هل سيصبح القضاء الأميركي أكثر صرامة مع عناصر الشرطة؟

TT

هل سيصبح القضاء الأميركي أكثر صرامة مع عناصر الشرطة؟

الرئيس الأسبق باراك أوباما قال في 20 أبريل (نيسان): «لو كنا صادقين نعلم أن العدالة الحقيقية تذهب أبعد بكثير من حكم واحد في قضية واحدة». أُدين الشرطي الأبيض ديريك شوفين بتهمة قتل رجل أربعيني أسود اختناقاً في 25 مايو (أيار) 2020 في مينيابوليس، في ختام محاكمة كانت موضع اهتمام كبير وصدرت العقوبة بحقه في هذا الملف، أمس (الجمعة). ولدى النطق بالحكم، أشاد محامي أسرة فلويد بـ«المنعطف التاريخي»، إذ إنه من النادر أن يحاكم شرطي في الولايات المتحدة.
وبدا التغيير ظاهراً في النظام القضائي الأميركي الذي أصبح أقل تردداً في توجيه التهمة إلى عناصر الشرطة منذ محاكمة الشرطي الذي قتل جورج فلويد. ورغم أن قوات الأمن تقتل ما يعادل ألف شخص سنوياً أثناء ممارسة مهامها، وجهت إلى 110 شرطيين فقط تهمة القتل بين عامي 2005 و2015 وفقاً لتعداد لجامعة بولينغ غرين. وبين هؤلاء أُدين 42 شرطياً فقط خمسة منهم بتهمة القتل. ويقول سيث ستاوتون العنصر السابق في قوات الأمن الذي أصبح أستاذاً في الحقوق في جامعة كارولاينا الجنوبية لوكالة الصحافة الفرنسية إن الإطار القانوني «مواتٍ للغاية» للشرطيين الأميركيين ويمنحهم «هامش خطأ كبيراً». في الواقع يحق للشرطيين القتل طالما أن استخدام القوة «منطقي» في مواجهة أي تهديد. إضافة إلى ذلك غالباً ما يتولى زملاء لهم التحقيق وفقاً لقواعد «تؤمن حماية» كما يذكر هذا الخبير الذي أدلى بشهادته خلال محاكمة شوفين. وأوضح أنه على المستوى القضائي، للمدعين العامين المحليين «علاقة عمل وثيقة مع الشرطة»، وبالتالي يترددون في إطلاق ملاحقات، خصوصاً أنهم يدركون أنه يصعب الانتصار في محاكمات بحق شرطيين لأن هيئة المحلفين غالباً ما «تميل لمنحهم فرضية الشك». لكن يبدو أن تغييراً يرتسم في الأفق منذ محاكمة شوفين.
في أبريل وجهت إلى شرطية في ضاحية مينيابوليس تهمة القتل غير العمد بعد أن أردت شاباً أسود خلال عملية روتينية للتدقيق في الهويات. وفي مايو، وجهت إلى شرطي في فيرجينيا تهمة قتل رجل داخل سيارته وثلاثة شرطيين في ولاية واشنطن تهمة قتل رجل أسود توسل إليهم كما جورج فلويد، مؤكداً «أنه يختنق». في يونيو (حزيران)، وُجهت إلى ثلاثة شرطيين في هاواي تهمة القتل أو التآمر بهدف القتل لإطلاق النار على فتى في الـ16، حتى في المحاكم بات هذا التغيير ملموساً.
ودانت هيئة محلفين في ألاباما شرطياً قتل قبل ثلاث سنوات رجلاً كان يعاني من ميول انتحارية. وحكمت محكمة فيدرالية على شرطي في سانت بول بالسجن ست سنوات بعد أن انهال ضرباً على رجل خمسيني أسود دون سبب. ويضيف سيث ستاوتون: «لدي الانطباع بأن المدعين العامين باتوا يدرسون هذه الملفات عن كثب أكثر» وأن «المحلفين ربما باتوا يصدقون أقل رواية الشرطيين».
تقول غلوريا براون مارشال، الأستاذة في القانون الدستوري في جامعة مدينة نيويورك لوكالة الصحافة الفرنسية، إن «المدعين العامين يتعرضون لضغوط» بسبب «الأدلة في مقاطع الفيديو والمظاهرات والتغطية الإعلامية» لعنف الشرطة. وتضيف الأستاذة الأميركية من أصل أفريقي: «لكن حذارِ من أن نرى في هذه الملفات دليلاً على توجُّه أساسي»، موضحة أنه لا تطلق دائماً ملاحقات قضائية في ملفات غالبية الضحايا الذين يقضون على أيدي الشرطة.
بالتالي، لم توجه أي تهمة إلى الشرطيين الذين قتلوا أندرو براون جونيور في كارولاينا الشمالية في 21 أبريل، وهو ملف أثار استياء كبيراً في البلاد.
وترى براون مارشال أنه يجب ألا نعتمد على حسن نية بعض المدعين، بل يجب إجراء إصلاحات بنيوية لمعالجة بشكل نهائي إفلات قوات الأمن من العقاب. وتضيف أن «النظام فاسد للغاية منذ زمن بعيد. نحتاج إلى إصلاح العدالة الجنائية على المستوى الوطني». وتوضح: «الملاحقات بحق ديريك شوفين كانت الاستثناء. السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يمكننا تطبيقها في أنحاء البلاد كافة؟».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟