سرديات السجن والترويع الجسدي

بولص آدم يقدم مثالاً لها في «باصات أبو غريب»

سرديات السجن والترويع الجسدي
TT

سرديات السجن والترويع الجسدي

سرديات السجن والترويع الجسدي

من بديهيات السرد والنقد أن الأمكنة عنصر مهم من عناصر العمل السردي، وهي في دراسات ما بعد الحداثة موضوع من الموضوعات الفكرية المكتنزة بالدلالة وذات الأثر العميق في الحيوات الإنسانية المختلفة مما تجلى في كتابات باشلار وكشوفات فوكو من بعده. وفي القصة القصيرة تتجلى مشاهد السرد من خلال المكان المختار مسرحاً لتجسدها، مبرزة تفاصيلها وحيثيات دلالاتها وما يتبلور عنها من معالجات جمالية.
وكلما كان المكان محدداً كان التعاطي السردي مع الأحداث وتوجيه القصص أكثر تركيزاً وعمقاً. وإذا كان السجن بوصفه مؤسسة انضباط وعقاب هو أكثر الأمكنة تمثيلاً للترويع والترهيب بسبب ما فيه من انغلاق وعزلة، فإنه أيضاً الأكثر مداً بالأفكار التي تصلح أن تكون قصصاً مكثفة بالدرامية وغنية بالرمزية. وهذا التلاؤم بين الضيق المكاني والتكثيف الدرامي إنما يناسبه جنس القصة القصيرة. ورغم ذلك، فإن استثمار السجن قصصياً كمنطلق للأحداث ما زال قليلاً إن لم نقل نادراً لدى غالبية قصاصينا.
لعل السبب يكمن فيما تتطلبه واقعية السجن من معايشة حقيقية للتفاصيل اليومية التي تجري داخل زنازينه وردهاته، حتى أن الاعتقاد ظل سائداً بأن من يكتب قصة موضوعها السجن عليه أن يخوض مرارة الحبس ويذوق ويلات الاعتقال ومآسيه، وعندها فقط يتمكن من تحويل لحظة ما إلى مادة قصصية مشوقة فنياً وذات تأثير نفسي.
بيد أن من المهم في سرديات السجن التركيز على دلالتي السجن الواقعية والرمزية اللتين بهما نعرف أن الحبس خلف القضبان هو الحياة حين تنعدم فيها مقومات العيش. ذلك أن كلاً من السجن والحياة تتهددهما سلطتان لا مفر منهما: المراقبة التي تعني المحاسبة والتلصص والتجسس، والعقاب الذي يجعل وظيفة الحبس مضادة للحياة ونقيضاً للحرية، كما يجعل الحياة مشابهة للسجن في عدوانيته التي تستبد بالأجساد وتحطمها.
لكن كيف يوفق القاص بين إحساس السارد بالمراقبة وبين ممارسته القص معاقَباً على جريمة لم يرتكبها أو ارتكبها؟ وما المكسب المتصور للسارد أن يحققه وهو يحكي عن فاعلية العقوبة عند كل من المسجونين والسجانين؟
لعل من بديهيات اتخاذ السجن موضوعاً واقعياً ومكاناً سردياً أن يكون السجين هو هذا المركز الذي حوله تدور العناصر الأخرى، فيبدو السجين مثيراً للاهتمام القصصي بينما يغدو المجرم هو العنصر الأقل إثارة لهذا الاهتمام، وتكون العبودية هي العقوبة الأكثر قسوة من الموت في حسابات المفارقة ومقتضيات العقوبة. وكلما كانت لحظات العبودية مكثفة ومتراصة صار السارد أكثر وحدة وانعزالاً في تمثيل نفسه والتعبير عن محنته وحيداً حتى أن فكرة الظفر بالحياة والنجاة من العقاب ستبدو أكثر إخافة وإزعاجاً من فكرة الموت من دون عقاب.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن لا قوانين في السجن تهدد جهازه الرقابي، فإن واقعية الترويع ستغدو متحققة في الإساءات الجسدية، لأن لا قانون يضبطها كما لا روابط في أذهان المحكوم عليهم أفراداً أو جماعات تجمع بين المعاقبة على الجريمة والإساءة للأجساد. وهو ما نجد مثاله في قصص «باصات أبو غريب» للكاتب العراقي بولص آدم والصادرة عن دار نينوى بدمشق 2021 وقد استهلت بجملة خارج قصصية أو ميتاسردية دالة تقول: «مجموعتي القصصية هذه تمثل الكتاب الثالث من واقعيتي الوحشية».
وقد تعني الوحشية أن في الواقع ما هو فوق غرائبي أو تحت عجائبي أو ربما هما معاً كنوع من توكيد حقيقة الظلم الذي يطال السجين، ولا يصبح جزءاً من هندسة المكان فحسب، بل يغدو هذا المكان خارجاً على القانون كمؤسسة ليست للإصلاح ـ كما يفترض، بل للجنوح وفيها السجين إنسان إجرامي يحتاج دوماً سلطة عقابية تعيد تنظيم ذاته بالعقوبات وتقنن سلوكه بالقواعد الإجرائية.
هذه المفارقة جسدتها قصص بولص آدم التسع وفيها المكان واحد هو السجن والأجساد الآدمية فيه تتعرض إلى إيذاء واعتداء وإهانة وكأن الحياة هي السجن الذي لا هروب منه إلا إليه، ولا مخرج منه إلا بالدوران حوله. وهذا وحده عقاب فرضه السارد على نفسه مراقباً التجاذب الجسدي بين المتضادات ورائياً كل جسد وهو ينال عقاباً لا نهائياً مقابل الفعل الذي قام به.
وهو ما واجهه السارد السجين في قصة «العنقرجي» نائباً عن المسرودات، يتحدث بلسانها ككائنات ليست آدمية لا تعرف أن تتحرك إلا بأمر السجان (كنا خلف مطبخ السجن ننتظر السجان ليعيدنا ثانية إلى الزنزانة السابعة) ص35.
وإذا كان الإنسان مجرداً عن الفعل، فذلك يعني أنه خارج آدميته، وقد نجح السارد العنقرجي في التعبير عن هذه اللاآدمية رمزياً بالكلب الذي تتكرر صورته داخل القصة (يتربع كومة قشور البطاطا على حافة المزبلة) أو(عاد السجين إلى محله وهو يشيع الكلب بأرق النظرات وأحنها... انتصب الكلب هز ذيله ونبح) أو(لا تهتم هو مجرد كلب)، أما كلمة حيوان فلفظ يشعر السارد السجين بأنه في ظروف أخف كثيراً من غيرها وأرحم.
وما بين المساجين والسجانين وشاة بسببهم تتحول ممرات السجن وحجراته إلى أياد تصفع وأفواه تشتم وآذان تتجسس وتغدو النشرة الإخبارية نشرة إجبارية وتكون فكرة البقاء في الحبس مثل رواية طويلة من الثرثرة لا بد أن تكون لها نهاية.
حتى إذا أُطلق سراح العنقرجي وأُعطي كيس الجوت الذي يحوي أشياءه تكون المفارقة أن الإفراج ليس هو الحرية فلقد شاهد السجان يأتي معه إلى كراج السيارات، وهنا يقرر السارد الذهاب إلى النهر، مخرجاً قطعة الخبز ومطعماً إياها للنوارس (أخرجت الخبز الجاف وضعته قربي انتظرت النوارس ورحت في سابع نومة) (ص 38)، وهو ما يواجهه أيضاً رحيم في قصة «حدث ذات مرة في الممر»، متصوراً السجناء مثل السردين في علب ضخمة. أما السجن فيصفه بالسينما الهندية، حيث لحظة الوصول إلى نهاية الممر لا تعني إطلاق السراح بل تعني مزيداً من الانضباط قبالة إدارة السجن. وحين أشار إليه السجان صاحب المفاتيح بالدخول إلى الزنزانة الجديدة قال رحيم: «كان الحلم وهما وتلك أقسى لحظة» (ص 42).
ومثلما أن السجون أعدت للمعاقبة (لا للإصلاح) تغدو الحياة دستوبيا من الترهيب الجماعي بصور تحفر في الذاكرة كالوشم حتى لا نكاد نميز فكرة الجريمة عن فكرة العقاب والقصاص. وهو ما تؤكده قصة «صندوق بنيامين»، حيث الحياة تلخصها الذاكرة التي هي صندوق ينبغي ألا نغامر بفتحه (كي لا نصطدم بحقيقة كونه فارغاً، وتنتهي حكاية تلك الأشياء التي نعتقد بأنها في صناديقنا) (ص 43)، ويغدو الجنون وحده حافزاً لبنيامين على الاستمرار بطقسه الجنوني مع صندوقه، وهو يغالب الآخرين على عدم فتحه، عارفاً أن الصرخة في داخله إذا انفجرت كانت لغماً.
بينما الحياة في قصة «طعنة غامضة» عراك بالسكاكين لا بد فيه من غالب طاعن. وبالفعل طعن زياد الخائن سبهان على مرأى من الحارس وبرج المراقبة. فالسجن هو الحياة ظلاماً وعنفاً وكراهيةً وحبساً حتى ما عاد هناك فرق بين أن يكون الموت في الهواء الطلق أو في سجن انفرادي.
ولأن السجن تجسيد مادي للسلطة العقابية وطريقة رقابية للسيطرة على الأجساد، تساءل ميشيل فوكو: هل السجن مدينة عقابية أو مؤسسة إكراهية؟ وأجاب أن السجن عقاب والغاية من ورائه اثنتان: الأولى إشراك الجميع بعدو اجتماعي واحد، والثانية جعل ممارسة العقاب علنية ورسمية غير مقننة بموجب التشريع بل هي استراتيجية إصلاح مهددة بالانفراط. وهو ما نجد تمثيله واضحاً في قصة «باصات أبو غريب» التي اتخذت المجموعة منها اسمها، وفيها تظهر ثلاثة فواعل: السجان والمساجين والساحة الرصاصية، الأولان يتحركان عليها بتضاد، والثالثة منضبطة بالتضاد الذي يغلب العقاب.
وبرغم محاولة الشخصيتين أنويا وسمير الحلاوي التمرد على هذا الانضباط بأن تخيلا باصات تهبط من السماء تنقل المساجين إلى بيوتهم مباشرة (اصعد أخي استعجل نفر واحد بغداد، بغداد) بيد أن الانضباط سيطر على مشهد التجمع الصباحي في الساحة. لهذا (فضل السجان إبقاء يديه دافئتين في جيبه واكتفى بالقول: اجلس يا حيوان) (ص 50) فساحة السجن ضبطت إيقاع الأحداث لوحدها مكررة مشهد التجمع مجدداً، وكأن شيئاً لم يكن.
والتهميش هو الذي يجعل الانضباط الجسدي فعالاً، تارة باقتران الجسد بالعزل في حجرة، وتارة أخرى باقتران الجسد بالحركة في الساحات والصفوف. وبهذا تتم السيطرة على الجسد المفرد كعنصر لا أهمية لوضعه وتحريكه وإعادة تنظيمه سوى الموقع الذي يشغله والفسحة التي يغطيها وضرورة أن تجري تنقلاته بانتظام وترتيب جيدين، كما في شخصية صاحب «العلاكات» ذي الاسم الحركي (تعبان) الذي خُفض حكمه من الإعدام إلى المؤبد فصار دائم الإثارة لإشاعات العفو العام وكذلك شخصية «دعير» مطرب السجن الذي كان يبكي وهو يغني وشخصية «محمود الذهبي» حائك الكيوات الذي ظل يراقب الحمامة من شق سقف السجن وهي مستغرقة في صنع عشها فراح يحترف صنع الحكايات ويكتبها لرفاق السجن، وشخصية سامر في قصة «موجات إذاعية» الذي مات في السجن ولم ينفعه تاريخ والده عامر سائق القطار الذي أنقذ مساجين كان من الممكن أن يموتوا في القطار المتوجه بهم إلى سجن السماوة.
إن هذا التهميش والتفتيش والمراقبة والإشراف وسائل تزيد من دور السجن في توجيه العقاب سواء بعزل السجين عن العالم الخارجي أو بحرمانه من الحرية، وتجعل السجن مؤسسة كاملة وصارمة ليس لها خارج كما أنها بدون ثغرة. أما الجنوح والإصلاح فتوأمان كما يقول فوكو يتكفلان بكل أوجه الفرد وحالاته كتقوية جسده واستعداده للعمل وسلوكه اليومي وموقفه الأخلاقي وكفاءاته.
ومن ثم، تكون القصة القصيرة قادرة على الإفادة مما في التاريخ الشقي للسجن من شهادات شفهية ووثائق سرية ومذكرات تسجيلية توظف كلها في سبر آفاق تاريخ سردية السجون. وهو ما قام به القاص بولص آدم ببراعة في «باصات أبو غريب».



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.