الولايات المتحدة والصين و«الفخّ الإغريقي»... قوة الثانية هي موطن ضعفها

الولايات المتحدة والصين و«الفخّ الإغريقي»... قوة الثانية هي موطن ضعفها
TT

الولايات المتحدة والصين و«الفخّ الإغريقي»... قوة الثانية هي موطن ضعفها

الولايات المتحدة والصين و«الفخّ الإغريقي»... قوة الثانية هي موطن ضعفها

ثمة مشاهد كثيرة تطبع الساحة السياسية العالمية، تتفاوت في أحجامها وأهميتها، لكن أبرزها على الإطلاق هو مشهد العلاقات الأميركية الصينية الذي يستهلك الكثير من التحليلات والدراسات والنظريات. وإذا كان من قاسم مشترك بين كل الآراء فهو أن هذا المشهد سيكون له الحيّز الأكبر في العقود المقبلة وربما طوال القرن الحادي والعشرين.
ثمة «جبهات» عدة تتواجه فيها واشنطن وبكين: تايوان ومصيرها، النفوذ في بحر الصين الجنوبي، التبادل التجاري، مشروع «الحزام والطريق» الصيني، وعموماً الاقتصاد العالمي ككل.
في هذا السياق، كان لافتاً الشهر الماضي إقرار مجلس الشيوخ الأميركي مشروع قانون يقضي بتخصيص استثمارات بمليارات الدولارات للعلوم والتكنولوجيا، بهدف مواجهة السيطرة الصينية الكاسحة في هذا المجال، وهو تجسيد لرؤية الرئيس جو بايدن الذي أصدر في فبراير (شباط) الماضي أمراً تنفيذياً للوكالات الفدرالية لكي تضع تصوراً لطرق تعزيز الإنتاج المحلي لمجموعة من المكوّنات الصناعية، مثل الرقائق، وبالتالي تقليل الاعتماد على الموردين الأجانب، أي الصين عملياً.
المهمّ أن النظرية البديهية للعلاقات بين صاحبَي أكبر اقتصادين في العالم تنبئ بمواجهة حتمية بينهما. وهنا يستعيد الباحث البولندي ياسيك بارتوسياك ديناميكيات ما يُعرف بـ«فخ ثوقيديدس»، هذه القاعدة التي وضعها المؤرخ الإغريقي قبل نحو 24 قرناً، ومؤداها أن تراجع القوة المهيمنة وصعود قوة منافسة يجعلان الحرب بين الاثنتين أمراً لا مفر منه. وقد بُنيت هذه الفرضية على الحرب بين أثينا المستقرة والمسيطرة، وإسبرطة التي نهضت بقوة «عضلاتها» وحاولت بسط نفوذها على كل أنحاء العالم الإغريقي.
بمزيد من التفصيل، تقوم الفرضية على التوترات الهيكلية الناجمة عن التغيّر الحاد في ميزان القوى بين المتنافسَين. وهناك عاملان رئيسيان يساهمان في هذا التغيير: الحاجة المتزايدة للقوة الطموحة إلى الحصول على دور أكبر ومكانة استراتيجية في شبكة العلاقات الدولية، وخوف القوة الحالية من الآتي وتصميمها على الدفاع عن وضعها الراهن.
يرى بارتوسياك ومحللون وباحثون كثر غيره أن نظرية «فخ ثوقيديدس» تنطبق تماماً على العلاقات الأميركية الصينية. فالولايات المتحدة تشعر بالقلق إزاء القوة الاقتصادية الهائلة والقدرات العسكرية المتنامية للصين، معتقدة أنها يمكن أن تتحدى تفوقها العسكري الحالي في غرب المحيط الهادئ وشرق آسيا على الأقل. وفي المقابل، تشعر الصين بالقلق من أن وجود الأميركيين في هذا الجزء من العالم سيحدّ من النمو «المشروع» للقوة والنفوذ الصينيين.
في منطقة بحر الصين الجنوبي تحديداً، قد تنقاد الولايات المتحدة إلى السقوط في «فخ ثوقيديدس»، انطلاقاً من اعتقادها أنها الطرف الأقوى عسكرياً بما يجعلها تجنح إلى شن هجوم مضاد رداً على حادث، مهما كان صغيراً، لتلقين الصين الأقل قوة درساً قاسياً.
لكن هل ستقع حرب بين القوتين النوويتين؟

*في ميزان الحرب واللاحرب
عند البحث في احتمالات نشوب حرب بين الولايات المتحدة والصين لا يمكن التحدث عن حرب وسلم، فالحرب قائمة تجارياً بلا هوادة. لا يعني ذلك أن الحرب العسكرية هي خارج الحسابات بمجرد أن البلدين يملكان أسلحة نووية وبالتالي فإن الردع المتبادل يلغي احتمال الاشتباك. فالحرب العسكرية المقصودة ستكون إقليمية وتخاض بأسلحة متطورة إنما غير نووية، لأن الأمور لا يمكن أن تفلت من عقالها بين قوتين طاحنتين إلى هذا الحد.
يمكن كذلك أن تكون حرباً بالوكالة، تنشب مثلا بين الصين وإحدى الدول المشاطئة لبحر الصين الجنوبي، مع دعم أميركي مباشر للثانية. وهنا يرى محللون كثر أن احتمال حصول اشتباك إقليمي مباشر أو بالواسطة لن يجر إلى حرب عالمية، تحديداً لأن الصين لن تستطيع تشكيل محور معادٍ للولايات المتحدة. فروسيا بالذات لن تدخل في حرب مسرحها الشرق لأنها منشغلة بضمان أمنها من جهة أوروبا التي تكاد أن تصير كلها «غربية» بالمعنيين السياسي والعسكري، ومن جهة القوقاز حيث يتوسع الوجود الأميركي شيئاً فشيئاً.
ولا ننسى هنا أن الصين ليست عضواً في حلف عسكري (منظمة شانغهاي للتعاون لا تنطبق عليها معايير الحلف العسكري الحقيقي)، عكس الولايات المتحدة التي «تملك» نادياً عسكرياً كبيراً هو حلف شمال الأطلسي (ناتو)، يأتمر إلى حد كبير بأوامرها ويسير في ركبها أينما اختارت أن تتدخّل بقرار من مجلس الأمن الدولي أو من دونه.
طبعاً يمكن ذكر إيران كحليف للصين، وقد وقّع البلدان للتوّ اتفاقاً كبيراً مدّته ربع قرن.
لكن إذا جمعنا الصين وروسيا وإيران في حلف واحد وثيق ومنظّم، هل يكفي ذلك لتتحدى الدول الثلاث نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية بشكل يهدد قدرة الولايات المتحدة على الخروج ظافرة من صراع جيوسياسي جديد؟
الجواب هو لا، لأن الدول الثلاث تعاني نقاط ضعف كثيرة، أولاها غياب الديمقراطية وبالتالي اهتزاز مشروعية أنظمتها، كما يقول الباحث والكاتب الأميركي مايكل ماندلباوم. والدليل على ذلك ما قامت به الصين من ضرب للحركة الاحتجاجية في هونغ كونغ، والشراسة التي عاملت بها موسكو المعارض أليكسي نافالني وأنصاره، ناهيك بقمع طهران لعدد كبير من التحركات الاحتجاجية في السنوات الأخيرة.
والواضح أن الدول الثلاث تعتمد لتبرير سياستها الداخلية لغة القومية المفرطة وتضخيم الاستهدافات التي تتعرض لها لكي تبقي شعوبها متمسكة بأنظمتها، فيما تحاول النجاح اقتصادياً لتخفيف أي نقمة تنشأ عند الناس.
والحال أن الصين هي الأقوى بين الدول الثلاث، خصوصاً أنها تبني توجهها القومي على أسس اقتصادية صلبة قد تجعلها صاحبة الاقتصاد الأول في العالم في غضون سنوات قليلة.
إلا أن هذا الجبروت الاقتصادي يحمل في طيّاته موطن الضعف الأكبر عند الصين: الأسواق الصينية لا يمكنها استيعاب ما تنتجه مصانع البلاد. فالنمو الاقتصادي للأمبراطورية الصفراء جعلها رهينة لزبائنها الأجانب. وتوضيحاً، فإن الصادرات تشكل نسبة 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للصين، وخِمس الصادرات يذهب إلى المشتري الأكبر: الولايات المتحدة.
الصين إذاً هي بمثابة متجر عالمي كبير، وإذا انهارت التجارة الدولية سيقفل المتجر أبوابه حتماً لأن «زبائن الحيّ» لا يكفون لجعل عمله يستمرّ ويزدهر.
بالتالي، ليس من الحكمة أن تدخل الصين في صراع عسكري مع الولايات المتحدة لأسباب اقتصادية. أما التوترات فسوف تستمر في المناطق الاستراتيجية الساخنة ضمن لعبة كسب النفوذ والسيطرة. وها هي الصين، مثلاً، تسارع مع قرب انتهاء الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان إلى التخطيط لاستثمار 62 مليار دولار في الدولة الآسيوية ضمن مشروع «الحزام والطريق».
يبقى القول إن الحروب هي، مع الأسف، ظاهرة ملازمة لحياة الجنس البشري منذ فجر التاريخ. وبالتالي فإن الخلاصة التي تستبعد صداماً عسكرياً بين الولايات المتحدة والصين ليست «أبدية»...
يتحدث الكاتب الأميركي توماس فريدمان عن رواية بعنوان «2034» ألفها الضابطان الأميركيان المتقاعدان جيمس ستافريدس وإليوت آكرمان، وخلاصتها أنه في العام 2034 تتواجه الولايات والمتحدة والصين نووياً وتتبادلان إزالة بعض المدن من الوجود، وتكون الخاتمة في مصلحة الهند المحايدة التي تدين لها السيطرة على العالم... إنها رواية طبعاً، لكن الروايات كثيراً ما تستمد أحداثها من الواقع!



موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
TT

موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)

يشكّل تحديث العقيدة النووية لروسيا الذي أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً، تحذيراً للغرب، وفتحاً ﻟ«نافذة استراتيجية» قبل دخول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب البيت الأبيض، وفق تحليل لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية.

«إن تحديث العقيدة النووية الروسية يستبعد احتمال تعرّض الجيش الروسي للهزيمة في ساحة المعركة»، بيان صادر عن رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية، سيرغي ناريتشكين، لا يمكن أن يكون بياناً عادياً، حسب «لوفيغارو». فمن الواضح، حسب هذا التصريح الموجه إلى الغربيين، أنه من غير المجدي محاولة هزيمة الجيش الروسي على الأرض، لأن الخيار النووي واقعي. هذه هي الرسالة الرئيسة التي بعث بها فلاديمير بوتين، الثلاثاء، عندما وقّع مرسوم تحديث العقيدة النووية الروسية المعتمد في عام 2020.

ويدرك الاستراتيجيون الجيوسياسيون الحقيقة الآتية جيداً: الردع هو مسألة غموض (فيما يتعلّق باندلاع حريق نووي) ومسألة تواصل. «وفي موسكو، يمكننا أن نرى بوضوح الذعر العالمي الذي يحدث في كل مرة يتم فيها نطق كلمة نووي. ولا يتردد فلاديمير بوتين في ذكر ذلك بانتظام، وفي كل مرة بالنتيجة المتوقعة»، حسب الصحيفة. ومرة أخرى يوم الثلاثاء، وبعد توقيع المرسوم الرئاسي، انتشرت موجة الصدمة من قمة مجموعة العشرين في كييف إلى بكين؛ حيث حثّت الحكومة الصينية التي كانت دائماً شديدة الحساسية تجاه مبادرات جيرانها في ما يتصل بالمسائل النووية، على «الهدوء» وضبط النفس. فالتأثير الخارق الذي تسعى روسيا إلى تحقيقه لا يرتبط بالجوهر، إذ إن العقيدة النووية الروسية الجديدة ليست ثورية مقارنة بالمبدأ السابق، بقدر ارتباطها بالتوقيت الذي اختارته موسكو لهذا الإعلان.

صورة نشرتها وزارة الدفاع الروسية في الأول من مارس 2024 اختبار إطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات تابع لقوات الردع النووي في البلاد (أ.ف.ب)

العقيدة النووية الروسية

في سبتمبر (أيلول) الماضي، وفي حين شنّت قوات كييف في أغسطس (آب) توغلاً غير مسبوق في منطقة كورسك في الأراضي الروسية، رد فلاديمير بوتين بتحديد أنه يمكن استخدام الأسلحة النووية ضد دولة غير نووية تتلقى دعماً من دولة نووية، في إشارة واضحة إلى أوكرانيا والولايات المتحدة. لكن في نسخة 2020 من الميثاق النووي الروسي، احتفظت موسكو بإمكانية استخدام الأسلحة الذرية أولاً، لا سيما في حالة «العدوان الذي تم تنفيذه ضد روسيا بأسلحة تقليدية ذات طبيعة تهدّد وجود الدولة ذاته».

وجاء التعديل الثاني في العقيدة النووية الروسية، الثلاثاء الماضي، عندما سمحت واشنطن لكييف باستخدام الصواريخ بعيدة المدى: رئيس الكرملين يضع ختمه على العقيدة النووية الجديدة التي تنص على أن روسيا ستكون الآن قادرة على استخدام الأسلحة النووية «إذا تلقت معلومات موثوقة عن بدء هجوم جوي واسع النطاق عبر الحدود، عن طريق الطيران الاستراتيجي والتكتيكي وصواريخ كروز والطائرات من دون طيار والأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت». وحسب المتخصصة في قضايا الردع في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (إيفري)، هيلواز فايت، فإن هذا يعني توسيع شروط استخدام السلاح النووي الروسي.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يصافح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب خلال اجتماع على هامش قمة مجموعة العشرين في أوساكا باليابان 28 يونيو 2019 (رويترز)

انتظار عودة ترمب

لفترة طويلة، لاحظ صقور الاستراتيجية الجيوستراتيجية الروسية أن الردع الروسي تلاشى. وبالنسبة إليهم، فقد حان الوقت لموسكو لإعادة تأكيد خطوطها الحمراء من خلال «إعادة ترسيخ الخوف» من الأسلحة النووية، على حد تعبير سيرغي كاراجانوف، الخبير الذي يحظى باهتمام فلاديمير بوتين. ةمن هذا المنظار أيضاً، يرى هؤلاء المختصون اندلاع الحرب في أوكرانيا، في 24 فبراير (شباط) 2022، متحدثين عن «عدوان» من الغرب لم تكن الترسانة النووية الروسية قادرة على ردعه. بالنسبة إلى هؤلاء المتعصبين النوويين، ينبغي عدم حظر التصعيد، بل على العكس تماماً. ومن الناحية الرسمية، فإن العقيدة الروسية ليست واضحة في هذا الصدد. لا تزال نسخة 2020 من العقيدة النووية الروسية تستحضر «تصعيداً لخفض التصعيد» غامضاً، بما في ذلك استخدام الوسائل غير النووية.

وحسب قناة «رايبار» المقربة من الجيش الروسي على «تلغرام»، فإنه كان من الضروري إجراء تحديث لهذه العقيدة؛ لأن «التحذيرات الروسية الأخيرة لم تُؤخذ على محمل الجد».

ومن خلال محاولته إعادة ترسيخ الغموض في الردع، فإن فلاديمير بوتين سيسعى بالتالي إلى تثبيط الجهود الغربية لدعم أوكرانيا. وفي ظل حملة عسكرية مكلفة للغاية على الأرض، يرغب رئيس «الكرملين» في الاستفادة من الفترة الاستراتيجية الفاصلة بين نهاية إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ووصول الرئيس المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، الذي يتوقع منه بوتين مبادرات سلام محتملة لإنهاء الحرب.

يسعى بوتين، وفق الباحثة في مؤسسة «كارنيغي»، تاتيانا ستانوفايا، لوضع الغرب أمام خيارين جذريين: «إذا كنت تريد حرباً نووية، فستحصل عليها»، أو «دعونا ننهي هذه الحرب بشروط روسيا».