دوستويفسكي وكازانتزاكيس وجواد سليم في عيون زوجاتهم

شهادات «نسوية» عن التكلفة الباهظة للاقتران بالمبدعين

لورنا وجواد سليم
لورنا وجواد سليم
TT

دوستويفسكي وكازانتزاكيس وجواد سليم في عيون زوجاتهم

لورنا وجواد سليم
لورنا وجواد سليم

لطالما بدا الإبداع الأدبي والفني ضرباً من الجنون واللا سوية و«الانحراف» السلوكي. وإذا كانت هذه النظرة تنطبق على الكتاب والفنانين بوجه عام، فهي تأخذ صورة أكثر وضوحاً بالنسبة لأولئك الذين يخرجون عن النصوص والمفاهيم السائدة، ليقيموا ممالكهم فوق أرضٍ مأهولة بالجدة والمغايرة واللايقين. ولأن الموهبة وحدها لا تكفي للوصول بتلك المغامرة إلى ذراها الأخيرة، فإن معظم المبدعين الكبار يجدون أنفسهم مجبرين على الانكفاء إلى عزلاتهم المغلقة وعوالمهم الباطنية للتنقيب عن أثمن ما في دواخلهم من كنوز. فهم يحتاجون لكي يذهبوا بعيداً في المغامرة إلى كامل حضورهم في العالم، وإلى كامل حصتهم من الحرية والهواء والنزق والحب والشغف بالحياة. ولأنهم كذلك، فقد بدوا على امتداد الأزمنة عصيين على الامتثال والتدجين والانضواء التقليدي في كنف المؤسسات.
من هذا المنطلق يمكن أن نفهم السبب الحقيقي الذي دفع كثيرين منهم إلى إيثار الحب على الزواج، حيث يرمز الأول إلى زمن «الاشتداد» الضاري، فيما يرمز الثاني إلى زمن «الامتداد» الممل، على حد تعبير صادق جلال العظم. وبما أن وضع التجارب الزوجية للمبدعين في خانة واحدة هو نوع من التعسف ومجافاة الحقيقة، فقد آثرت عبر هذه المقالة، والمقالة التي ستليها، أن أترك هذه المهمة في عهدة النساء اللواتي كتبن بأنفسهن سيراً ومذكرات واعترافات مختلفة عن علاقاتهن بأزواجهن المبدعين، ممن تشاطرن معهم حيواتٍ وسنوات عيش بدت، على تفاوت مسراتها وغصاتها، أقرب إلى «الرقص مع الذئاب» منها إلى أي شيء آخر!

مذكرات أنّا غرغوريغنا
«لم أفكر يوماً في كتابة المذكرات، فأنا أفتقر إلى الموهبة الأدبية، وكنت طوال عمري مشغولة بإصدار مؤلفات زوجي الراحل»، تقول أنّا غريغوريغنا، زوجة دوستويفسكي الثانية، في مقدمة الكتاب الذي عرضت من خلاله بعضاً من سيرتها مع صاحب «الجريمة والعقاب». وهي تعترف في الوقت ذاته بأن ما دفعها إلى الكتابة هو تدهور صحتها، وخوفها من أن يضيع مع رحيلها كثير من التفاصيل والوقائع التي قد يهتم القراء بمعرفتها وكشف النقاب عنها.
على أن عدم انتساب غريغوريغنا إلى أندية الكتابة وعالم التأليف لم يمنعها من تقديم صورة وافية عن المجتمع الروسي في أواسط القرن التاسع عشر، وما تخلله من اضطرابات سياسية واجتماعية، وعن وجوه الاستبداد القيصري التي أودت بحياة عدد من الكتاب المؤازرين للثورة، من مثل بوشكين وليرمنتوف، فيما استطاع دوستويفسكي من جهته أن يفلت بأعجوبة من مصير مماثل. وإذا كانت نجاة الكاتب المناهض لنظام الرق والاستبداد القيصري من الحكم بإعدامه قد أسهمت في رفع منسوب توتره النفسي والمرضي، فإنها أسهمت من جهة أخرى -كما ترى الزوجة- في زيادة تعلقه بالحياة، وتطوير تجربته الروائية.
ويُحسب للكاتبة أنها لم تشأ الخروج خالية الوفاض من الزواج غير المتكافئ بينها وبين صاحب «الإخوة كارامازوف»، بعد أن عملت في البداية مساعدة له في تدوين رواياته، بل عرفت كيف تفيد من ثقافته الواسعة وثروته التعبيرية وطريقته في السرد. كما حاولت -قدر استطاعتها- تقديم بورتريه مقنع تفصيلي عن شريك حياتها «ذي الوجه الشاحب كوجوه المرضى» الذي يتفاوت بؤبؤا عينيه في اللون والاتساع، بحيث يكاد أحدهما يحتل فضاء العين ويأتي على معظم القزحية بفعل التأثير البالغ لدواء نوبات الصرع. غير أننا لن نعثر أبداً في مذكرات أنّا غريغوريغنا على ما يشي بأي شعور بالمنافسة أو الصراع الضمني بينها وبين زوجها الكاتب، ولن نعثر بالمقابل على كل ما يتصل بوجوه العلاقة العاطفية والجسدية بين الزوجين، بل إن الوجه الأمومي لأنّا الطافح بالحنو والحدب والتفاني في خدمة الزوج يطغى بشكل واضح على صورتها الأنثوية، ويكاد يحجبها بشكل كامل.
لكن إقرار صاحبة المذكرات بعدم انتسابها إلى الوسط الأدبي في مجتمع القرن التاسع عشر الروسي لم يمنعها من إظهار معرفتها الوثيقة بتجربة دوستويفسكي، ومن الكشف عن بعض الخيوط الخفية التي تربط بين الواقعي والمتخيل في كثير من أعماله، فهي تشير إلى أن في رواية «المقامر» كثيراً من شخصية زوجها الذي كان مولعاً بهذه اللعبة الخطرة التي أفقدته كل ما جناه في حياته الشاقة من أموال. كما تطلعنا الكاتبة على أن زوجها قد اتخذ من مربية ابنه الأصغر نموذجاً شبه كامل لشخصية العجوز التي تتصدق للكنيسة عن روح ابنها الغائب في رواية «الإخوة كارامازوف»، إضافة إلى شحن الرواية المذكورة ببعض هذيانات زوجته الأولى المتأتية عن وفاة ابنهما ألكسي. ومع أن أنّا تشير إلى العلاقة الوثيقة التي جمعت بين دوستويفسكي وتولستوي، فإنها تفاجئ قراءها بالإشارة إلى أن القدرات الخطابية الهائلة للأول هي التي دفعت الثاني إلى التهرب من إحدى المناسبات السياسية الحاشدة خشية أن تضعه المقارنة مع زميله الساحر «في موقف محرج لا تُحمد عقباه».

إيليني ساميوس في ظل كازانتزاكيس
تعترف الكتبة اليونانية إيليني ساميوس، من جهتها، بأنها كتبت «المنشق» الذي قدمت من خلاله فصولاً مهمة من سيرة زوجها نيكوس كازانتزاكيس بناء على رغبة صاحب «زوربا اليوناني» الذي أسرّ إليها بأنها الشخص الوحيد القمين بهذه المهمة لأنها الكائن الألصق به الأقرب إلى قلبه، وهي التي تشاطرت معه ثلث قرن كامل من رغد العيش وآلامه ومتاعبه. وإذا كانت مؤلفة الكتاب قد حرصت على إيلاء الجانب العاطفي الذي جمعها بالكاتب اليوناني الشهير ما يتطلبه من اهتمام وتعقب دؤوب لمسار العلاقة بين الطرفين، فإنها قد حرصت في الوقت ذاته على تقديم صورة وافية عن ذلك الجزء من القرن العشرين الذي انتمى إليه الكاتبان، وما شهده من حروب وأهوال وتغيرات في الثقافة والمفاهيم وأنماط الحياة المختلفة. ومع أن أنّا غريغوريغنا قد حاولت في مذكراتها أن تفعل الشيء ذاته، فإن الفارق بين التجربتين لا ينحصر في كون هذه الأخيرة أقل ارتباطاً بعالم الكتابة من مثيلتها اللاحقة، بل في حرص إيليني -بسبب موهبتها المتميزة وانخراطها في صناعة الأحداث- على تحويل كتابها إلى بانوراما شاملة تتسع مروحتها لما عايشه الثنائي العاشق من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية.
ولم يكن من قبيل الصدفة أن تجعل إيليني ساميوس من الرسائل التي دأب كازانتزاكيس على كتابتها إليها العمود الفقري لكتاب «المنشق»، ذلك أن تلك الرسائل لم تقتصر مضامينها على البوح العاطفي الحميم فحسب، بل عمل الكاتب اليساري على تحويلها إلى منصة مهمة للتعبير عن مواقفه الجريئة من أحداث عصره، فضلاً عن آرائه المتقدمة في الأدب والفكر. لكن النقطة الأهم التي ينبغي للقارئ الوقوف عليها، لما تحمله من عبر ودلالات، هي تلك المتصلة بغرابة العلاقة بين الطرفين، والتي شاء لها كازانتزاكيس أن تكون على مقاس مزاجه الشخصي وظروفه الحياتية. فقد اقترح الكاتب على إيليني، في السنوات العشرين السابقة على الزواج، أن تقتصر لقاءاتهما المباشرة على عشرة أيام في السنة لا أكثر، وأن يقضيا بقية العام في حالة تباعد تام، باستثناء ما يتبادلانه من رسائل. ومع أن كازانتزاكيس كان يهدف من وراء ذلك، كما قال لساميوس، إلى منع عاصفة الحب التي جمعتهما من الركود، كما إلى التفرغ لمشروعه الروائي الشاق، فقد كان الأمر قاسياً أشد القسوة على إيليني التي كانت تحتاج إلى من يشاطرها لحظات الوحشة والضعف وأعباء الحياة اليومية. ومع ذلك، فإنها قبلت التحدي مؤثرة الوقوف إلى جانب الرجل الذي أحبته، ولو تطلب الأمر كثيراً من التضحيات والتنازلات الشخصية. لكن اللافت في الكتاب الضخم الذي يتجاوز عدد صفحاته الخمسمائة خلوه من الرسائل التي بعثت بها إيليني إلى كازانتزاكيس، على الرغم من أن نشرها كان يمكن أن يضيف نكهة خاصة إلى أدب الرسائل المتبادلة بين الأدباء، مما يدفعنا إلى التساؤل عما إذا كان هذا الامتناع ناجماً عن إصرار المؤلفة الشخصي على البقاء في ظل القامة الشاهقة للكاتب الذي تعلقت به أم بناء على رغبة الزوج ولأسباب ذكورية بحتة.

سنوات لورنا مع جواد سليم
لم يكن ليدور في خلد الفنانة البريطانية لورنا هيلز، من جهة أخرى، أن تحول بعضاً من وقائع حياتها المشتركة مع الفنان العراقي الشهير جواد سليم إلى كتاب مستقل، لو لم تقترح الكاتبة العراقية إنعام كجه جي على أرملة سليم مساعدتها في تنفيذ هذه الفكرة في أثناء المعرض الفني الذي أقامته هيلز في لندن عام 1989. هكذا جاء كتاب «لورنا / سنواتها مع جواد سليم» ثمرة اللقاءات الطويلة التي تولت خلالها الثانية سرد حكايتها المؤثرة مع صاحب «نصب الحرية»، فيما عملت الأولى على صوغ ما سمعته بأسلوبها المميز ولغتها الرشيقة البعيدة عن الإطناب والإفاضة الإنشائية.
ومع أن لورنا وسليم ينتميان إلى بيئتين مختلفتين تمام الاختلاف على المستويين الحضاري والاجتماعي، فإنها لا تكشف في الكتاب عن أي تبرم يُذكر بنمط الحياة السائد في العراق في مطالع خمسينيات القرن الفائت، بل تعبّر بصفتها رسامة عن افتتانها بشمس تلك البلاد الباهرة في سطوعها الدائم وتدرجاتها اللونية المترعة بالضوء، مظهرة تبرمها من قتامة الألوان المضببة الرمادية في بلدها الأم. لهذا السبب يبدو الاختلاف واضحاً بين التجربة العاطفية والحياتية الناجحة لسليم ولورنا، والتجارب المماثلة لسهيل إدريس والطيب صالح والحبيب السالمي، حيث سوء التفاهم الحضاري يؤدي في الأعم الأغلب إلى تصدع العلاقات العاطفية وانهيارها. ومن يتمعن في خلفية الكتاب لا بد أن يصل إلى استنتاج مفاده أن ولاء الثنائي الزوجي للفن والجمال هو الذي سهل على الحب الذي يجمعهما سبيل الوصول إلى مآلاته الإيجابية.
وإذ تكشف هيلز عن الانفتاح الملحوظ للمجتمع العراقي زمن الملكية الذي أخذ لاحقاً في التراجع والانكماش -حسب رأيها- تكشف في المقابل عن شغف عبد الكريم قاسم الذي تزعم الثورة على العهد الملكي بالفن والثقافة، الأمر الذي دفعه إلى إيفاد سليم إلى إيطاليا لإنجاز جداريته الضخمة. كما تحرص لورنا على أن تقدم زوجها في صورة الرجل المثالي الذي أخلص في حبه لزوجته وابنتيه، بقدر ما أخلص لفنه وبلاده، نافية احتمال أن يكون قد عاش مغامرات عاطفية خارج البيت، معتبرة إياه زوجاً مستقيماً يمكن الوثوق به، وفق اعترافاتها لكجه جي. أما الطريقة التي قضى بها جواد سليم نحبه، حيث أفضى تسلقه للسلالم المفضية إلى قمة جداريته إلى إصابته بالنوبة القلبية التي أسلم بعدها الروح، فهي لا تجعل منه الشهيد الذي قضى على مذبح الولاء للفن والوطن فحسب، بل لعلها تعكس في إطارها الرمزي أعمق ما تتمخض عنه العلاقة بين الفن والحياة من جهة، وبين الجمال والموت من جهة أخرى. كأن قلب النحات العبقري شاء أن يمهله الفترة الكافية لإنجاز ذروة أعماله النحتية، حتى إذا أطل من هذه الذروة على العالم، توقف القلب المعطوب عن الخفقان، تاركاً للجسد المهيض أن يفنى، وللجمال الذي صنعه بنفسه أن ينوب عنه في رحلة البحث عن الخلود.



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.