هجرات الحضارم والعقيلات ورحلاتهم

نموذج لتنقّلات أهل الجزيرة العربية عبر القرون

هجرات الحضارم والعقيلات ورحلاتهم
TT

هجرات الحضارم والعقيلات ورحلاتهم

هجرات الحضارم والعقيلات ورحلاتهم

مع قلة الأقلام التي تناولته بعمق، وبسببٍ من أهميته التاريخية والثقافية، ظلّ موضوع هجرات أهل الجزيرة العربية - شمالا نحو العراق وبلاد الشام وفلسطين وتركيا وآسيا، وشرقا نحو شبه القارة الهندية وجزر الملايو، وغربا نحو أفريقيا وأوروبا وأميركا، وتواصلهم الثقافي والاجتماعي مع شعوب تلك الجهات - ظل يستأثر ومنذ سنوات بحيّز من تفكير كاتب هذا المقال واهتماماته، وكانت مسألة الصلات مع جنوب شرقي آسيا استثناءً وحيدا خصّته بعض الكتابات القديمة والحديثة في التراثين الإندونيسي والحضرمي، وهي الصلات التي تمثّلت في الهجرات الحضرمية القديمة إلى جزر (أرخبيل) الملايو، وفي بعثات أُوفدت للدعوة والدعاية في تلك النواحي لأغراض دينية وسياسيّة.
والمقصود ببلاد الملايو هنا هي تلك المنطقة التي أصبحت سياسيّا بعد نيلها الاستقلال تعرف بإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وبروناي وما حولها.
لكن المقال لن يعرض للصلات الدينية والثقافية بين بلاد الحرمين الشريفين (الحجاز) وبلاد الملايو، على اعتبار أن مكة المكرمة والمدينة المنورة كانتا ومنذ البعثة المحمدية على صلة بشرية وروحية بكل بلدان العالم الإسلامي دون استثناء.

تمثّل هجرات الحضارم إلى جزر الملايو - عند الحديث عن علاقات العرب مع بلاد الشرق - الصلات الأوثق والأقدم والأوسع، وهي صلات ينسب لها الفضل الأكبر في انتشار الإسلام في جنوب شرقي آسيا مرورا بالهند، وقد كتب الكثيرون من مثقفي حضرموت وبلاد الجاوة عن هذه الظاهرة ومظاهرها وجوانبها الاجتماعية والتراثية والاقتصادية والثقافية، وأُلّفت العشرات من الكتب وأُنتجت أفلام توثيقية عنها، تحدثت عن أن الحضارم الموجودين في المهجر الشرقي والشمالي والغربي يزيدون عددا عن أهلهم في الوطن الأصلي، وتحدثت عن قدرة بلاد الجاوة على استيعاب تلك الهجرات والتعايش الفريد بين مختلف الثقافات والأعراق.
وحضرموت اليوم - التي يبلغ عدد سكانها نحو مليون ونصف المليون وتمثّل إحدى المحافظات الجنوبية لليمن ومن أبرز مدنها وموانئها المكلا (العاصمة) والشحر وتتبع لها جزيرة سقطرى - كانت تشكّل أكبر من ذلك جغرافيّا وتاريخيّا، وقد هاجر جزء كبير من أهلها نحو الشمال وبخاصة نحو المملكة العربية السعودية، ونحو الشرق عبر البحر الأحمر إلى زنجبار وإثيوبيا والصومال ومدغشقر.
ولا توجد معلومات مؤكدة عن بدايات الهجرات الحضرمية إلى أرخبيل الملايو، لكن من المرجّح أن تكون بدأت في أثناء القرن الثالث الهجري (الثامن الميلادي) وهناك كتابات تذكر أن هجرات الحضارم بدأت تتجه شرقا نحو الهند ومنها إلى بلاد الجاوة قبل ظهور الإسلام، وتقول بعض المصادر إن أفرادا من طبقة السادة العلويين كانوا طلائع المهاجرين في العهود الإسلامية ثم لحقت بهم طبقات أخرى، وقد انتقلت تلك الخصوصية من «الطبقيّة الحضرمية» إلى المنازل الجديدة في جنوب شرقي آسيا (إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وبروناي وجنوب الفلبين وتايلاند وبورما) وتنتشر الأكثرية من الأصول الحضرمية اليوم في جاكرتا (بتافيا) وبعض المدن الإندونيسية.
وإذا ذكرت الهجرات الحضرمية إلى شرق آسيا، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن أمران: انتشار الإسلام عبر السلوك، وحسن التعامل في النشاط التجاري، لكن الواقع أن فئات من المهاجرين انهمكت في ممارسات حزبية سياسية وتكتّلات دعوية، وأصدرت تبعا لذلك في الثلث الأول من القرن الماضي نحو عشرين صحيفةً ومجلة ناطقة باللغتين الجاوية والعربية كما سيأتي تفصيله لاحقا.
ويبدو أن تلك الممارسات التي اتسمت بشيء من الفوضى وانضمّت إليها عناصر من جنسيّات عربية أخرى، قد شوّهت السمعة العالية للجنس الحضرمي عبر العصور، وذلك بظهور فريقين متنافرين هما العلويون والإرشاديون، وكان لكل فريق توجهات سياسية وعرقية وعقدية متباينة بلغت ذروتها في منتصف العقد الثاني من القرن الماضي، وقد توسّط فيها عدد من الغيورين من مشايخ حضرموت ومن الملك عبد العزيز، ثم بدأت بالانحسار مع تطوّر النظام السياسي الديمقراطي في تلك الدول، مما ساعد على ظهور زعامات محلية وأخرى ذات جذور عربية كان لها نصيب وافر من الوصول إلى المناصب القيادية العليا في تلك الدول، وكان من الصحف التي صدرت بالعربية؛ «المعارف» (إندونيسيا 1927 م) و«حضرموت» (جزر الهند الشرقية 1924م) و«الجزاء» (سنغافورة 1934 م).
لقد كتب الكثير - وبخاصة من مثقّفي حضرموت - عن الوجود العربي في تلك الأرجاء عبر القرون سواء من قبل المستوطنين الحضارم أو ممن لحق بهم من الوافدين العرب، وفصّل الحديث عن النشاط السياسي والدعوي والإعلامي لتلك الجاليات، وكان من أبرز من تناول هذا النشاط - من غير الكتّاب الحضارم - الباحث الكويتي يعقوب يوسف الحجي في كتابه عن سيرة المؤرخ الكويتي عبد العزيز الرشيد (صدر عام 1993 م) والأكاديمية الكويتية نوريّة الرومي في كتابها عن حياة الشاعر الكويتي محمود شوقي الأيوبي (صدرت طبعته الثانية عام 1993م) ودكتور أحمد إبراهيم أبو شوك في مؤلّفه عن سيرة الداعية السوداني أحمد محمد السوركتّي (2000 م).
ومع دخول مملكة الحجاز في الحكم السعودي عام 1924م نشطت الدعايات المعادية للسعودية في كل من جزر الملايو والهند ومصر في ظاهرة امتدّت نحو عشرين عاما، وقد أسهمت تلك الدعايات - مقرونةً بتأثّر أوضاع الاقتصاد العالمي بإرهاصات الحرب الكونية الثانية - في امتناع كثير من حجاج الجاوة والهند عن القدوم للحج، متأثرين بما كان يقال عن تردّي الأمن.
وهنا بذلت أجهزة الحكومة السعودية جهودا متوالية لمواجهة الموقف، كان منها إنشاء مديريّة للدعاية للحج تابعة لوزارة الماليّة، وإيفاد مبعوثين إلى تلك البلدان، وبخاصةٍ بلاد الملايو (الجاوة) وشبه القارة الهندية ومصر، من بينهم شخصيّات سعودية وعربية موالية للعهد الجديد في الحجاز، ولديها اقتناع بسلامة نهجه العقدي.
وقد انهمك بعض هؤلاء الموفدين - على غرار من سبقهم من الحضارم - في الصراعات السياسية والطائفية والدينية، وكان منهم الكويتي عبد العزيز الرشيد، والداعية السوداني أحمد السوركتّي، والإعلامي العراقي يونس بحري، والشاعر الكويتي محمود شوقي الأيوبي، الذين كانوا ممن أوفدوا في تلك المهمّات واستوطنوا بلاد الملايو في الثلث الأول من القرن الماضي، وأصدروا مجموعة من الصحف العربية هناك، كان منها صحيفة «التوحيد» وصحيفة «الكويت» و«العراقي» و«الهدى» وغيرها.
وباستعراض ما كتب عن موضوع هذه البعثات الدعوية والإعلامية، يُلاحظ أنه لم ينل من المراجع المحلية السعودية ما يستحقّه من اهتمام، وقد سبق لكاتب هذا المقال أن تناوله من جانبه الإعلامي، بينما خصه د. محمد الربيّع ببحث من زاويته الثقافية وقد أسماه المهجر الشرقي.
ولئن عُدّت هجرات الحضارم ورحلاتهم نحو بلاد الملايو من أقدم الهجرات العربية وأشهرها، فإنها في الواقع كانت نموذجا لهجرات أخرى خرجت من الجزيرة العربية، ومنها على سبيل المثال:
1 - هجرات أسر حجازية وعسيرية من أهل مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة وأبها وما حولها إلى تركيا، وكانت إما هجرات ورحلات من نوع طبيعي بسبب التبعية السياسية للدولة العثمانية، أو من نوع تهجير قسري مما عرف باسم «السفر برلك»، ومارسته تركيا كارثيّا مع العديد من أهالي المدينة المنورة بُعيد تشغيل الخط الحديدي الحجازي عام 1908م الذي اسُتخدم في عملية تهجير أخلت المدينة المنورة من معظم أهلها الأصليين، وهناك تهجير مارسه الأتراك عنوةً ضد السعوديين وذلك بعد تدمير الدرعية سنة 1818م.
2 - ومن الهجرات والرحلات والصلات بنوعيها التجاري والثقافي، التي حظيت بشيء من الكتابات والتوثيق خلال العقود القليلة الماضية، هو ما اصطلح عُرفا على تسميته «تجارة العقيلات» وهو نوع من الرحلات على ظهور الجِمال والخيل، كان يقوم به مئات النجديين بغرض التجارة مع العراق وبلاد الشام، وإلى فلسطين ومنها إلى مصر والسودان قبل فتح قناة السويس وبعده، وأدت تلك التجارة إلى استقرار بعض أفراد هذه الجماعات في تلك البلدان ومن ثمّ إلى التزاوج مع أهلها، مستفيدة من الفرص التعليمية المتاحة في تلك النواحي.
وعلى الرغم من تكاثر الكتابات التي دوّنت تلك الرحلات مؤخّرا، فإنها لم تفلح في التوصّل إلى معلومات قاطعة حول سبب التسمية، وهل هي من عقْل الإبل أي ربطها، أم من لبس العقال في مقابل الحرّاس من الترك الذين يلبسون الطرابيش، أم نسبة إلى قبائل «بني عقيل» التي كانت لها الغلبة والإمارة في شرق الجزيرة العربية وفي نواحي الموصل مدةً من الزمن، وكان بعض أفرادها يقومون بحراسة القوافل نظير أجر؟
كما لم تفلح في تسجيل البدايات الزمنية لتلك الهجرات والرحلات، حيث من المعتقد أنها بدأت في حدود منتصف القرن الثامن عشر الميلادي ثم تقلّصت وتلاشت مع انتشار استخدام السيارات عند منتصف القرن العشرين، بمعنى أنها ربما استمرت نحو قرنين من الزمان.
كما لم تفلح الكتابات في تحديد حقيقة أهدافها السياسية، إذ إن المتداول عرفا في نجد أن نشاط العقيلات كان يقتصر على الأغراض التجارية ثم الثقافية والاجتماعية، وكانت تركز على بيع الإبل والخيل وتجلب الأقمشة والتوابل والبضائع الحديثة، بينما تذهب بعض المصادر إلى ذكر أدوار سياسية وعسكرية كانت تقوم بها.
ولم تؤكّد الكتابات بعدُ حقيقة ارتباط أسباب هذه الهجرات بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد، خاصةً إذا ما ثبت اقتران ظاهرة العقيلات مع منتصف القرن الثامن عشر الميلادي (بداية الدعوة).
ومهما تكن نتيجة تلك التساؤلات، فإن تجارة العقيلات كانت تمثّل في زمنها ظاهرة اجتماعية في شمال إقليم نجد وبالأخص في بلدات القصيم وحائل والزلفي، ظاهرةً ما تزال حكاياتها تُروى وتُستعاد في المجالس، شارك فيها مئات الأسر والأعيان ممن رصدت الكتابات والمدوّنات قوائم بأبرز أسمائها، وعملت مدينة بريدة بالقصيم مؤخّرا على تسمية معالم تجارية باسمها، وهي المدينة التي اشتهرت مع ضواحيها بخروج أغلب رجالات العقيلات منها.
وغير بعيد عن هجرات العقيلات - وربما من آثارها، لكنها كانت أكثر منها استقرارا وتوطّنا - هجرات النجديين إلى بلدات جنوب العراق والزبير بوجهٍ أخص، حيث تقاطرت أسر كثيرة من سدير والزلفي والقصيم واستوطنت فيها في القرنين الماضيين وربما من قبل جاعلةً من الزبير مدينةً نجديةً صِرفة، ثم بدأت تلك الأُسر بالعودة مع تقلّب الأوضاع في العراق في الثلث الأخير من القرن الميلادي الماضي، وفي المقابل ازدهار الحياة في المملكة العربية السعودية.
ومثلما قيل عن ظاهرة تجارة العقيلات، وعلى الرغم من كثرة ما كتب عن تاريخ مدينتي البصرة والزبير، إلا أنها لم تجب عن أسئلة ضبابية عن بدايات تلك الهجرات ودوافعها الحقيقية، غير تلك التي تعزوها إلى حالة الفقر التي كانت تعم نجدا في تلك الحقبة.
3 - أما النموذج الثالث من تلك الهجرات فإنها هجرات أهل الجزيرة العربية نحو الهند، وهو موضوع كتب عنه القليل جدا مع أن المعلومات المتناثرة تؤكد وجود تواصل واضح بين أهل الأحساء ونجد وعسير وبلدان الخليج عامة مع شبه القارة الهندية، كما تشير كتب التاريخ إلى الممالك العربية التي أقيمت منذ القدم فيها، والمقصود بشبه القارة الهندية هنا تلك المنطقة من جنوب آسيا التي كانت تضم الهند والباكستان وبنغلاديش قبل انفصالها عام 1947م.
وبين أيدينا سيَر وتراجم للعشرات - وربما للمئات - من الشخصيّات والأسر الأحسائية والنجدية والعسيرية، وبالتأكيد الحجازية، التي درست واستوطنت ومارست التجارة أو تلقّت تعليمها في الهند وبقي بعض أفرادها إلى الآن، إلا أن تلك المعلومات لا توضّح البدايات والدوافع لتلك الهجرات، التي كانت - على الرغم من بُعد المسافة ومخاطر الإبحار - تنطلق من سواحل الخليج واليمن وعدن، كما توجد أمامنا سير عدة لأُسر امتهنت الغوص وكانت لديها سفن مجهّزة للتجارة مع مدن الهند الساحلية، وقد ارتبطت مع المجتمع الهندي بعلاقات ثقافية وبمصاهرات، وتتحدث الوثائق التاريخية القديمة بكثرة عن واحد من هؤلاء البحّارة وهو أحمد بن ماجد بن محمد السعدي النجدي (821 هـ - 906 هـ) المنسوب إلى رأس الخيمة، وهو بحسب ويكيبيديا «ملاح وجغرافي عربي مسلم، برع في الفلك والملاحة والجغرافيا وسماه البرتغاليون (بالبرتغالية almirante‏ ومعناها أمير البحر) ويلقب بمعلم بحر الهند، وهو ينتسب إلى عائلة من الملاحين، كتب العديد من المراجع، وكان خبيرا ملاحيا في البحر الأحمر وخليج بربرا والمحيط الهندي وبحر الصين، ويتمتع بأشهر اسم في تاريخ الملاحة البحرية لارتباطه بالرحلة الشهيرة حول رأس الرجاء الصالح إلى الهند حيث قام ابن ماجد بمساعدة فاسكو دي غاما لاكتشاف الطريق الجديد الموصل إلى الهند، وله الفضل في إرساء قواعد الملاحة العالمية، وبقيت آراؤه وأفكاره في مجال الملاحة سائدة في كل من البحر الأحمر والخليج وبحر الصين حتى سنة 903 هـ وهو أول من كتب في موضوع المرشدات البحرية الحديثة». انتهى.
أما في عصرنا الحديث، فصدرت كتب عدة من بلدان الخليج تتحدث عن الملاحة والغوص، ومن بين من تذكرهم الوثائق المتأخرة اسم النوخذة عبد الله بن عيسى الذوادي (شيخ الذواودة من بني خالد) الذي عاش بين عامي 1855 و1943 م واحترف التجارة بين البحرين والهند عبر امتلاكه سفنا عدة.
وهناك العشرات من الأسر النجدية التي هاجرت واستقرت في الهند في القرن الماضي ومنها الفضل والقصيبي وآل السليمان الحمدان والسديراوي والقاضي والبسام، وقد ظهر منها عشرات الشخصيات التي تلقت تعليمها في الهند وتولّت مناصب إدارية متقدمة في المملكة العربية السعودية في فترة تأسيسها بخاصة، وهو ما يشي بالتأثير الثقافي الهندي على بلدان الجزيرة العربية في القرن الماضي ويتطلّب جهدا بحثيّا مكثّفا، وكانت ندوة عقدت قبل عامين على هامش معرض الكتاب بالرياض عن العلاقات الثقافية السعودية الهندية، في حين نشرت صحيفة «الرياض» (في عددها 15691 بتاريخ 10 يونيو/ حزيران 2011م) بحثا مستفيضا عن دُور السجلات الهندية في نيودلهي ومومباي وغيرهما، وفيها آلاف الوثائق عن الدولة السعودية في عهودها الثلاثة وعن الصلات الثقافية والسياسية والاجتماعية بين الجزيرة العربية والهند بانتظار من يواصل البحث والتنقيب فيها.
ولا بد هنا من الإشارة إلى المخطوطات العربية المحفوظة في المكتبات الهندية، وإلى الدور الذي كانت تقوم به المطابع الهندية في حيدر آباد وغيرها لطبع كتب التراث العربي بإشراف مثقفين مهاجرين أقاموا فيها من أمثال الشاعر خالد الفرج وغيره، وكان وكلاء الملك عبد العزيز في الهند وفي مصر يقومون بطبع كتب تراثية على نفقته، وقد نوقشت مؤخرا رسالة ماجستير مسجلة في جامعة الإمام عن العلاقات الثقافية العربية الهندية، وكانت المجلة الثقافية التي تصدر عن جريدة «الجزيرة» السعودية نشرت (في عددها رقم 403 بتاريخ 18/ 4/ 2013 م) بحثا من إعداد إبراهيم المديهيش تضمّن أسماء خمسة وثلاثين شخصية نجدية درست في الهند، ومن ضمنها مجموعة من طلبة العلم الشرعي، وكان من طريف ما نشر مؤخّرا في هذا الشأن (في العدد 413 بتاريخ 28/ 9/ 2013م من المجلة نفسها) معلومة عن مخرج هندي من أصل سعودي اسمه إبراهيم حمد العلي القاضي من أُسر مدينة عنيزة التي هاجرت إلى الهند، وهو يُعدّ هناك من كبار المخرجين المسرحيين وأكثرهم تأثيرا خلال القرن العشرين، وقد أُطلق عليه - بحسب ويكيبيديا - الأب الروحي للمسرح الهندي الحديث، إضافة إلى كونه رساما ومصوّرا مهتما بالتراث والثقافة والمقتنيات والصور النادرة، وأستاذا بارزا للدراما في الهند تتلمذ على يديه بعض كبار الممثلين ونجوم السينما، ومؤسسًا لعدد من المؤسسات الثقافية، وأحد أهم الشخصيات الثقافية والفكرية في تاريخ الهند الحديث، كان والده أحد تجار نجد، الذين قضوا حياتهم في التجارة متنقّلا بين باكستان والهند وتركيا والكويت ولبنان، ثم استقر فترة من الزمن في الهند حيث ولد ابنه إبراهيم عام 1925م في مدينة بونا قرب مومباي، وقد تزوج إبراهيم من مصمّمة هندية تدعى روشان شاركت في تصميم أزياء مسرحياته، وأنجبا آمال وهي مديرة الكلية الوطنية للدراما حاليا، وفيصل ويعمل كذلك في الإخراج المسرحي.
وعودا على بدء؛
فباستثناء الكتابات التي تناولت الحالة الحضرمية في بلاد الملايو، تبقى هجرات أهل الجزيرة العربية قديما نحو الشمال والشرق والغرب بحاجة إلى المزيد من البحث والاستكشاف.

* محاضرة ألقيت في منتدى الرحمانية السنوي بمحافظة الغاط في السعودية، الخميس 9/ 1/ 2014



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!