الحب ومراوغة الماضي في رواية مصرية

بطل مأزوم يعاني من «فوبيا الكلاب»

الحب ومراوغة الماضي في رواية مصرية
TT

الحب ومراوغة الماضي في رواية مصرية

الحب ومراوغة الماضي في رواية مصرية

يهرب بطل رواية «إخضاع الكلب» للكاتب أحمد الفخراني من ماضيه، ويهجر بيته وهُويته القديمة كمُصوّر فوتوغرافي مُحترف، ليلوذ بمدينة بعيدة صغيرة غارقاً في هدوئها ورتابتها، محاولاً النجاة من مرارة تجربة زوجية، رسخّت بداخله الكثير من الشكوك.
في تلك المدينة يسكن بيتاً مهملاً، ورغم معاناته من «فوبيا الكلاب» يجد نفسه متورطاً في مهمة العناية بكلب تركته له صاحبته لحين عودتها من سفر مفاجئ، تضاعف المفاجأة من فوبيا الخوف الذي يعيشه، لكنه في النهاية يفلح في ترويض الكلب والحُنّو عليه. وتنشأ بينهما إشارات وعلامات أشبه بلغة مشتركة.

البحث عن تاريخ مغاير
على مدار صفحات الروية (122 صفحة) يبدو السرد وكأنه لسان حال البطل، كاشفاً عما يعتريه من مكابدات الوحدة والشك المُستعر، ومحاولة البحث عن تاريخ مغاير، بعيداً عن مفارقات النسيان. لذلك لم يكن مشغولاً منذ وصوله لهذه المدينة بتأسيس علاقات مع هذا المكان الجديد، أو مع البشر المحيطين به: «عندما اخترت دهب للإقامة لم أكن أبحث عن الهدوء وجمال الطبيعة، بل الضجر ورتابة الألوان». لكن مسعاه يتشتت بظهور «أسما» صاحبة الكلب في حياته بكل حضورها المُراوغ والمُقتحم، فتُنقذه من هجمة كلاب ضالة عليه، ثم تُعرفه بنفسها ليُفاجأ بأنها كانت واحدة من المتدربات في ورشة تعليم التصوير التي كان يُحاضر بها. يربكه حضورها، ويخمن أنها تعرف ماضيه، وسوف تفشي بأسراره، فتلاحقه هلاوس بأن من حوله باتوا يعرفون حكايته: «صرت أرى قصتي تتجول في أعين أهل القرية التي تتنكر كمدينة، موقناً أن أسما قد أخبرت الجميع بما تعرفه، أهناك قصة أفضل لدفع الضجر وتفسير كآبة الصموت المتوحد؟ كففتُ عن التحديق في الوجوه هرباً من الضحكات الفاجرة، النظرات عينها التي طاردتني بالقاهرة والتي لا تتعاطف أبداً مع المغفل الذي خانته زوجته مع صديقه، العاجز عن الجزم بأبوة طفله».
تتسلل «أسما» لحياة البطل من ثقوب ضعفه، وتبسط سطوتها عليه بتوهج حضورها الأنثوي، ثم سرعان ما تبتعد دون مقدمات في سياق غامض، تاركة له كلباً مربوطاً في شجرة كافور أمام بيته اسمه «ونيس»، ورسالة تدعوه للعناية به طيلة غيابها، مُذيّلة رسالتها بوعود بالعودة، ويقين أن «ونيس» سيكون سبباً في علاجه.

وجوه العابرين
ينسج الروائي داخل سياج علاقة البطل وكلبه، أسئلة ومجازات حول فكرة التملك وأدواته، وحقيقة الخوف، وثمن التحرر منه، وإلى أين يمكن أن يقود الهوس صاحبه؟ سواء كان الهوس بالبنوة، أو الحب، أو الموهبة، أو حتى الكلاب، ولأن البطل «صموت» كما يُطلق على نفسه، تفشل محاولاته العابرة للحديث مع المحيطين به من الجيران، وفي محاولة لتعويض عدم قدرته على تأسيس علاقات مع من حوله، يكتفي بتأملاته التي لا تنقطع في وجوه العابرين، وتخمين تصرفاتهم، وتوقع مؤامراتهم، وتحت ضغط الحاجة الماسة لاستيعاب أحدهم لتساؤلاته تنشأ حوارات سوريالية شديدة السخرية بينه وبين كلبة «بيضاء مرقطة» يمر عليها بجوار بيته. لا تكف الكلبة عن الانتقادات وإبداء الرأي والحكمة أيضاً، فأصبحت شريكة افتراضية ليومياته ولتطورات حالته الشعورية، بداية من رأيها في «نيتشه»، مروراً برائحته الجديدة التي أصبحت تصطبغ برائحة كلبه، ودائماً تأتي لغتها مُحبطة وساخرة، تقول له الكلبة المرقطة في واحدة من مُداخلاتها: «عزيزي هارون، أنت أبله، نحن كلاب، لا نقرأ ولا ندخن».

صورة وإطار
تبدو الشخوص في حياة «هارون» مُتقنة الوصف والملامح، التي فاض المؤلف في إبراز هيئتها بعيون البطل محترف الصورة «الفوتوغرافية»؛ تستغل «أسما» ذلك، وتحرضه بنثار من العواطف على أخذ صور جميلة له مع الكلب، تلح على ذلك كلما اتصلت به في أثناء سفرها، فيستعيد علاقته بالكاميرا والتصوير، ويلتقط صوراً لكلبه، في رحلة توثيقية لحالة تعلقه به، تُدخل كليهما في اختبارات «الإخضاع» والانصياع والترويض، وما يمليه الحب المشروط من ابتزاز وشروط، لكن الكاتب يضئ من خلاله ما ينعكس على عالم البطل وماضيه، بما في ذلك علاقته بابنه، وزوجته الألمانية «باربرا»، واتهاماتها له بالهلوسة والجنون بسبب اتهاماته لها بالخيانة مع صديقه، وظلّت تلك الاتهامات تلاحقه في منفاه الاختياري الجديد في المدينة البعيدة، فتصبح الهلوسة في حد ذاتها فضاءً مُراوغاً يجعل القارئ أحياناً يشك في مدى واقعية ما يروي البطل، بما في ذلك وجود شخصية «أسما» من الأساس، فالشك يستحوذ على القارئ مع تقدم السرد، ويصبح أكثر حدة مع تصرفات البطل الذي يُعاني من اضطرابات النوم واليقظة، وتتملكه أشباح الماضي، تماماً كما كان يتملكه الرعب من الكلاب.
لقد نجحت الرواية في خلق حالة من الانتصار الشخصي لبطل مأزوم، تجسدت في علاقته بكلب، وأصبحت حقيقة معاشة حتى في أفقها المجازي والرمزي. ومع ذلك تظل عقبات إخضاع الكلب لتصورات البطل الخاصة عن الحُب مُعضلة جوهرية، تثير الرعب من فقد جديد، فهو يرى كلبه، بكل عناده وهمجيته، بعين مُتوحدة مع ألمه الشخصي: «هو مثلي محض كائن وحيد وخائف بعد أن عانى من الشر والخذلان، وما يحتاجه هو التفهم والصبر».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!