شنت إدارة الرئيس الديمقراطي الأميركي جو بايدن هجوماً جوياً، فجر الاثنين، على ميليشيات عراقية تقول واشنطن إنها تأتمر بأوامر طهران، وتتمركز على الحدود بين سوريا والعراق. إحدى الضربات طالت مواقع تلك الميليشيات داخل الحدود العراقية، وأخرى خارجها في سوريا. المفارقة أن الهجوم شن بعيد ساعات من عقد «قمة بغداد» الثلاثية التي جمعت رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي والملك الأردني عبد الله الثاني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
هل كان للهجوم صلة بذلك؟ معظم المراقبين المحليين يستبعدون ذلك، فواشنطن -بنظرهم- غير معنية بسعي العراق إلى ترميم علاقاته بالمحيط العربي، واستعادته عافيته، قدر عنايتها الأكيدة بصراعها ومفاوضاتها النووية مع اللاعب الإيراني شديد الإزعاج والتعنت. كما جاء الهجوم غداة هجمات بأربع طائرات «مسيرة» استهدفت مناطق على أطراف أربيل قريبة من مبنى القنصلية الأميركية الجديدة في عاصمة إقليم كردستان. وعليه، ليس مستبعداً أن تكون ضربات أمس رداً على ذلك.
المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، جون كيربي، قال إن «الضربة استهدفت مواقع لـ(كتائب حزب الله) و(كتائب سيد الشهداء) في المنطقة الحدودية بين العراق وسوريا».
وبحسب مراقبين، فإن تصريح المتحدث الأميركي لا يمثل كشفاً أو مفاجأة بالنسبة لمعظم العراقيين، فالفصيلان المذكوران يسيطران منذ سنوات على شريط حدودي طويل، تبدأ نقاطه من محافظة كربلاء جنوباً، وصولاً إلى أقصى نقطة في محافظة الأنبار (غرب العراق). وهذه السيطرة «لا تزاحمها» أو تعترض عليها أي قوة أمنية عراقية أخرى، لما للفصيلين المذكورين من نفوذ وسطوة «غير قابلة» للتفاوض مهما كان الثمن! حتى أن «كتائب حزب الله» يسيطر منذ عام 2014؛ العام الذي شهد الصعود الكارثي لتنظيم داعش على منطقة شاسعة، هي منطقة «جرف الصخر» في محافظة بابل المحاذية لكربلاء، كانت مأهولة لعشائر الجنابات السنية، وما زالت الحكومات العراقية المتعاقبة غير قادرة على إقناع «الكتائب» بدخول قوات الأمن الرسمية للمنطقة، أو السماح لأهلها النازحين بالعودة إليها، على الرغم من معاناتهم الطويلة، وعلى الرغم من المطالبات و«الطنين» المتواصل الذي تطلقه شخصيات وقوى سنية كثيرة لأهداف سياسية وانتخابية!
كل نفوذ للميليشيات المدعومة من طهران بات معروفاً محلياً، وأضحى من «الحقائق القاسية» في عراق ما بعد 2003، لكن من غير المفهوم بالنسبة لقطاعات عراقية غير قليلة قضية «الربط المحكم» الذي تدعيه واشنطن بين ضرباتها الجوية لـ«ميليشيات إيران» وسبل الدفاع عن السيادة العراقية ولجم التغول الإيراني في العراق. يقول كيربي، في سياق تعليقه على ضربة فجر الاثنين: «نريد أن نوضح لإيران عواقب دعم (الميليشيات)». وينسى المتحدث الأميركي بكل تأكيد أن طهران لن تكترث كثيراً لذبح أضاحيها العراقية! ولكنه يضيف أن «الضربات كانت إجراءً ضرورياً مناسباً مدروساً للحد من مخاطر التصعيد».
ومن الواضح أن تصريحات الناطق تتعلق «حصرياً» بعلاقات الصراع المتواصل بين واشنطن وطهران التي وجدت له مكاناً «نموذجياً» داخل الأراضي العراقية. ويؤكد ذلك قول متحدث عسكري أميركي آخر إنه لا يتوقع «سقوط كثير من الضحايا من القوات المدعومة من إيران بسبب توقيت الضربة»؛ بمعنى أن التوقيت خضع لحسابات أميركية لها صلة دقيقة، واستناداً لأقوى التوقعات بملف مفاوضات واشنطن وطهران النووية، فهدفه الردع وإرغام دولة «الولي الفقيه» على القبول بمسار التفاوض، وليس إيقاع أكبر حصيلة من الخسائر بين صفوف «جنود طهران» العراقيين. ولا ننسى هنا الإشارة إلى أن التصعيد الأميركي الجديد جاء عقب تصعيد إيراني «نووي» مماثل سبق جولة مفاوضات فيينا، ويتمثل في إعلان رئيس البرلمان الإيراني، محمد باقر قاليباف، عن أن «طهران لن تقدم أبداً صوراً من داخل بعض المواقع النووية للوكالة الدولية للطاقة الذرية بسبب انتهاء أجل الاتفاق المؤقت مع الوكالة التابعة للأمم المتحدة».
إنها ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة بكل تأكيد، أن تقوم الإدارة الأميركية بقصف ميليشيات عراقية مرتبطة بإيران، ولأهداف أميركية حصرية، إذ سبق أن وجه الطيران الأميركي ضربة مماثلة، وفي المنطقة نفسها، بعد بضعة أسابيع من تولي الرئيس جو بايدن إدارة البيت الأبيض.
المؤكد أيضاً أن «جنود الولي الفقيه» في العراق لن يكفوا عن ممارسة أعمالهم المفضلة في قصف سفارة واشنطن والمعسكرات التي توجد فيها عناصر من الجيش الأميركي في العراق، مثلما فعلوا ويفعلون منذ سنوات وأشهر طويلة، ولن تردعهم الضربات الأميركية عن السير في طريق الصراع الجهنمي الذي رسمته دولة «الولي الفقيه».
لعل عبارة أن «المحللين يحللون والأحداث تقع في مكان آخر» أصدق ما يمكن استعارته لفهم أوضاع بلاد ما بين النهرين. فالولايات المتحدة تقصف «جماعات عراقية» بذريعة سعيها للردع ووقف التصعيد والنفوذ الإيراني في العراق، فيما تحرض طهران بكل ما أوتيت من قوة ضد الوجود الأميركي في العراق بذريعة الدفاع عن «حياض» الإسلام والمذهب وبلاد النهرين!
من الواضح أن صراع طهران وواشنطن داخل الأراضي العراقية يرتكز أساساً على صخرة الدفاع عن مصالحهما الخاصة، وليس شيئاً آخر ذا صلة بالعراق. وقد بات معروفاً، حتى لدى صبيان المدارس العراقيين، أن ما يجري بين واشنطن وطهران داخل أراضيهم لا صلة له بالمصالح الوطنية العراقية.
صراع واشنطن ـ طهران والمصلحة العراقية الغائبة
أهداف أميركية حصرية وراء الضربات... وإيرانية وراء هجمات الميليشيات
صراع واشنطن ـ طهران والمصلحة العراقية الغائبة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة