من بديهيات السرد والنقد أن الأمكنة عنصر مهم من عناصر العمل السردي، وهي في دراسات ما بعد الحداثة موضوع من الموضوعات الفكرية المكتنزة بالدلالة وذات الأثر العميق في الحيوات الإنسانية المختلفة مما تجلى في كتابات باشلار وكشوفات فوكو من بعده. وفي القصة القصيرة تتجلى مشاهد السرد من خلال المكان المختار مسرحاً لتجسدها، مبرزة تفاصيلها وحيثيات دلالاتها وما يتبلور عنها من معالجات جمالية.
وكلما كان المكان محدداً كان التعاطي السردي مع الأحداث وتوجيه القصص أكثر تركيزاً وعمقاً. وإذا كان السجن بوصفه مؤسسة انضباط وعقاب هو أكثر الأمكنة تمثيلاً للترويع والترهيب بسبب ما فيه من انغلاق وعزلة، فإنه أيضاً الأكثر مداً بالأفكار التي تصلح أن تكون قصصاً مكثفة بالدرامية وغنية بالرمزية. وهذا التلاؤم بين الضيق المكاني والتكثيف الدرامي إنما يناسبه جنس القصة القصيرة. ورغم ذلك، فإن استثمار السجن قصصياً كمنطلق للأحداث ما زال قليلاً إن لم نقل نادراً لدى غالبية قصاصينا.
لعل السبب يكمن فيما تتطلبه واقعية السجن من معايشة حقيقية للتفاصيل اليومية التي تجري داخل زنازينه وردهاته، حتى أن الاعتقاد ظل سائداً بأن من يكتب قصة موضوعها السجن عليه أن يخوض مرارة الحبس ويذوق ويلات الاعتقال ومآسيه، وعندها فقط يتمكن من تحويل لحظة ما إلى مادة قصصية مشوقة فنياً وذات تأثير نفسي.
بيد أن من المهم في سرديات السجن التركيز على دلالتي السجن الواقعية والرمزية اللتين بهما نعرف أن الحبس خلف القضبان هو الحياة حين تنعدم فيها مقومات العيش. ذلك أن كلاً من السجن والحياة تتهددهما سلطتان لا مفر منهما: المراقبة التي تعني المحاسبة والتلصص والتجسس، والعقاب الذي يجعل وظيفة الحبس مضادة للحياة ونقيضاً للحرية، كما يجعل الحياة مشابهة للسجن في عدوانيته التي تستبد بالأجساد وتحطمها.
لكن كيف يوفق القاص بين إحساس السارد بالمراقبة وبين ممارسته القص معاقَباً على جريمة لم يرتكبها أو ارتكبها؟ وما المكسب المتصور للسارد أن يحققه وهو يحكي عن فاعلية العقوبة عند كل من المسجونين والسجانين؟
لعل من بديهيات اتخاذ السجن موضوعاً واقعياً ومكاناً سردياً أن يكون السجين هو هذا المركز الذي حوله تدور العناصر الأخرى، فيبدو السجين مثيراً للاهتمام القصصي بينما يغدو المجرم هو العنصر الأقل إثارة لهذا الاهتمام، وتكون العبودية هي العقوبة الأكثر قسوة من الموت في حسابات المفارقة ومقتضيات العقوبة. وكلما كانت لحظات العبودية مكثفة ومتراصة صار السارد أكثر وحدة وانعزالاً في تمثيل نفسه والتعبير عن محنته وحيداً حتى أن فكرة الظفر بالحياة والنجاة من العقاب ستبدو أكثر إخافة وإزعاجاً من فكرة الموت من دون عقاب.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن لا قوانين في السجن تهدد جهازه الرقابي، فإن واقعية الترويع ستغدو متحققة في الإساءات الجسدية، لأن لا قانون يضبطها كما لا روابط في أذهان المحكوم عليهم أفراداً أو جماعات تجمع بين المعاقبة على الجريمة والإساءة للأجساد. وهو ما نجد مثاله في قصص «باصات أبو غريب» للكاتب العراقي بولص آدم والصادرة عن دار نينوى بدمشق 2021 وقد استهلت بجملة خارج قصصية أو ميتاسردية دالة تقول: «مجموعتي القصصية هذه تمثل الكتاب الثالث من واقعيتي الوحشية».
وقد تعني الوحشية أن في الواقع ما هو فوق غرائبي أو تحت عجائبي أو ربما هما معاً كنوع من توكيد حقيقة الظلم الذي يطال السجين، ولا يصبح جزءاً من هندسة المكان فحسب، بل يغدو هذا المكان خارجاً على القانون كمؤسسة ليست للإصلاح ـ كما يفترض، بل للجنوح وفيها السجين إنسان إجرامي يحتاج دوماً سلطة عقابية تعيد تنظيم ذاته بالعقوبات وتقنن سلوكه بالقواعد الإجرائية.
هذه المفارقة جسدتها قصص بولص آدم التسع وفيها المكان واحد هو السجن والأجساد الآدمية فيه تتعرض إلى إيذاء واعتداء وإهانة وكأن الحياة هي السجن الذي لا هروب منه إلا إليه، ولا مخرج منه إلا بالدوران حوله. وهذا وحده عقاب فرضه السارد على نفسه مراقباً التجاذب الجسدي بين المتضادات ورائياً كل جسد وهو ينال عقاباً لا نهائياً مقابل الفعل الذي قام به.
وهو ما واجهه السارد السجين في قصة «العنقرجي» نائباً عن المسرودات، يتحدث بلسانها ككائنات ليست آدمية لا تعرف أن تتحرك إلا بأمر السجان (كنا خلف مطبخ السجن ننتظر السجان ليعيدنا ثانية إلى الزنزانة السابعة) ص35.
وإذا كان الإنسان مجرداً عن الفعل، فذلك يعني أنه خارج آدميته، وقد نجح السارد العنقرجي في التعبير عن هذه اللاآدمية رمزياً بالكلب الذي تتكرر صورته داخل القصة (يتربع كومة قشور البطاطا على حافة المزبلة) أو(عاد السجين إلى محله وهو يشيع الكلب بأرق النظرات وأحنها... انتصب الكلب هز ذيله ونبح) أو(لا تهتم هو مجرد كلب)، أما كلمة حيوان فلفظ يشعر السارد السجين بأنه في ظروف أخف كثيراً من غيرها وأرحم.
وما بين المساجين والسجانين وشاة بسببهم تتحول ممرات السجن وحجراته إلى أياد تصفع وأفواه تشتم وآذان تتجسس وتغدو النشرة الإخبارية نشرة إجبارية وتكون فكرة البقاء في الحبس مثل رواية طويلة من الثرثرة لا بد أن تكون لها نهاية.
حتى إذا أُطلق سراح العنقرجي وأُعطي كيس الجوت الذي يحوي أشياءه تكون المفارقة أن الإفراج ليس هو الحرية فلقد شاهد السجان يأتي معه إلى كراج السيارات، وهنا يقرر السارد الذهاب إلى النهر، مخرجاً قطعة الخبز ومطعماً إياها للنوارس (أخرجت الخبز الجاف وضعته قربي انتظرت النوارس ورحت في سابع نومة) (ص 38)، وهو ما يواجهه أيضاً رحيم في قصة «حدث ذات مرة في الممر»، متصوراً السجناء مثل السردين في علب ضخمة. أما السجن فيصفه بالسينما الهندية، حيث لحظة الوصول إلى نهاية الممر لا تعني إطلاق السراح بل تعني مزيداً من الانضباط قبالة إدارة السجن. وحين أشار إليه السجان صاحب المفاتيح بالدخول إلى الزنزانة الجديدة قال رحيم: «كان الحلم وهما وتلك أقسى لحظة» (ص 42).
ومثلما أن السجون أعدت للمعاقبة (لا للإصلاح) تغدو الحياة دستوبيا من الترهيب الجماعي بصور تحفر في الذاكرة كالوشم حتى لا نكاد نميز فكرة الجريمة عن فكرة العقاب والقصاص. وهو ما تؤكده قصة «صندوق بنيامين»، حيث الحياة تلخصها الذاكرة التي هي صندوق ينبغي ألا نغامر بفتحه (كي لا نصطدم بحقيقة كونه فارغاً، وتنتهي حكاية تلك الأشياء التي نعتقد بأنها في صناديقنا) (ص 43)، ويغدو الجنون وحده حافزاً لبنيامين على الاستمرار بطقسه الجنوني مع صندوقه، وهو يغالب الآخرين على عدم فتحه، عارفاً أن الصرخة في داخله إذا انفجرت كانت لغماً.
بينما الحياة في قصة «طعنة غامضة» عراك بالسكاكين لا بد فيه من غالب طاعن. وبالفعل طعن زياد الخائن سبهان على مرأى من الحارس وبرج المراقبة. فالسجن هو الحياة ظلاماً وعنفاً وكراهيةً وحبساً حتى ما عاد هناك فرق بين أن يكون الموت في الهواء الطلق أو في سجن انفرادي.
ولأن السجن تجسيد مادي للسلطة العقابية وطريقة رقابية للسيطرة على الأجساد، تساءل ميشيل فوكو: هل السجن مدينة عقابية أو مؤسسة إكراهية؟ وأجاب أن السجن عقاب والغاية من ورائه اثنتان: الأولى إشراك الجميع بعدو اجتماعي واحد، والثانية جعل ممارسة العقاب علنية ورسمية غير مقننة بموجب التشريع بل هي استراتيجية إصلاح مهددة بالانفراط. وهو ما نجد تمثيله واضحاً في قصة «باصات أبو غريب» التي اتخذت المجموعة منها اسمها، وفيها تظهر ثلاثة فواعل: السجان والمساجين والساحة الرصاصية، الأولان يتحركان عليها بتضاد، والثالثة منضبطة بالتضاد الذي يغلب العقاب.
وبرغم محاولة الشخصيتين أنويا وسمير الحلاوي التمرد على هذا الانضباط بأن تخيلا باصات تهبط من السماء تنقل المساجين إلى بيوتهم مباشرة (اصعد أخي استعجل نفر واحد بغداد، بغداد) بيد أن الانضباط سيطر على مشهد التجمع الصباحي في الساحة. لهذا (فضل السجان إبقاء يديه دافئتين في جيبه واكتفى بالقول: اجلس يا حيوان) (ص 50) فساحة السجن ضبطت إيقاع الأحداث لوحدها مكررة مشهد التجمع مجدداً، وكأن شيئاً لم يكن.
والتهميش هو الذي يجعل الانضباط الجسدي فعالاً، تارة باقتران الجسد بالعزل في حجرة، وتارة أخرى باقتران الجسد بالحركة في الساحات والصفوف. وبهذا تتم السيطرة على الجسد المفرد كعنصر لا أهمية لوضعه وتحريكه وإعادة تنظيمه سوى الموقع الذي يشغله والفسحة التي يغطيها وضرورة أن تجري تنقلاته بانتظام وترتيب جيدين، كما في شخصية صاحب «العلاكات» ذي الاسم الحركي (تعبان) الذي خُفض حكمه من الإعدام إلى المؤبد فصار دائم الإثارة لإشاعات العفو العام وكذلك شخصية «دعير» مطرب السجن الذي كان يبكي وهو يغني وشخصية «محمود الذهبي» حائك الكيوات الذي ظل يراقب الحمامة من شق سقف السجن وهي مستغرقة في صنع عشها فراح يحترف صنع الحكايات ويكتبها لرفاق السجن، وشخصية سامر في قصة «موجات إذاعية» الذي مات في السجن ولم ينفعه تاريخ والده عامر سائق القطار الذي أنقذ مساجين كان من الممكن أن يموتوا في القطار المتوجه بهم إلى سجن السماوة.
إن هذا التهميش والتفتيش والمراقبة والإشراف وسائل تزيد من دور السجن في توجيه العقاب سواء بعزل السجين عن العالم الخارجي أو بحرمانه من الحرية، وتجعل السجن مؤسسة كاملة وصارمة ليس لها خارج كما أنها بدون ثغرة. أما الجنوح والإصلاح فتوأمان كما يقول فوكو يتكفلان بكل أوجه الفرد وحالاته كتقوية جسده واستعداده للعمل وسلوكه اليومي وموقفه الأخلاقي وكفاءاته.
ومن ثم، تكون القصة القصيرة قادرة على الإفادة مما في التاريخ الشقي للسجن من شهادات شفهية ووثائق سرية ومذكرات تسجيلية توظف كلها في سبر آفاق تاريخ سردية السجون. وهو ما قام به القاص بولص آدم ببراعة في «باصات أبو غريب».
سرديات السجن والترويع الجسدي
بولص آدم يقدم مثالاً لها في «باصات أبو غريب»
سرديات السجن والترويع الجسدي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة