جان جاك روسو... الرومانسي حتى الجنون

كان أول من دشن الكتابة العاطفية المشتعلة في الأدب الفرنسي

جان جاك روسو
جان جاك روسو
TT

جان جاك روسو... الرومانسي حتى الجنون

جان جاك روسو
جان جاك روسو

ربما كان أول كاتب رومانسي حقيقي هو جان جاك روسو. ومعلوم أن روايته العاطفية «هليويز الجديدة» أسالت الدموع أنهاراً في شوارع باريس عندما صدرت عام 1762، فقد كانت السيدات والآنسات يذرفن الدموع مدراراً على مصير بطلة القصة (جولي) وحبها المغدور أو المستحيل. كن ينتظرن على الدور لكي يدخلن إلى قاعة المطالعة في القرن الثامن عشر لكي يقرأن بعض صفحاتها مقابل بعض القروش. وكان الرجال يبكون أيضاً. ما كانوا يخجلون من بعضهم البعض إذ يذرفون الدموع على المكشوف... لقد طهر روسو الأرواح والقلوب. لقد فجر التراكمات المكبوتة. لقد ضرب على الوتر الحساس. هنا تكمن عظمة جان جاك روسو وعبقريته. هنا تكمن إنسانيته العميقة ورومانسيته ولا أقول رومانطيقيته لأني لا أحب كلمة رومانطيقية. مهما يكن من أمر فإن الرومانسية هي حركة أدبية وفنية كبرى تختلف كثيراً عن المدرسة الكلاسيكية التي سبقتها. فالشعراء الرومانسيون ركزوا على العاطفة أكثر بكثير مما فعل سابقوهم. وكانوا يستخدمون ضمير «الأنا» ويعبرون عن لواعجهم الغرامية بدون أي رادع أو وازع. أما الشاعر الكلاسيكي فيأنف عن فعل ذلك، ويكتم مشاعره الشخصية أو الذاتية، لأنه شخص محترم! إنه يخجل من الكشف عن جوانيته الداخلية. لقد عبرت الرومانسية عن الحرقة، أو اللوعة، خصوصاً لوعة الفراق. وشكلت هذه الحركة الأدبية المهمة أكبر رد فعل عاطفي ضد العقلانية الجافة أو الناشفة لعصر التنوير الذي سبقها. يضاف إلى ذلك أن الشاعر الرومانسي يلقي بنفسه في أحضان الطبيعة لكي ينسى أحزانه وهمومه، أو لكي يتعزى عن فراق محبوبته. وبالتالي فلا يمكن فصل هذا الشعر عن مناظر الطبيعة الخلابة، خصوصاً في فصل الربيع... ولكن الفصل الرومانسي بامتياز ليس الربيع وإنما الخريف، حيث تتساقط أوراق الشجر كما تتساقط الدموع والآهات. وهذا ما حصل للشاعر الفرنسي لامارتين عندما كان يختلي بنفسه في أحضان الطبيعة، خصوصاً بعد أن فقد حبيبته بشكل مفاجئ، وهي في عمر الزهور.
ولا ينبغي أن ننسى الرومانسيين الإنجليز من أمثال ويليام وردزورث، وكوليردج، وشيلي، إلخ. فهؤلاء قدموا للأدب العالمي وليس فقط الإنجليزي أجمل الأشعار. من منا لا يذوب في أحضان الطبيعة كما تذوب قصائد ويليام ووردزورث؟ لنستمع إليه يقول معرفاً الشعر ورافعاً إياه إلى أعلى مقام:
«الشعر هو أول المعارف وآخرها. إنه خالد كقلب الإنسان»
ينبغي العلم أن اللغة الرومانسية تختلف عن اللغة الكلاسيكية من حيث التصوير، والاستعارات، والمجازات. فاللغة الشعرية الرومانسية ليست نفعية على الإطلاق، وإنما هي انفعالية، عاطفية، جياشة بالمشاعر الخارجة من الأعماق. ولهذا السبب فإن الشعر الرومانسي يؤثر علينا كثيراً ويهز مشاعرنا. وعموماً فإن اللغة الشعرية هي «اللغة العليا» كما قال الناقد جان كوهين. إنها اللغة التي تعلو على كل اللغات... وأعتقد أن هذا الناقد الفذ من أهم من نفذوا إلى سر الشعر، إلى كيمياء الشعر والإبداع الخلاق. وقد كان لي شرف مقابلته شخصياً في باريس أيام زمان... ورغم أن الحداثة الشعرية تجاوزت الرومانسية وانقلبت عليها مثلما انقلبت هي على المرحلة الكلاسيكية، إلا أنه لا يوجد شعر حقيقي بدون نفحة أو نكهة رومانسية.
لقد كان جان جاك روسو أول من دشن الكتابة العاطفية المشتعلة، أي الرومانسية، في الأدب الفرنسي. وقد قال عنه أحد النقاد ما يلي: روسو ليس المبشر الأول بالرومانسية فقط، وإنما هو الإنسان الرومانسي بالكامل. إنه رومانسي من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه. كان يذوب ذوباناً عندما يكتب، ينصهر انصهاراً، دون أن يصبح مائعاً. الميوعة هي أكبر خطر يهدد الرومانسية والرومانسيين.
كل الرومانسيين الكبار الذين جاءوا بعده من شاتوبريان إلى فيكتور هيغو، إلى بلزاك، إلى جيرار دونيرفال، إلى لامارتين، إلخ، خرجوا من معطفه. لقد كان معبودهم وقدوتهم العظمى. لم يعبر أحد عن الحنين إلى الماضي والذوبان فيه مثلما فعل جان جاك روسو. أحياناً أرتجف، أخرج عن طوري، وأنا أقرأ اعترافاته. لقد كتب أجمل صفحات الأدب الفرنسي وهو ملاحق من كل الجهات. انظروا إلى ما يقوله عن مدام دوفارين: المرأة التي أنقذته، المرأة التي صنعته. لولاها لما كان هناك شخص يدعى جان جاك روسو. كان ضائعاً، هائماً على وجهه في الطرقات والدروب حتى اهتدى صدفة إلى بيتها.
ويمكن القول بأن شاتوبريان كان من أوائل الذين اتبعوا هذه الحركة الجديدة في الآداب الفرنسية. فهذا الأديب الكبير الذي عاش بين عامي (1768 - 1848) كان ناثراً من الطراز الأول. انظروا كتابه: مذكرات ما وراء القبر. العنوان وحده قصيدة شعر... وقد عاش فترة الاضطرابات الكبرى الهائجة للثورة الفرنسية. وكان من أكثر المتحمسين لجان جاك روسو في شبابه الأول. وعموماً فإن الرومانسي هو ذلك الشخص الذي يعطي الأولوية لقلبه على عقله. إنه يقع أسير العاطفة الملتهبة ولولا ذلك لما أصبح رومانسياً. أما الكاتب الكلاسيكي فهو شخص بارد، موضوعي، يقع في جهة العقل والنظام لا العاطفة الهائجة والفوضى الخلاقة.
وقد رافقت الحركة الرومانسية في فرنسا نزعة التحرر الفردية من كل القيود الاجتماعية المرهقة. وبالتالي فقد كانت انفجاراً تحريرياً في البداية. وهذا ما نلاحظه بشكل جلي في رسوم دولاكروا التي مجدت الثورة الفرنسية وانطلاقة الشعوب من أجل الحرية. وهنا أيضاً يكمن فرق آخر بين الرومانسية والكلاسيكية. وموقف الشاعر الرومانسي من الطبيعة يختلف جذرياً عن موقف الشاعر الكلاسيكي. وذلك لأنها ليست خارجية عليه وإنما ينصهر فيها انصهاراً. أحياناً يعانق الشاعر الرومانسي الأشجار ويقبل الأحجار. أحياناً ينبطح على العشب ويحتضنه بكلتا يديه. أحياناً يمرغ وجهه بتراب القبر كما فعل روسو مع مدام دوفارين التي ماتت في غيابه فجن جنونه...
ومن أهم الموضوعات التي شغلت الرومانسيين: موضوع الحب، وفراق الحبيبة، والموت، والنزعة الصوفية، والحنين إلى الشرق البعيد، أو الحنين إلى شيء مبهم غامض لا يعرف الشاعر كنهه ولا سره ولكنه موجود في أعماق أعماقه. ومن الموضوعات التي شغلتهم أيضاً موضوع التمرد على الحياة، والمجتمع، والتقاليد السائدة التي رأوها قمعية أو مضجرة ومملة. ويمكن أن نضيف إليها موضوع العدم واللانهايات، والحنين إلى المطلق ثم الفناء فيه، وكذلك الغوص في الليل المظلم الموحش، إلخ. ولا ننسى الصباحات الأولى والاغتسال في أحضان الطبيعة تحت مياه الشلالات:
هل تحممت بعطر وتنشفت بنور؟
إنه جبران خليل جبران أحد كبار الرومانسيين العرب. ولكن لا تنسوا ميخائيل نعيمة فهو أيضاً في بعض جوانبه كاتب رومانسي من أعلى طراز: البيادر، كرمٌ على درب، نجوى الغروب، في مهب الريح، النور والديجور، همس الجفون! أكاد أسكر، أدوخ، وأنا أعدد العناوين فقط...
غني عن القول إن الحب الرومانسي ملتهب أكثر من سواه. وهو حب فاشل، مجاني، بلا جدوى في معظم الأحيان إن لم يكن كلها. أعظم حب في التاريخ هو الحب المجاني. وأعظم شخص في العالم هو ذلك الذي لا يصل إلى نتيجة وإنما يكتفي فقط بالبكاء على الأطلال. أنا شخصياً تربيت على حب الشعر العربي، وبالأخص الجاهلي، من خلال الوقوف على الأطلال. حياتي كلها سراب في سراب ومع ذلك فأنا أسعد شخص في العالم. إنه أجمل موضوع في الشعر العربي وربما العالمي. إنه شرف الشعر. ولا أستطيع أن أعيش من دونه. حياتي كلها أطلال، عشق وغرام، أو بالأحرى غرام وانتقام!...
يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأبد
وقفت فيها أصيلاناً أسائلها
عيت جواباً وما بالربع من أحد

قالوا عن الرومانسية

«لم يتحدثوا عن الرومانسية بمثل هذه الكثرة إلا منذ أن كان أحدهم قد زعم بأن الرومانسية ماتت!»

فيكتور هيغو

«تقبل الحياة كما هي: هذا هو أول الواجبات التي ترفضها الرومانسية. في الواقع أنها تختار جنونها لأنها تفضله. إنها تفضل ما ليس موجوداً على ما هو موجود. هنا تكمن الخطيئة القاتلة للرومانسية».

فرنسوا مورياك

«الروائع الأدبية الكلاسيكية ليست قوية وجميلة إلا بسبب رومانسيتها المروضة أو المدجنة».

أندريه جيد

رائع. هذا كاتب كبير يعرف عم يتحدث بالضبط. فالرومانسية الملجومة أقوى بكثير من الرومانسية المندلعة على مصراعيها.



مجتمع الشعراء في مهرجان الشارقة للشعر العربي

مجتمع الشعراء في مهرجان الشارقة للشعر العربي
TT

مجتمع الشعراء في مهرجان الشارقة للشعر العربي

مجتمع الشعراء في مهرجان الشارقة للشعر العربي

لا نكاد نجد على طول الخريطة العربية اليوم مهرجاناً للشعر العربي الفصيح يجمع هذا العدد الهائل سنوياً من الشعراء إلا في الشارقة. إنه مهرجان يتجاوز بالتأكيد صفة الحدث الثقافي التقليدي الذي يستضيف شعراء بارزين من العالم العربي ويقيم لهم أمسيات أنيقة مؤثثةً بجمهور تفاعلي يضمن التواصل الضروري بين المبدع والمتلقي. وهكذا، نجد في هذا المهرجان سمات عديدة تميزه عن طابع الموسمية الذي يهيمن عادةً على الفعل الثقافي في كثير من فعالياتنا العربية، ونخص بالذكر تلك التي تُعنى بالثقافة والفن، لا سيما الشعر. جملة ما يمكن أن يخلص إليه من تابع أو حضر فعاليات هذا المهرجان هو أنه سعى ونجح إلى حد كبير في صنع مجتمع شعري متكامل الأركان يتعايش فيه المبدعون - وإن بصفة مؤقتة - لفترات غير قصيرة يتصل فيها النهار بالليل، فمن ندوات صباحية إلى أمسيات باذخة للشعر إلى سمر ليلي موسيقي في نُزل الشعراء يستمر حتى ساعات متأخرة من الليل على أنغام الطرب العربي الأصيل من أقطار ومدارس غنائية شتى. ثم يتواصل اللقاء بعدها في بهو الفندق في جلسات متفرقة هنا وهناك حتى ليُخيل للمتابع أن المكان تحول إلى حي سكني يقطنه شعب من الشعراء لا يتحدثون سوى في الشعر وعنه. وبالتوازي مع ذلك، يتناوب الشعراء الضيوف طيلة أيام المهرجان على مكاتب القنوات الفضائية والصحف والإذاعات لتسجيل عدد من اللقاءات الإعلامية التي تصب كلها في أنهار الجدل الشعري والحوار الإبداعي الذي يناقش القصيدة، والقصيدة فقط.

لا أعرف مهرجانات عربية كثيرة للشعر يرفع منظموها في مدنهم لافتات إعلانية كبيرة تروج للحدث الشعري وتعلق صوره في الشوارع والممرات. هناك في الشارقة نجد في كل الشوارع المحاذية لقصر الثقافة الذي يتوسط بفخامته المدينة صوراً للمهرجان تروج لأماسيه الرئيسية. وعند كل مساء نرقب توافد عائلات بأكملها على القصر باحثين عن موائد الشعر ومنصتين لما يقوله الشعراء، مصطحبين مسنّيهم وأطفالهم في مشهد عائلي يحتضن الثقافة كما لم نعتد أن نراه اليوم وسط عالم تسوده آلة النيو ليبرالية الاقتصادية التي همّشت الفنون الجميلة لمصلحة قيم الاستهلاك. وبالانسجام مع النشاط المسائي في قصر الثقافة، وفي الشارقة نفسها خلال أيام المهرجان الشعري، ما إن تمر على ساحل «شاطئ المجاز» الساحر، والذي يعبر اسمه عن توجه المدينة الثقافي، حتى ترى بالعين المجردة شعراء يمشون على الأقدام محتفين بنسائم الشتاء العليل في الشارقة، ومنهمكين في خوض حواراتهم الثقافية حول هذا الكائن الفني الهلامي الذي لا يمنحك بعضه حتى تمنحه كلك وأكثر.

إن مجتمعاً عربياً من الشعراء يمكن القول إنه قد تحقق بالفعل على أرض الشارقة، ولو لأسبوع واحد. جغرافياً حضوره كانت الشارقة وبالضبط بين النُّزل الفندقي والمسرح والمقاهي، حيث يتجمع الشعراء من مختلف الأقطار العربية، ويتحدثون ويتسامرون وقد يتشاجرون أيضاً حول هذا الموقف الشعري أو ذاك. يتحدثون بصوت مرتفع ويصرخ بعضهم، وبعضهم الآخر يكتفي بالصمت متابعاً ما يقوله الأكثر سناً وتجربة. إنهم يسائلون الحداثة الشعرية عن منجزها، فهناك منهم من ينتصر لضرورة الموقف الحداثي أيّاً كان شكل النص، وهناك من لا يزال راديكالياً في موقفه من حيث ضرورة التركيز على قدسية الشكل الذي يُعبر من وجه نظره عن صلابة عمود الشعر وأصالة بنيته. أحاديث تطول وتتوسع إلى تقييم حالة المشهد الثقافي العربي من حيث مساحة حضور الشعر ومصداقية الجوائز والتواصل المفقود أو الموجود على مضض بين الأجيال الشعرية في عالم عربي أثمن ما يغيب عنه هو التواصل. ولعل هذا التواصل يعد من سمات مهرجان الشارقة أيضاً وفضائله، فإذا كان اليوم الأول الافتتاحي للمهرجان يعمد دائماً إلى تكريم تجربة شعرية فردية أو أكثر تنتمي غالباً إلى جيل رائد، فإن الافتتاح أيضاً يتضمن التنويه بعدد من المواهب الشابة التي توَّجَتها قصائدها المنشورة في «مجلة القوافي». هذه الأخيرة تقدم نفسها مجلةً خالصةً للشعر العربي الفصيح، فهي لا تنشر غيره ولا تكتب عن شيء آخر سواه، تتواتر أعدادها شهرياً حتى تتوج ختامها السنوي باختيار بضعة قصائد منشورة على طول السنة كي يُحتفى بها في المهرجان الرئيسي في مستهل السنة الموالية. تتطور حالة التواصل داخل مجتمع الشعراء حتى تصبح أمتن من الصلة العائلية، فتجدهم يتفقدون بعضهم في البهو والغرف مع كل موعد انطلاق للمسرح، يتفقدون بعضهم في مقاعد الباصات ثم يبدأون بالغناء طول مسافة السير، ويشربون قهوة الوصول أمام المسرح منتظرين بدء الأمسية. هكذا إذن تتواصل الحساسيات والحركات والأجيال الشعرية المختلفة بيُسر وسلاسة دون قطائع نظرية أو أخرى نفسية واجتماعية، وهكذا يتوحد الشعر بقرائه ومبدعيه.

إن ما يميز هذا المهرجان ليس صنعه مجتمعاً شعرياً مفترضاً فقط، بل هو أنه بات يحفز كل الشعراء الذين باعدتهم المسافات الجغرافية وفرقتهم سبل العيش على تقديم أنفسهم مع أوراق اعتمادهم الشعري لهذ المهرجان من بوابة القصيدة، والقصيدة فقط، دون وسطاء ودون محسوبيات. ذلك أن من حق أي شاعر أن يحضر مشاركاً في هذا المهرجان، ما دام قادراً على تقديم قصيدته للنشر، وهي وحدها من ستؤهله للمشاركة ضيفاً مُقدّراً، ومن ثم الانضمام إلى أسرة الشعر التي تتعاظم بأفرادها وبأجوائها لتكون مجتمعاً فسيحاً يمد أطرافه من الخليج إلى المحيط.

مجتمع الشعراء الذي تحدثنا عنه ملياً في هذه المقالة يشكل جزءاً من مشروع بدأ بالفعل منذ سنوات ويتعلق بمبادرة «بيوت الشعر» التي أصبحت تتنامى أعدادها في أكثر من قُطر عربي غير الشارقة. حدث ذلك لأول مرة منذ حوالي عشر سنوات حين أطلق حاكم الشارقة الشيخ سلطان القاسمي مبادرة تهدف إلى إحداث ألف بيت للشعر في العالم العربي يكون نشيطاً طول السنة ويرعى المواهب الشعرية على غرار تجربة «بيت الشعر» في الشارقة. تطور الأمر وتم افتتاح عدد كبير من بيوت الشعر في الأردن ومصر والسودان والمغرب وموريتانيا وتونس. هذا المشروع أسس حالة جديدة في المشهد الثقافي يمكن أن نسميها «اللجوء الشعري» للشعراء داخل بلدانهم إلى مؤسسة «بيت الشعر» التي تعزل نفسها عن ضجيج الحياة الاعتيادية، وتقيم وطناً شعرياً موازياً يحتفي فيه الشعراء بقصائدهم، ويعانقون بعضهم بعد الإنصات والإنشاد والكتابة. إنه وطن الشعراء الذي يتشكل ومجتمع يضم كل أفراد عائلاته الشعرية التي تكبر كل يوم. وفي الحقيقة، لقد أسهم نشاط هذه البيوت داخل كل بلد في خلق حالة الانتماء لوطن القصيدة التي لا يعترف بالحدود الفاصلة ولا ينغلق فيه الفرد الشاعر على انتمائه القطري أو الثقافي أو حتى العرقي والطائفي. كيف يمكن لأي منا أن يتجاوز فرحته بجمالية هذا الإنجاز الذي جعل الشعر مفتاحاً للوحدة العربية في أبهى تجلياتها الفنية والإنسانية!

إن زبدة ما نود قوله عن مهرجان الشارقة للشعر العربي، هو أننا اليوم وفي بلدان عربية كثيرة باتت محجاً للمبدعين بحاجة لدعم فكرة المجتمع الشعري والإبداعي، وليس فقط لفعاليات ثقافية تنشط وتخمد بصفة روتينية بين موسم وآخر. وإذا كانت بشائر هذا التصور الجديد للقاء الشعري قد أصبحت تنضج بوضوح في مراكز ثقافية عربية كبرى كالسعودية والإمارات، فإن الحاجة اليوم باتت ملحة لتعميم وتكريس النموذج على امتداد الخريطة العربية كلها. فمجتمع الشعراء كما هو معلوم يخدم مسيرة السلام وينحاز بالضرورة لقيم الحضارة في مفهومها الكوني، إنه مجتمع مسالم ينتصر للجمال ويناهض الكراهية والتطرف والانغلاق. وعلى هذا الأساس ينبغي أن يتجسد حضوره عربياً، كما تجسد بالفعل في مهرجان الشارقة.

* شاعر من المغرب