ابن ماركيز يتذكر أبويه

رودريغو يصدر كتاباً عن غابو ومرسيديس

ماركيز مع ابنه رودريغو
ماركيز مع ابنه رودريغو
TT

ابن ماركيز يتذكر أبويه

ماركيز مع ابنه رودريغو
ماركيز مع ابنه رودريغو

حكى غابرييل غارسيّا ماركيز يوماً أن أصعب اللحظات التي مرّ بها خلال كتابته رائعته «100 عام من العزلة» في ستينات القرن الماضي، كانت عندما نقر على آلته الكاتبة الجملة التي أودت بحياة الكولونيل أوريليانو بونديّا، وخرج من مكتبه يبحث عن زوجته مرسيديس في البيت الذي كان يسكنه في العاصمة المكسيكية، ليقول لها مغموماً وشبه منهار: «قتلت الكولونيل».
وفي الكتاب الذي وضعه رودريغو ماركيز بعنوان «غابو ومرسيديس... وداع» يتذكّر الابن الذي تربطني به صداقة تعود إلى تسعينات القرن الماضي كيف عاش والداه تلك اللحظة المؤلمة، ويقول: «أمي التي كانت وحدها تعرف ماذا يعني له ذلك القرار، قامت إليه وغمرته وتعانقا طويلاً بصمت بعد أن أبلغها النبأ الحزين».
أكثر من مرة سمعت رودريغو، وهو مخرج سينمائي، يقول إن والدته، مرسيديس برشا، المتحدّرة من عائلة لبنانية هاجرت إلى مصر، واستقرّت في بور سعيد، قبل أن تهاجر إلى كولومبيا، هي المرساة الأساس لتلك العائلة والشجرة الوارفة التي كان يستظلّها والده، ويبوح لها وحدها بهواجسه وأسراره.
رقيق جداً ومؤثّر وداع الابن في هذا الكتاب لوالده الذي رحل في العام 2014 ولوالدته التي غابت بصمت وبعيداً عن الأضواء في صيف العام الماضي. يقول رودريغو: «كان والدي يتذمّر دوماً من أن أشدّ ما يُكره في الموت هو كونه الحدث الوحيد في حياته الذي لن يتمكن أبداً من الكتابة عنه»، مازجاً تفاصيل الأيام الأخيرة في حياة والديه بوقائع الموت الكثيرة التي برع ماركيز في وصفها، مثل وفاة بطل تحرير أميركا اللاتينية سيمون بوليفار في رواية «الجنرال في متاهته»، أو يوم انطفأت أورسولا أيغواران في «100 عام من العزلة» عشيّة عيد الجمعة الحزينة، نفس اليوم الذي رحل فيه صاحب «وقائع موت معلن».
ولا يجد رودريغو صعوبة في استحضار تلك الوقائع العائلية ومشاهد الموت التي وصفها والده في رواياته الخالدة، ويقول: «كان الموت هاجساً حاضراً عند والدي على الدوام، كما هو بالنسبة لمعظم الكتّاب على ما أعتقد. هاجس النهايات التي ترسم الإطار الأخير للحياة وتكتب خلاصة التجارب التي نعيشها».
وينكبّ رودريغو منذ سنوات على نقل بعض أعمال أبيه إلى السينما في مشروعات ضخمة، مثل رواية «وقائع اختطاف»، التي يذكر ماركيز في مذكراته أنه تعاقد مع 12 طالباً في كلية الصحافة والإعلام ليجمعوا له معلومات وتفاصيل عن الحادثة، التي تنتجها شركة أمازون، ويشرف هو على الإخراج وتنفيذ الإنتاج، والسلسلة التي تقوم بإعدادها شركة نتفليكس عن «100 عام من العزلة»، التي ما زالت في مراحلها الإعدادية. ويجدر التذكير بأن رودريغو تتلمذ سينمائياً على يد والده الذي أسّس المعهد الدولي الشهير للسينما في كوبا، إلى جانب عدد من المخرجين الأميركيين اللاتينيين، وكان لسنوات واحداً من أساتذته.
ورغم الشهرة الواسعة التي كان يتمتع بها ماركيز، والصداقات الكثيرة التي ربطته بمشاهير السياسة والأدب والفنون، كانت العائلة تحرص دائماً على عدم الكشف عن خصوصياتها، وكانت الوالدة هي كاتمة الأسرار التي تردد دائماً: «لسنا شخصيات عمومية»، وتتكفّل بعدم ظهور أخبار الأسرة في الصحف التي كانت تراقب عن كثب كل تحركاتها. ويعترف رودريغو أنه بدأ بكتابة هذه المذكرات منذ سنوات، وكان يعرف أنه لن ينشرها طالما والدته على قيد الحياة، لذلك جاء كتابه هذا بمثابة نافذة صغيرة على الألم في منزل والديه خلال السنوات الأخيرة من حياة غابو، ويقول: «أعتقد أنهما كانا سيشعران بالسعادة والاعتزاز لقراءته، لكني ما كنت لأنجو من انتقادات والدتي».
ومن «الأسرار» التي يكشفها رودريغو في كتابه، أن والده عاش في سنواته الأخيرة حالة شبيهة بالتي نقلها الممثل المعروف أنطوني هوبكينز في فيلمه الأخير «الأب»؛ حيث يقوم بدور رجل كهل، متوتر ومتلهف لأنه بدأ يفقد ذاكرته ويشعر بالضياع بين أفراد عائلته التي لم يعد يتعرّف على أفرادها. «ما الذي تفعله هنا هذه المرأة التي تعطي الأوامر في بيتي، وأنا لا أعرفها؟». وزوجته مرسيديس قال لي عنها يوماً، عندما دهشت لقوله؛ إنها تتحدّر من أصول لبنانية ومصرية: «يكفي أن تنظر إلى مسحة أبو الهول على وجهها». ويقول رودريغو إن والده، عندما لم يعد قادراً على التعرّف على ولديه، كان يسأل الخادمة: «من هم أولئك الأشخاص في الغرفة المجاورة؟». وغالباً ما كان يردد: «هذا ليس بيتي. أريد الذهاب إلى بيتي، إلى بيت أبي»، عندما كان يريد العودة إلى البيت، لكن ليس إلى بيت أهله، بل إلى بيت جدّه الكولونيل الذي عاش في كنفه حتى الثامنة من عمره، ومنه استلهم شخصية الكولونيل أورليانو بونديّا في «100 عام من العزلة».
لكن الأيام الأخيرة في حياة ماركيز كانت أيضاً أيام العودة إلى صفاء مرحلة الطفولة في مسقط رأسه «آراكاتاكا» عام 1927. فهو كان بوسعه أن يردّد غيباً قصائد كاملة لشعراء العصر الذهبي الإسباني، لكنه عندما فقد تلك القدرة بقي يتذكّر الأغاني التي كان يرددها صغيراً في القرية برفقة جدّه، ويطلب الاستماع إلى الموسيقى الشعبية التقليدية في المنطقة حيث أمضى طفولته على الساحل الكولومبي. ويروي رودريغو في كتابه: «في الأشهر الأخيرة من حياته، عندما لم يعد يتذكّر شيئاً، كانت تتقد عيناه عندما يسمع مطلع مقطوعة من تلك الموسيقى»، ثم يضيف: «وفي الأيام الأخيرة كانت الممرّضة تضع تلك المقطوعات بأعلى صوت في المنزل، كما لو كانت أغاني المهد لوداعه. لا شيء مثل تلك الموسيقى يعيدني إلى حياته».
ويروي رودريغو أن المرحلة الأخيرة من حياة والده كانت أسهل، إذ «إن المرحلة التي سبقتها كانت صعبة جداً ؛ حيث كان يدرك أنه بدأ يفقد الذاكرة ويتملكّه القلق والتلهّف. أما المرحلة الأخيرة، على حزنها، فكانت هادئة. كان هو هادئاً، لا يشعر بالقلق، هائماً لا يتذكّر أموراً كثيرة».
الفصل الأخير من الكتاب يخصصه رودريغو لوالدته مرسيديس التي يطلق عليها «غابا»، لأنها كانت الزوجة والأم وربّة المنزل، والتي أدارت النجاح الباهر الذي حققه والده، رغم أن دراستها توقفت عند المرحلة الثانوية. وفي واحد من أجمل مقاطع الكتاب، يروي رودريغو كيف انفجر هو وشقيقه غونزالو من الضحك يوماً عندما كانا في المنزل برفقة والدته بعد وفاة غابو، لمّا سمعا الرئيس المكسيكي يتحدث عن العائلة، ويقول: «الولدان والأرملة»، فهبّت والدته من مقعدها مهددة بقولها: «غداً سأقول لأول صحافي أصادفه إني على وشك الزواج. أنا لست أرملة. أنا مرسيديس».
توفّيت مرسيديس صيف العام الماضي في ذروة الجائحة، بعيداً من الأضواء والمعجبين الذين بكوا زوجها يوم رحيله. لكنها، على غرار غابو، كانت ستطلب من ابنها في حال قرّر أن يروي وفاتها، أن يترك القرّاء في حداد عميق وحزين. يقول رودريغو إنه في الأيام التي تلت رحيل أمه، كان ينتظر مكالمة منها تقول فيها: «اجلس بجانبي، وأخبرني كيف كان موتي. أخبرني بهدوء وبكل التفاصيل».


مقالات ذات صلة

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يسعى «معرض جازان للكتاب» خلال الفترة بين 11 و17 فبراير 2025 إلى إبراز الإرث الثقافي الغني للمنطقة.

«الشرق الأوسط» (جيزان)
يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر
TT

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث؛ لكنه يتوقف بشكل مفصَّل عند تجربة نابليون بونابرت في قيادة حملة عسكرية لاحتلال مصر، في إطار صراع فرنسا الأشمل مع إنجلترا، لبسط الهيمنة والنفوذ عبر العالم، قبل نحو قرنين.

ويروي المؤلف كيف وصل الأسطول الحربي لنابليون إلى شواطئ أبي قير بمدينة الإسكندرية، في الأول من يوليو (تموز) 1798، بعد أن أعطى تعليمات واضحة لجنوده بضرورة إظهار الاحترام للشعب المصري وعاداته ودينه.

فور وصول القائد الشهير طلب أن يحضر إليه القنصل الفرنسي أولاً ليستطلع أحوال البلاد قبل عملية الإنزال؛ لكن محمد كُريِّم حاكم الإسكندرية التي كانت ولاية عثمانية مستقلة عن مصر في ذلك الوقت، منع القنصل من الذهاب، ثم عاد وعدل عن رأيه والتقى القنصل الفرنسي بنابليون، ولكن كُريِّم اشترط أن يصاحب القنصل بعض أهل البلد.

تمت المقابلة بين القنصل ونابليون، وطلب الأول من الأخير سرعة إنزال الجنود والعتاد الفرنسي؛ لأن العثمانيين قد يحصنون المدينة، فتمت عملية الإنزال سريعاً، مما دعا محمد كُريِّم إلى الذهاب للوقوف على حقيقة الأمر، فاشتبك مع قوة استطلاع فرنسية، وتمكن من هزيمتها وقتل قائدها.

رغم هذا الانتصار الأولي، ظهر ضعف المماليك الذين كانوا الحكام الفعليين للبلاد حينما تمت عملية الإنزال كاملة للبلاد، كما ظهر ضعف تحصين مدينة الإسكندرية، فسقطت المدينة بسهولة في يد الفرنسيين. طلب نابليون من محمد كُريِّم تأييده ومساعدته في القضاء على المماليك، تحت دعوى أنه -أي نابليون- يريد الحفاظ على سلطة العثمانيين. ورغم تعاون كُريِّم في البداية، فإنه لم يستسلم فيما بعد، وواصل دعوة الأهالي للثورة، مما دفع نابليون إلى محاكمته وقتله رمياً بالرصاص في القاهرة، عقاباً له على هذا التمرد، وليجعله عبرة لأي مصري يفكر في ممانعة أو مقاومة نابليون وجيشه.

وهكذا، بين القسوة والانتقام من جانب، واللين والدهاء من جانب آخر، تراوحت السياسة التي اتبعها نابليون في مصر. كما ادعى أنه لا يعادي الدولة العثمانية، ويريد مساعدتهم للتخلص من المماليك، مع الحرص أيضاً على إظهار الاحترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين؛ لكنه كان كلما اقتضت الضرورة لجأ إلى الترويع والعنف، أو ما يُسمَّى «إظهار العين الحمراء» بين حين وآخر، كلما لزم الأمر، وهو ما استمر بعد احتلال القاهرة لاحقاً.

ويذكر الكتاب أنه على هذه الخلفية، وجَّه نابليون الجنود إلى احترام سياسة عدم احتساء الخمر، كما هو معمول به في مصر، فاضطر الجنود عِوضاً عن ذلك لتدخين الحشيش الذي حصلوا عليه من بعض أهل البلد. ولكن بعد اكتشاف نابليون مخاطر تأثير الحشيش، قام بمنعه، وقرر أن ينتج بعض أفراد الجيش الفرنسي خموراً محلية الصنع، في ثكناتهم المنعزلة عن الأهالي، لإشباع رغبات الجنود.

وفي حادثة أخرى، وبعد أيام قليلة من نزول القوات الفرنسية إلى الإسكندرية، اكتشف القائد الفرنسي كليبر أن بعض الجنود يبيعون الملابس والسلع التي حملها الأسطول الفرنسي إلى السكان المحليين، وأن آخرين سلبوا بعض بيوت الأهالي؛ بل تورطت مجموعة ثالثة في جريمة قتل سيدة تركية وخادمتها بالإسكندرية، فعوقب كل الجنود المتورطين في هذه الجريمة الأخيرة، بالسجن ثلاثة أشهر فقط.

يكشف الكتاب كثيراً من الوقائع والجرائم التي ارتكبها جنود حملة نابليون بونابرت على مصر، ويفضح كذب شعاراته، وادعاءه الحرص على احترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين.

لم تعجب هذه العقوبة نابليون، وأعاد المحاكمة، وتم إعدام الجنود المتورطين في هذه الحادثة بالقتل أمام بقية الجنود. وهكذا حاول نابليون فرض سياسة صارمة على جنوده، لعدم استفزاز السكان، وكان هذا جزءاً من خطته للتقرب من المصريين، وإرسال رسائل طمأنة إلى «الباب العالي» في الآستانة.

وكان من أول أعمال نابليون في الإسكندرية، وضع نظام حُكم جديد لها، استند إلى مجموعة من المبادئ، منها حرية الأهالي في ممارسة شعائرهم الدينية، ومنع الجنود الفرنسيين من دخول المساجد، فضلاً عن الحفاظ على نظام المحاكم الشرعية، وعدم تغييرها أو المساس بقوانينها الدينية، وكذلك تأليف مجلس بلدي يتكون من المشايخ والأعيان، وتفويض المجلس بالنظر في احتياجات السكان المحليين.

ورغم أن بعض بنود المرسوم تُعدُّ مغازلة صريحة لمشاعر السكان الدينية، فإن بنوداً أخرى تضمنت إجراءات شديدة القسوة، منها إلزام كل قرية تبعد ثلاث ساعات عن المواضع التي تمر بها القوات الفرنسية، بأن ترسل من أهلها رُسلاً لتأكيد الولاء والطاعة، كما أن كل قرية تنتفض ضد القوات الفرنسية تُحرق بالنار.

وفي مقابل عدم مساس الجنود الفرنسيين بالمشايخ والعلماء والقضاة والأئمة، أثناء تأديتهم لوظائفهم، ينبغي أن يشكر المصريون الله على أنه خلصهم من المماليك، وأن يرددوا في صلاة الجمعة دعاء: «أدام الله إجلال السلطان العثماني، أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك، وأصلح حال الأمة المصرية».