القدال والحلو... سحر المفردة الشعبية وتجديد القصة القصيرة

محمد طه القدال
محمد طه القدال
TT

القدال والحلو... سحر المفردة الشعبية وتجديد القصة القصيرة

محمد طه القدال
محمد طه القدال

فجع السودان، عشية الأحد وصباح الاثنين (4 و5 يوليو/ تموز الحالي)، برحيل اثنين من كبار مبدعيه: الشاعر محمد طه القدّال الذي حول المفردات العامية إلى أغانٍ على شفاه الناس، وأصبح أيقونة الحراك الجماهيري لثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018. أما المبدع الثاني الذي فقده السودان، فهو القاص الناقد عيسى الحلو؛ واحد من أجود من كتب القصة القصيرة في السودان على امتداد عقود.
ولد القدّال 1951في قرية حليوة بالجزيرة التي ظلت حاضرة دائماً في قاموسه الشعري. ومن عرفه من كثب، يجد أن ثقافة قرى وسط السودان قد سكنت عميقاً في مفاصل جملته الشعرية:
وأقول غنْواتْ،
في البلد البسيرْ جِنْياتْها...
لي قدّامْ
وللولدْ البِتِلْ ضُرْعاتو في العَرْضهْ
ويطيرْ في الدارة صقْريّهْ
ولو السمحة تلّت إيد
ومدّت جيد
تقوم شايلاه هاشميهْ
يشيل شبّالو ختفة ريد
وفرحة عيدْ
وقد ظل الإنسان العادي صانع التحول هو موضوع قصيدته:
روحْ يا يابا
وابقَى قفاكَ لا تعايِنْ
ولا تعاين على موطاك
ولا تندمْ على خطواً...
مشيتُو لي قدّامْ
وابقى العاتي زي سنتنا...
زي صبراً نلوك فوق مرُّو زي الزاد
لا شيتاً نزل في الجوف
ولا يرجع ولا بنزاحْ!
لكن الانحياز للوطن له ثمنه الغالي. والقدال دفع ثمن انتمائه لوطنه مطاردات وسجوناً:
لو دموع الفرحة ما لاقتْ غُنانا
بكرة نرجعْ تاني للكلمهْ الرحيمهْ
شان هَنانا، شان مُنانا
شان عيونْ أطفالْنا ما تضوقْ الهزيمهْ!
ومن أخريات قصائده (شن عندي ليك أنا يا وطن؟) التي يقول فيها:
يا أرضي أحفظي ما عليك
في كل ناحية الخير دفقْ
جاك بالمحاسن والفهم
والعزة والشعب المعلم
والمكارم والسبق!
مكانة القدال وخسارته المفجعة انعكست في مواقع التواصل الاجتماعي التي امتلأت بكلمات الوداع والرثاء، سودانياً وعربياً. وكان رئيس الوزراء السوداني الدكتور عبد الله حمدوك في مقدمة مستقبلي جثمان الراحل بمطار الخرطوم الذي نقله موكب من السيارات ليدفن بقريته حليوة بالجزيرة الخضراء (وسط السودان).

عيسى الحلو: تطوير

بعد ساعات من رحيل القدال، رحل القاص الروائي الناقد عيسى الحلو. وبرحيله، يكون الأدب السوداني قد خسر اسماً بارزاً في فن السرد يصعب تعويضه، وقد ينتظر هذا الأدب طويلاً قبل أن يجد من يسد فراغه. إن رحلة الحلو في فن القصة القصيرة، بشكل خاص، هي رحلة طويلة شاقة.
صحيح أن الطيب صالح وعثمان علي نور وأبو بكر خالد كانوا هم البداية الجادة لتيار الحداثة في القصة السودانية القصيرة نهاية الخمسينات، لكن أولئك المبدعين -باستثناء الطيب صالح- توقفوا عن مسايرة التطور في فن السرد كماً وكيفاً. ومن هنا، يمكننا تقييم الدور الذي اضطلع به الحلو في تطوير هذا الفن، واستفادته من التقنيات الجديدة في كتابة القصة القصيرة.
ومن المعروف أن الستينيات كانت هي بداية التحول الحقيقي لكتابة القصة القصيرة. ومع بداية مشواره في الكتابة في هذه الفترة، استطاع الحلو أن يعكس التحولات الاقتصادية والاجتماعية، من حيث تحطم مؤسسات الاقتصاد التقليدي، وازدياد مساحة الفقر والبطالة.
وفي قصته «وماذا فعلت الوردة»، ينقلنا عيسى الحلو بأسلوب يتقمص شخصيات الفرنسي إميل زولا في فضحها لرغباتها المكبوتة، فيغوص الكاتب داخل المجتمع ليقدم نماذج لأشخاص يعيشون بيننا، لكنهم مولعون بفضح دواخلهم، أو قل بتعرية الحياة لتبدو دون رتوش. تقول بطلة إحدى قصصه: «كلنا يتعرى. نعم، نمشي بلحمنا فقط، وبلا دثار!».
ولعل أثر السينما يبدو واضحاً في كثير من معالجاته للقصة القصيرة. وقد أكد في أكثر من لقاء صحافي معه أنه مولع بمشاهدة السينما بصفتها فناً مدهشاً. وانعكس ولعه هذا في قصته القصيرة «وردة حمراء من أجل مريم» التي يستخدم فيها الحلو ما يمكن تسميته بالشرائح السينمائية، حيث تبدو القصة كالثرثرة حول حدث بعينه، وأن مقدمة القصة ليس بالضرورة هي التمهيد لبدايتها، وأن الترتيب غير المنطقي يجعل النهاية مثل صعقة الكهرباء.
وفي مجموعته الأخيرة «رحلة الملاك اليومية»، يبدو الزمن دولاباً متحركاً يتأرجح بداخله الإنسان بين الماضي والحاضر. وفي قصته «رجل بلا ملامح»، تقول الفتاة: «اشتد ارتباكي، واضطرب الوعي وتشوّش. لقد أصبحت بلا ماضٍ؛ صفحة بيضاء لم تكتب عليها أعوامها العشرين... وهكذا، أفقدني الرجل الذي يقف أمامي الآن هويتي بفضل قوة زمانه المعجز الذي قسم حياتي إلى ماضٍ باهت الصور منسي، وإلى واقع أكاد لا أتبينه!».
يرحل عيسى الحلو، حفيد أحد أمراء الثورة المهدية، فقيراً معدماً... لكنه ترك إرثاً أدبياً يضعه بين أفضل كتاب فن القصة القصيرة، وفن السرد عامة، في السودان والعالم العربي، وصحافياً تعلم على يديه جيل من الصحافيين من خلال مسؤوليته في عدد من الملاحق الثقافية الجادة.



«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد
TT

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر» عنوان لافت لمختارات نقلها عن الأردية المترجم هاني السعيد للشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي يُعد أحد رواد قصيدة النثر في باكستان. وصدر الكتاب حديثاً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة «آفاق عالمية» بالقاهرة.

يقول الشاعر، في كلمته التي كتبها خصوصاً بمناسبة صدور هذه الترجمة العربية الأولى لقصائده، إن «هذا الحدث المبهج» أعاد إلى ذاكرته تلك الأيام التي تعرف فيها للمرة الأولى إلى الشعراء العرب فصار أسيراً لسحرهم ومغامراتهم الشعرية مثل امرئ القيس وأبي نواس وأبي تمام والمتنبي... وغيرهم.

ويذكر أفضال أن لمسلمي شبه القارة الهندية الباكستانية علاقة خاصة باللغة والثقافة العربيتين، وهذا هو السبب في أن الترجمات الأردية للشعراء والكتّاب العرب تحظى بشعبية كبيرة لدى القراء الباكستانيين وخاصة الأسماء المشهورة مثل أدونيس ومحمود درويش ونزار قباني وفدوى طوقان، فضلاً عن الروائيين نجيب محفوظ والطيب صالح ويوسف زيدان.

وأشار إلى أنه حين كان طالباً في الجامعة الأميركية ببيروت في الفترة من سنة 1974 إلى 1976، أتيحت له فرصة ثمينة للتعرف المباشر إلى الثقافة العربية التي وصفها بـ«العظيمة»، وهو ما تعزز حين سافر إلى مصر مرتين فأقام بالقاهرة والإسكندرية والسويس ودمياط، حيث لا يمكن له أن ينسى مشهداً ساحراً وهو التقاء النيل بالبحر المتوسط في منطقة اللسان بمدينة رأس البر التابعة لدمياط. وضمن سياق القصيدة التي تحمل عنوان الكتاب يقول الشاعر في مستهل مختاراته:

«اخترع المغاربة الورق

الفينيقيون الحروف

واخترعت أنا الشعر

اخترع الحب القلب

صنع القلب الخيمة والمراكب

وطوى أقاصي البقاع

بعت أنا الشعر كله

واشتريت النار

وأحرقت يد القهر».

وفي قصيدة بعنوان «الهبوط من تل الزعتر»، يرسم الشاعر صورة مثيرة للحزن والشجن لذاتٍ مُمزّقة تعاني الفقد وانعدام الجذور قائلاً:

«أنا قطعة الغيم

المربوطة بحجر

والملقاة للغرق

ليس لي قبر عائلي

من أسرة مرتزقة

عادتها الموت

بعيداً عن الوطن».

ويصف تجليات الحرب مع الذات والآخرين في نص آخر بعنوان «لم يتم منحي حياة بكل هذه الوفرة»، قائلاً:

«وصلتني أنهاري عبر صفوف الأعداء

فشربت دائماً بقايا حثالات الآخرين

اضطررت إلى التخلي عن موسم فارغ للأمطار

من ترك وصية لي

لأعرف ما إذا كان

هو نفسه الذي كانت تحمله امرأة بين ذراعيها وهي تتوسل إلى الخيالة

والتي بقيت طوال حياتها

تحاول حماية وجهها

من البخار المتصاعد من خياشيم الخيل

لا أعرف ما إذا كان

هو نفسه

الذي ربطته أمه في المهد».

وتتجلى أجواء السجن، نفسياً ومادياً، والتوق إلى الحرية بمعناها الإنساني الشامل في قصيدة «إن استطاع أحد أن يتذكرني»؛ حيث يقول الشاعر:

«حل الشتاء

صدر مجدداً الإعلان

عن صرف بطاطين صوف للمساجين

تغير طول الليالي

وعرضها ووزنها

لكنّ ثمة حُلماً يراودني كل ليلة

أنه يتم ضبطي وأنا أهرب من بين القضبان

أثناء تغير الفصول

في الوقت الذي لا يمكن أسره بمقياس

أقرأ أنا قصيدة».

وأفضال أحمد سيد شاعر ومترجم باكستاني معاصر، ولد في 26 سبتمبر (أيلول) 1946 في غازي بور التابعة لمقاطعة أتربرديش بالهند، قبل تقسيم الهند وباكستان وبنغلاديش؛ حيث بدأ فيها أيضاً حياته المهنية بالعمل في وزارة الزراعة الائتلافية هناك وعند تقسيم باكستان وبنغلاديش 1971، انتقل مع أسرته إلى مدينة كراتشي الباكستانية.

بدأ أفضال كتابة الشعر 1976 وأصدر 5 مجموعات شعرية هي «تاريخ منتحل» 1984، «خيمة سوداء» 1986، «الإعدام في لغتين» 1990، «الروكوكو وعوالم أخرى» 2000، ثم أصدرها مجمعة باعتبارها أعماله الشعرية الكاملة 2009 بعنوان «منجم الطين»، كما أصدر في مطلع 2020 كتاباً يضم قصائده الأولى في الغزل.

وتمثل أغلب قصائده طفرة نوعية في قصيدة النثر الأردية التي ما زالت تعاني من الرفض والتهميش إلى حد كبير لحساب فن الغزل بمفهومه الفارسي والأردي التقليدي الذي ما زال مهيمناً بقوة في شبه القارة الهندية.

ترجم أفضال أعمالاً عن الإنجليزية والفارسية وهو من أوائل من ترجموا لغابرييل غارثيا ماركيز وجان جينيه، كما أصدر في مطلع 2020 ترجمته لمختارات من الشعر الفارسي.

درس أفضال أحمد سيد ماجستير في علم الحشرات بالجامعة الأميركية ببيروت بين عامي 1974 و1976، وذلك في بعثة علمية من الحكومة الائتلافية الباكستانية، فشهد الحرب الأهلية اللبنانية في أثناء إقامته هناك.

يعمل حالياً أستاذاً مساعداً في جامعة حبيب بكراتشي، وهو متزوج من الشاعرة الباكستانية البارزة تنوير أنجم.