. ومن المشكلات التي تواجه المسؤولين عن تنفيذ هذه التشريعات تلك المتعلقة بتوصيف أو تحديد المصنفات المشمولة بالقانون، ومنها اتسامها بالأصالة والابتكار والجدة والحداثة.
وغالباً ما تربط بعض هذه التشريعات بين مفهوم حماية حقوق المؤلف ومصطلح الأصالة، بصفته شرطاً أساسياً للشمول بقوانين الحماية. لكن هذا المصطلح غالباً ما يساء تفسيره، مما يلحق ضرراً فادحاً بحقوق المؤلف الحقيقية. ويعود سبب ذلك إلى أن هذا المصطلح من المصطلحات الإشكالية في الثقافة المعاصرة، ويقابله في الإنجليزية مصطلح (originality)، وهو بثنائيات ضدية، مثل الأصالة والمعاصرة، أو الأصالة والحداثة، أو الأصالة والتجديد، وما إلى ذلك. وفي هذه الثنائيات، غالباً ما تذهب الدلالة الاصطلاحية إلى زمن الماضي، وتحديداً إلى الموروث الثقافي. لذا، يبدو مصطلح الأصالة في معارضة مفترضة مع ما هو حديث ومعاصر وجديد، وتحديداً فيما يتعلق بالتراث؛ أي تراث الأمة وثقافتها وفكرها وتاريخها التي تنزل أحياناً منزلة المقدس. ولو تفحصنا دلالة المصطلح اللسانية، لوجدناه يذهب -كما يشير معجم «الرائد»- إلى أنه مشتق من «أصل»، حيث إن أصالة الرأي جودته، وأصالة النسب رسوخه ونبله. كما يذهب «المعجم الوسيط» إلى أنه في الرأي جودته، وفي الأسلوب ابتكاره، وفي النسب عراقته.
ويربط بعض الدارسين الإسلاميين بين مفهوم الأصالة والتربية الإسلامية في الزهد والعقيدة وأصول الفقه والحديث، وغيرها من العلوم الإسلامية.
وما دمنا بصدد الحديث عن علاقة مصطلح الأصالة بالنتاج الفكري والثقافي الذي يمكن أن يدرج تحت باب الحماية الفكرية، فعلينا أن نبتعد عن التعميم والتفصيل، ونتوقف أمام هذه العلاقة تحديداً، كما جرت معالجتها من قبل المشرع العراقي. فمن المعروف أن أول معالجة تتعلق بقوانين الحماية الفكرية في العراق كانت من خلال «قانون حماية حق المؤلف لسنة 1971 الصادر في الرابع من يناير (كانون الأول) عام 1971». إلا أن سلطة الائتلاف المنحلة قد قامت بعد الاحتلال بتعديل هذا القانون، وشرعت قانوناً أو أمراً يحمل الرقم (83)، تنص الفقرة الأولى منه على أن يتمتع بحماية هذا القانون مؤلفو المصنفات الأصيلة في الآداب والفنون والعلوم أياً كان تصنيفها.
ويخيل لي أننا بحاجة إلى تقديم تعريفات وافية دقيقة لمصطلحي «الابتكار» و«الأصالة» فيما يتعلق بالأعمال الفكرية والثقافية والفنية والأدبية، حتى لا نقصي كثيراً من الأعمال الفكرية تحت طائلة أنها لا تتوافر على شرط الأصالة والابتكار. وأخشى أن يؤدي التباين في تقديم تعريفات وتحديدات لهذين المصطلحين إلى إقصاء كثير من الأعمال من حق الحماية، بذريعة خلوها من صنفي الابتكار والأصالة، وأن نشرع قوانين تكون قادرة على شمول جميع الأعمال الثقافية بحق حماية الملكية الفكرية.
ويمكن أن نستشهد في هذا الصدد بتوصيفات المنظمة العالمية للملكية الفكرية لاحقاً. وجدير بالذكر أن المنظمات الثقافية الدولية أولت موضوع حماية النتاج الفكري الثقافي أهمية خاصة، إذ تأسست في جنيف منظمة (الويبو) (wipo)؛ أي «المنظمة العالمية للملكية الفكرية» التي قدمت توصيفات متكاملة لمفهوم حماية النتاج الفكري الثقافي، وحددوه وآلياته. وقد جاء في تعريف حق المؤلف أن القانون يحمي بشكل عام حق المؤلف وإبداعات المؤلفين الأدبية أو الفنية، وغالباً ما يشار إليها باسم «المصنفات»؛ ويعني حق المؤلف: «إن للمؤلفين وأصحاب الحقوق المجاورة حقاً في مصنفهم، وكل الأشياء المتصلة به، مثل حق المؤلف الذي يتمتع به الكتاب في رواياتهم والرسامون في لوحاتهم والمصورون في صورهم».
وجرى كذلك تحديد مفهوم الحقوق المجاورة، بصفتها تلك التي يتمتع بها أولئك الذين لم يؤلفوا أو يبدعوا المصنفات، ولكن لديهم علاقة وثيقة بها؛ على سبيل المثال الذين تولوا توزيع المصنفات الأدبية أو الفنية. كما توقفت المنظمة أمام تعريف مفهوم الأصالة، قائلة: «في حق المؤلف، والإشارة إلى أن المصنفات يجب أن تكون أصلية أو لها أصالة حتى تحمى بموجب حق المؤلف، إذ تتطلب الأصالة إبداعاً مستقلاً، مما يعني في الأساس أنه لا يمكن نسخ المصنف من مصنف آخر، وهذا لا يعني أن العمل يجب أن يكون بالضرورة جديداً أو فريداً من نوعه، فقد يحظى مصنفان متشابهان جداً يستندان إلى الفكرة نفسها أو المفهوم عينه على نحو أساسي بحماية حق المؤلف، ما دام أن أحدهما لم ينسخ من الآخر».
وقد انضم العراق إلى منظمة «الويبو» عام 2007، حيث حضر وفد رفيع المستوى، برئاسة السيد وزير الثقافة، ووقع في جنيف على وثيقة الانضمام لهذه المنظمة. وفي ضوء ذلك، تم تأسيس «المركز الوطني لحماية حق المؤلف والحقوق المجاورة» في عام 2007.
من كل ما تقدم، تبرز الحاجة الماسة حالياً للاهتمام بالتشريعات والقوانين الخاصة بحماية حقوق المؤلفين العرب عن مصنفاتهم الفكرية والإبداعية، وحمايتها من السرقة والتزوير.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.