قوانين الحماية الفكرية... لماذا لا تطبق تماماً في البلدان العربية؟

منظمات وهيئات كثيرة تأسست منذ بداية القرن العشرين

قوانين الحماية الفكرية... لماذا لا تطبق تماماً في البلدان العربية؟
TT

قوانين الحماية الفكرية... لماذا لا تطبق تماماً في البلدان العربية؟

قوانين الحماية الفكرية... لماذا لا تطبق تماماً في البلدان العربية؟

يواجه المؤلفون والكتاب في الوقت الحاضر خطر سرقة مصنفاتهم ومؤلفاتهم، وأحياناً تعريضها للتشويه. وخلال معارض الكتب الأخيرة التي نظمت في القاهرة وبغداد والشارقة، اشتكى كثير من المؤلفين العرب من استفحال هذه الظاهرة المقلقة، وطالبوا بوضع حلول لها من خلال تطبيق ضوابط تشريعات حقوق الملكية الفكرية التي وقعت عليها معظم الدول العربية.
وقد تأسست كثير من المنظمات والهيئات للدفاع عن حقوق المؤلفين ومصنفاتهم الفكرية، ربما في مقدمتها منظمة «الويبو» أو «المنظمة الدولية لحماية الملكية الفكرية» التي تتخذ من جنيف مقراً لها. ومع أن الأهداف الأساسية لمثل هذه المنظمات تتركز أساساً على حماية العلامات التجارية وبراءات الاختراع، فإن جوانب مهمة كانت تعنى بوضع الضوابط والتشريعات الخاصة بحماية حقوق المؤلفين ومصنفاتهم الفكرية. كما بادرت كثير من الدول العربية إلى الانضمام إلى منظمة «الويبو» العالمية هذه، وتأسيس منظمات وطنية خاصة لحماية حقوق المؤلف، منها مصر والعراق وسوريا ولبنان والسعودية والجزائر والمغرب والإمارات والسودان وغيرها.
ويبدو أن للبنان خلفيات تاريخية بالنسبة لحماية الحرية الفكرية، إذ تشير ديباجة القانون اللبناني المرقم 12 جمادي الأولى عام 1358 هجرية (1910) الذي أمنَّ للمؤلفين حق الحماية الفكرية على منتجاتهم الفكرية، إلى أنه أنشئ في عهد الانتداب الفرنسي مكتب خاص للحماية الفكرية بتاريخ 19 يوليو (تموز) 1923، ثم صدر قرار بالخصوص يحمل رقم (2385) بتاريخ 17 يناير (كانون الثاني) 1924، حيث ارتبط منذ ذلك التاريخ بميثاق «برن» المعقود في 9 سبتمبر (أيلول) 1886. كما سعى لبنان إلى الانضمام إلى عدد من الاتفاقيات الدولية حول حماية الملكية الفكرية الخاص بمنظمة التجارة العالمي، فضلاً عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية (ويبو). أما قانون حماية الملكية الأدبية، فقد صدر بقانون تحت رقم (75) في أبريل (نيسان) 1999.
وفي سوريا، صدر قانون حماية حقوق المؤلف والحقوق المجاورة عام 2014. وحدد هذا القانون ارتباط تطبيق القانون بوزارة الثقافة، وتحديداً من قبل مديرية حماية حقوق المؤلف والحقوق المجاورة. وجاء في تعريف المصنف أنه «الوعاء المعرفي الذي يحمل إنتاجاً أدبياً أو فنياً أو علمياً مبتكراً، مهما كان نوعه أو أهميته أو طريقة التعبير أو العرض فيه».
وفي مصر، صدر قانون حقوق الملكية الفكرية المرقم (82) لسنة 2002، حيث أشارت الديباجة إلى أن القانون قد حل محل عدد من التشريعات السابقة، منها قوانين تتعلق بالعلامات التجارية، والقانون رقم (354) لسنة 1954. وقد حدد القانون حقوق المؤلف والحقوق المجاورة التي تنطبق على المصنف المبتكر، أدبي أو فني أو عملي، أياً كان نوعه أو طريقة التعبير عنه. كما تضمن القانون تفاصيل دقيقة حول حقوق المؤلف وورثته، فضلاً عن تحديد مفهوم الحقوق المجاورة.
وصدر في الجزائر تشريع خاص بحماية الملكية في حقل حماية البرمجيات في عام 2011 تحت رقم (26)، وقد خصص هذا التشريع أبواباً لحماية الملكية الفكرية، وأشار إلى أن الاحتلال الفرنسي للمدة من 1830 حتى 1962 كان يطبق القوانين الفرنسية على حقوق الملكية الفكرية. أما في المرحلة الثانية التي أعقبت الاحتلال، فقد أصدرت الدولة مجموعة من القوانين، منها القانون رقم (154-62) المؤرخ بـ31 يناير (كانون الثاني) 1962 الذي سمح بالعمل بالقوانين الفرنسية، ما لم يتعارض أي منها مع السيادة الوطنية. وفي عام 1966، صدر الأمر رقم (48-66) المتضمن انضمام الجزائر إلى اتفاقية باريس المتعلقة بحماية الملكية الصناعية. وفي السبعينيات، صدر قانون حق المؤلف رقم 23 - (6) 14، المؤرخ بـ3 أبريل (نيسان) 1973. وأشار الفصل الأول من القانون إلى تعريف حق المؤلف، حيث عد أن كل إنتاج فكري، مهما كان نوعه ونمطه وصورة تعبيره، ومهما كانت قيمته ومقصده، يخول لصاحبه حقاً في ما يسمى «حق المؤلف». واختتم القانون بجملة من التوصيات، منها التثقيف بفكرة الملكية الفكرية وأهميتها.
وأصدرت دولة الإمارات عام 1992 القانون رقم (37) الخاص بالعلامات التجارية وتعديلاته، وفيه أبواب خاصة بحقوق المؤلف الفكرية ومصنفاته، حيث أشار القانون إلى شمول الكتب والمقالات وغيرها من المصنفات المكتوبة بمواد هذا القانون، وقد أنيطت مهمة تسجيل هذه الحقوق الخاصة بالمصنفات الفكرية بوزارة الاقتصاد. كما وردت إشارة مهمة حول مدة حماية المصنفات الفكرية، تنص حسب المادة (20) على حماية الحقوق المالية للمؤلف مدة حياته، وخمسين سنة تبدأ من أول السنة الميلادية التالية لسنة وفاته.
ولقد حظيت تشريعات الملكية الفكرية باهتمام خاص في المملكة العربية السعودية، وصدر أول تشريع باسم العلامات الفارقة في عام 1358 هجرية، وأنشئت الهيئة السعودية للملكية الفكرية التي اعتمدت بقرار مجلس الوزارة عام 1437 هجرية. وقامت الهيئة بكثير من الحملات التفتيشية على مستوى المملكة، بالشراكة مع الجهات الأمنية والمتخصصة للحد من انتهاكات حقوق الملكية الفكرية، ونظرت في كثير من المنازعات والتجاوزات الخاصة بحقوق الملكية الفكرية، ووقعت خلال هذه المدة مجموعة من اتفاقيات الشراكة مع بعض الدول ومكاتب الملكية الفكرية في كوريا وأميركا واليابان ومكتب البراءات الأوروبي. ولتطوير كفاءة العاملين في مجال الملكية الفكرية، أنشأت الهيئة السعودية للملكية الفكرية أكاديمية الملكية الفكرية، بالشراكة مع المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو)، وهو إنجاز جدير بالتقدير. ومن المشكلات التي تواجه المسؤولين عن تنفيذ هذه التشريعات تلك المتعلقة بتوصيف أو تحديد المصنفات المشمولة بالقانون، ومنها اتسامها بالأصالة والابتكار والجدة والحداثة.
وغالباً ما تربط بعض هذه التشريعات بين مفهوم حماية حقوق المؤلف ومصطلح الأصالة، بصفته شرطاً أساسياً للشمول بقوانين الحماية. لكن هذا المصطلح غالباً ما يساء تفسيره، مما يلحق ضرراً فادحاً بحقوق المؤلف الحقيقية. ويعود سبب ذلك إلى أن هذا المصطلح من المصطلحات الإشكالية في الثقافة المعاصرة، ويقابله في الإنجليزية مصطلح (originality)، وهو بثنائيات ضدية، مثل الأصالة والمعاصرة، أو الأصالة والحداثة، أو الأصالة والتجديد، وما إلى ذلك. وفي هذه الثنائيات، غالباً ما تذهب الدلالة الاصطلاحية إلى زمن الماضي، وتحديداً إلى الموروث الثقافي. لذا، يبدو مصطلح الأصالة في معارضة مفترضة مع ما هو حديث ومعاصر وجديد، وتحديداً فيما يتعلق بالتراث؛ أي تراث الأمة وثقافتها وفكرها وتاريخها التي تنزل أحياناً منزلة المقدس. ولو تفحصنا دلالة المصطلح اللسانية، لوجدناه يذهب -كما يشير معجم «الرائد»- إلى أنه مشتق من «أصل»، حيث إن أصالة الرأي جودته، وأصالة النسب رسوخه ونبله. كما يذهب «المعجم الوسيط» إلى أنه في الرأي جودته، وفي الأسلوب ابتكاره، وفي النسب عراقته.
ويربط بعض الدارسين الإسلاميين بين مفهوم الأصالة والتربية الإسلامية في الزهد والعقيدة وأصول الفقه والحديث، وغيرها من العلوم الإسلامية.
وما دمنا بصدد الحديث عن علاقة مصطلح الأصالة بالنتاج الفكري والثقافي الذي يمكن أن يدرج تحت باب الحماية الفكرية، فعلينا أن نبتعد عن التعميم والتفصيل، ونتوقف أمام هذه العلاقة تحديداً، كما جرت معالجتها من قبل المشرع العراقي. فمن المعروف أن أول معالجة تتعلق بقوانين الحماية الفكرية في العراق كانت من خلال «قانون حماية حق المؤلف لسنة 1971 الصادر في الرابع من يناير (كانون الأول) عام 1971». إلا أن سلطة الائتلاف المنحلة قد قامت بعد الاحتلال بتعديل هذا القانون، وشرعت قانوناً أو أمراً يحمل الرقم (83)، تنص الفقرة الأولى منه على أن يتمتع بحماية هذا القانون مؤلفو المصنفات الأصيلة في الآداب والفنون والعلوم أياً كان تصنيفها.
ويخيل لي أننا بحاجة إلى تقديم تعريفات وافية دقيقة لمصطلحي «الابتكار» و«الأصالة» فيما يتعلق بالأعمال الفكرية والثقافية والفنية والأدبية، حتى لا نقصي كثيراً من الأعمال الفكرية تحت طائلة أنها لا تتوافر على شرط الأصالة والابتكار. وأخشى أن يؤدي التباين في تقديم تعريفات وتحديدات لهذين المصطلحين إلى إقصاء كثير من الأعمال من حق الحماية، بذريعة خلوها من صنفي الابتكار والأصالة، وأن نشرع قوانين تكون قادرة على شمول جميع الأعمال الثقافية بحق حماية الملكية الفكرية.
ويمكن أن نستشهد في هذا الصدد بتوصيفات المنظمة العالمية للملكية الفكرية لاحقاً. وجدير بالذكر أن المنظمات الثقافية الدولية أولت موضوع حماية النتاج الفكري الثقافي أهمية خاصة، إذ تأسست في جنيف منظمة (الويبو) (wipo)؛ أي «المنظمة العالمية للملكية الفكرية» التي قدمت توصيفات متكاملة لمفهوم حماية النتاج الفكري الثقافي، وحددوه وآلياته. وقد جاء في تعريف حق المؤلف أن القانون يحمي بشكل عام حق المؤلف وإبداعات المؤلفين الأدبية أو الفنية، وغالباً ما يشار إليها باسم «المصنفات»؛ ويعني حق المؤلف: «إن للمؤلفين وأصحاب الحقوق المجاورة حقاً في مصنفهم، وكل الأشياء المتصلة به، مثل حق المؤلف الذي يتمتع به الكتاب في رواياتهم والرسامون في لوحاتهم والمصورون في صورهم».
وجرى كذلك تحديد مفهوم الحقوق المجاورة، بصفتها تلك التي يتمتع بها أولئك الذين لم يؤلفوا أو يبدعوا المصنفات، ولكن لديهم علاقة وثيقة بها؛ على سبيل المثال الذين تولوا توزيع المصنفات الأدبية أو الفنية. كما توقفت المنظمة أمام تعريف مفهوم الأصالة، قائلة: «في حق المؤلف، والإشارة إلى أن المصنفات يجب أن تكون أصلية أو لها أصالة حتى تحمى بموجب حق المؤلف، إذ تتطلب الأصالة إبداعاً مستقلاً، مما يعني في الأساس أنه لا يمكن نسخ المصنف من مصنف آخر، وهذا لا يعني أن العمل يجب أن يكون بالضرورة جديداً أو فريداً من نوعه، فقد يحظى مصنفان متشابهان جداً يستندان إلى الفكرة نفسها أو المفهوم عينه على نحو أساسي بحماية حق المؤلف، ما دام أن أحدهما لم ينسخ من الآخر».
وقد انضم العراق إلى منظمة «الويبو» عام 2007، حيث حضر وفد رفيع المستوى، برئاسة السيد وزير الثقافة، ووقع في جنيف على وثيقة الانضمام لهذه المنظمة. وفي ضوء ذلك، تم تأسيس «المركز الوطني لحماية حق المؤلف والحقوق المجاورة» في عام 2007.
من كل ما تقدم، تبرز الحاجة الماسة حالياً للاهتمام بالتشريعات والقوانين الخاصة بحماية حقوق المؤلفين العرب عن مصنفاتهم الفكرية والإبداعية، وحمايتها من السرقة والتزوير.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.