معرض لماتيس... الابن لا الأب

تاجر اللوحات الذي قاد رسامي أوروبا إلى نيويورك

من لوحات الأب راقصة في المقعد الأصفر
من لوحات الأب راقصة في المقعد الأصفر
TT
20

معرض لماتيس... الابن لا الأب

من لوحات الأب راقصة في المقعد الأصفر
من لوحات الأب راقصة في المقعد الأصفر

يقام في متحف «ماتيس» في مدينة نيس، جنوب فرنسا، معرض لمقتنيات بيير ماتيس، ابن الرسام الشهير هنري ماتيس (1869 ـ 1954) الذي يعد أحد أقطاب المدرسة الوحشية في الفن. وكان بيير قد ترك فرنسا إلى نيويورك، عام 1924 ليعمل تاجراً للوحات الأوروبية. وهناك افتتح صالة للعرض تميزت بالرقي واستقطبت فنانين أميركيين مشاهير.
لم يكن من السهل على بيير، أحد ثلاثة أنجال لماتيس، أن ينحت اسمه الخاص بمنأى عن وصاية أبيه. لكنه عرف كيف يستخدم الاسم وينشره في الجانب الآخر من المحيط. لقد فضل الابتعاد عن فرنسا ووصل إلى أميركا لا يحمل سوى لقب العائلة وثقافة كان حريصاً على تحصيلها. مع هذا تمكن من تأسيس صالة للعرض الفني في عز الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالولايات المتحدة عام 1929. وقد أوصلت تلك الصالة، حتى وفاته عام 1989، رسالتها كواجهة للفن التشكيلي الأوروبي في نيويورك، ولأصالة القارة العجوز إزاء العالم الجديد. لقد قدم ماتيس الابن نظرة خاصةً لما يمكن أن يضيفه الفنانون الصادقون للمشهد العالمي.
وقد اشتهر ماتيس الابن بنحوله وأناقة قمصانه البيض وسراويله ذات الكسرات عند الخصر. وهو قد استأجر مكتباً مؤلفاً من غرفتين في الطابق السابع عشر من عمارة «فولر»، عند ناصية جادة ماديسون. وكتب لأبيه يقول إنه سعيد لأن نوافذ مكتبه تطل على سنترال بارك، من جهة، وبرج «ريتز» من الجهة الثانية، وهي تسمح بإضاءة جيدة. وإن الإضاءة ضرورية لمن ينوي استخدام المكان لعرض اللوحات. وفي الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1931، قدمت صالة بيير ماتيس معرضاً جماعياً بعنوان «رسوم»، ضم أعمال براك وران ودافي ولورسا وبيكاسو وروال وروسو، بالإضافة إلى رسوم لوالده هنري ماتيس.
بعد رحيل الابن، انتقلت وثائقه وملفات صالته إلى محفوظات مكتبة مورغان وبقيت دون مراجعة. وهي تتضمن 829 رسالة، عكفت على دراستها مديرة متحف ماتيس، كلودين غرامون، طوال ثلاث سنوات. والمعرض هو من ثمار ذلك الجهد، ويرى غرامون أن ماتيس كان يبدو متحفظاً للمحيطين به لكنه كان بالغ الصراحة في رسائله المتبادلة مع ابنه، بل إنه كان يجد الوقت ليكتب له كل يوم. ولما طلق هنري ماتيس زوجته أميلي باراير عام 1939، بعد أربعين عاماً من الحياة المشتركة، صار الابن بمثابة الكاتم لأسرار أبيه، ومنها علاقته مع الروسية الجميلة ليديا دلكتورسكايا التي كانت مساعدته و«الموديل» الذي يرسمه.
بعد مكتبه في حي مانهاتن تنقل بيير ماتيس بين ستة عناوين مختلفة. وكان ذا مظهر لافت للنظر، وشخصية متفردة تتحدث بصوت جاف. وكان يحتفظ بمفكرة جلدية من توقيع «هيرميس» ويكتب فيها ملاحظات تخصه، ومنها أنه يعتبر خوان ميرو فنانه المفضل. وقد نظم عدة معارض للرسام الإسباني في نيويورك، بل دعاه للإقامة والعمل فيها، الأمر الذي لم يستجب له ميرو.
ورغم بداياته المتعثرة مالياً نجح ماتيس الابن في نيل شهرة طيبة منذ أواسط ثلاثينات القرن الماضي. وقد تمكن من تنظيم معرض لوالده في متحف الفن الحديث في نيويورك، وذلك رغم الأزمة الاقتصادية،.
وكان الأب قد زار تاهيتي ثم حل في نيويورك ثلاث مرات لكي ينجز أعمالاً لحساب جامع اللوحات الأميركي بارنز. والحقيقة أن الابن كان الجسر الذي عبر عليه فنانون أوروبيون ولاتينيون كبار إلى السوق الأميركية، فهو أول من نظم معارض لجيورجيو دي شيريكو وأندريه ماسون والرسام السوريالي التشيلي روبيرتو ماتا والكوبي وفريدو لام، كما استقبل شاغال لدى حلوله في نيويورك عام 1941. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، استقدم إلى نيويورك أندريه بروتون ومارسيل دوشان. ورغم تقاعده فإنه عرض أعمالاً لإيف تانغي الذي كان زميله في ثانوية مونتين في باريس.وعند رحيله، كانت مخازن صالته تضم 3500 لوحة. لذلك لم يكن يوافق على بيعها كيفما اتفق بل ينتظر أن تحقق المبالغ التي تليق بأصحابها. واليوم فإن معظم لوحات خوان ميرو الموجودة في المتاحف الأميركية قد مرت من خلال بيير ماتيس. وبهذا فإن استرجاع مذكراته ورسائله ومقتنياته وأدلة معارضة تبقى جزءاً مهماً من تاريخ الفن التشكيلي في القرن العشرين.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT
20

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».