تجددت المظاهرات في بيرو، أمس، حيث دعا مؤيدو المرشح الحاصل على أكثر الأصوات بيدرو كاستيلو، إلى إعلان فوزه، فيما طالب أنصار منافسته كيكو فوجيموري إلى إعادة إحصاء الأصوات، مكررين اتهاماتهم بحصول تزوير بعد تقدم كاستيلو بأربعة وأربعين ألف صوت.
الانتخابات التي جرت دورتها الثانية في السادس من يونيو (حزيران) الماضي ستشكّل منعطفاً مهماً في تاريخ ثالث أكبر دولة من ناحية المساحة في أميركا اللاتينية والمصدّر الثاني للنحاس في العالم.
كاستيلو أستاذ المدرسة السابق المعتمد على تأييد المزارعين والآتي من بيئتهم بأصوات حزب «بيرو الحرة»، اشتراكي التوجهات، كان قد تعهّد بصوغ دستور جديد وفرض ضرائب على شركات التعدين لتوزيع الثروة توزيعاً أكثر عدلاً على المواطنين. في المقابل، تعتمد فوجيموري، ابنة الرئيس الأسبق ألبرتو فوجيموري القابع حالياً في السجن، على أصوات رجال الأعمال وسكان المدن الكبرى ومساندة العسكريين السابقين.
سيرتا كاستيلو وفوجيموري ترسمان صورتَي التناقض في البلاد التي تعد من الأكثر تنوعاً بشرياً وجغرافياً في العالم، حيث تمتد على مساحة أكثر من مليون كيلومتر مربع وتشمل صحاري قاحلة وشواطئ مطلة على المحيط الهادئ وغابات استوائية في حوض الأمازون. يأتي كاستيلو من عائلة مزارعين أميّين بذل جهداً هائلاً لإكمال تعليمه المدرسي والجامعي وتطوع لمواجهة مسلحي «الدرب المضيء» الذين كانوا يستهدفون القرى التي لا تدعمهم، قبل أن ينتقل إلى التعليم في إحدى القرى المعدمة التي بنى مدرستها أبناء الناحية من دون مساعدة حكومية. قبل أن يبدأ نشاطه النقابي كممثل عن المعلمين الذين كانوا مهددين بمزيد من الإفقار والتهميش بناءً على مشروع قانون كانت تعده حكومة رئيس الوزراء فرناندو زافالا في أثناء عهد الرئيس بيدرو كوزينسكي. ليسطع نجم كاستيلو ابتداءً من 2017.
أما كيكو فوجيموري فتبدو سيرتها كنقيض تام لسيرة كاستيلو. ذلك أنها أمضت جزءاً مديداً من حياتها في القصور الرئاسية في أثناء حكم أبيها، وتولت مهمات السيدة الأولى بعد انفصال والديها ألبرتو وسوزانا على أثر اتهامات وجهتها سوزانا إلى زوجها بالخطف والتعذيب والفساد. وانحازت كيكو في هذا الخلاف إلى والدها. وبعد فرار والدها إلى اليابان عادت كيكو إلى الولايات المتحدة لإكمال دراستها في جامعة كولومبيا والإقامة هناك. كما أوقفتها الأجهزة الأمنية في إطار التحقيق في فضيحة غسيل أموال سنة 2018 لكنها أفرجت عنها لاحقاً.
من جهته، ينفي كاستيلو اتهامات خصومه بأنه سيعيد تجربة رئيس فنزويلا الراحل هوغو تشافيز، في بيرو ويصر على أنه ليس شيوعياً. وتأكيداً لذلك اقتراح بقاء رئيس المصرف المركزي جوليو فيلاردي في منصبه بعد توليه الرئاسة، مستفيداً من السمعة الطيبة التي يتمتع بها رئيس المصرف المركزي ودوره في الحفاظ على الاستقرار النقدي. يضاف إلى ذلك أن كاستيلو أكد أن أحداً لن تصادر منه ملكيته الخاصة ولن تجري حملات للتأميم. بل ستفرض ضرائب على الأرباح الطائلة التي تجنيها الشركات العاملة في استخراج النحاس.
هذه المواقف لم تُقنع بطبيعة الحال حزب «القوة الشعبية» الذي تتزعمه فوجيموري والذي يتبنى خطاباً يميل إلى رجال الأعمال، ما يعطي الانطباع بأنها ستستأنف سياسات والدها النيوليبرالية، على الرغم من محاولتها وضع مسافة بينها وبينه وهو الذي يُمضي في السجن فترة عقوبة بعد إدانته بالفساد وبانتهاك حقوق الإنسان.
في هاتين السيرتين، يتواجه عالمان ربما يختصران الكثير من السمات المشتركة في الدول النامية: عالم السياسيين المحترفين المتداخل مع كبار المتمولين ورجال الأعمال وما يحوم حوله من شبهات فساد وتربح شخصي وتقديم لمصالح الأفراد الممسكين بزمام السلطة والمال والاعتماد على فئات اجتماعية تبدو مستفيدة من تركز الثروة في المدن وسوء توزيعها ومن الاستحواذ على الوظائف، في مواجهة عالم الريف الذي يشل الفقر قدرات أبنائه على تحصيل العلم والارتقاء الاجتماعي. ويضاف إلى هذه التناقضات في أميركا الوسطى والجنوبية الانقسام الذي يختفي حيناً ويبرز أحياناً بين السكان الأصليين وبين المهاجرين الأوروبيين (والآسيويين في حالة فوجيموري) على الرغم من أن نسبة كبيرة من السكان باتت من المولدين مختلطي الأعراق. إلا أن الانقسام بين الريف والمدينة ما زال حاضراً بقوة.
يُفترض أن تضع اللجنة الانتخابية العليا حداً للجدال بشأن الفائز في الانتخابات الرئاسية في غضون أيام قليلة على أن يتسلم الرئيس المقبل منصبه في 28 يوليو (تموز) الحالي. وما لم تطرأ مفاجآت أو تطورات عاصفة، فمن المرجح أن يتولى كاستيلو منصب الرئيس ليبدأ مرحلة جديدة من تاريخ بيرو المضطرب والغنيّ.
رئاسة بيرو في انتظار الفائز (تحليل)
رئاسة بيرو في انتظار الفائز (تحليل)
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة