«دُهاة العرب»... أقوال تختصر المعاني وتفيض رمزية

قدّم الشاعر السعودي مبارك محمد الجوفان للمكتبة العربية مؤخراً كتاباً سهلاً ممتنعاً، من خلال جمعه باقة منتقاة من بعض أمهات الأدب العربي. عنوان الكتاب «دُهاة العرب»، صدر أخيراً عن دار «جداول» للنشر والترجمة والتوزيع في بيروت.
يقول الجوفان عن كتابه إنه «يمثل محاولة متواضعة لإعادة الاعتبار إلى صناعة الكتب في زمن أضحى كل شيء أسير وسائل التواصل الاجتماعي التي تسللت إلى مجتمعاتنا تحت جنح التقدم العلمي، لدرجة أنها سلبت من الإنسان حريته في القراءة من الكتاب، وجعلتنا رهائن منصاعين لها، وفي زمن باتت فيه الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) المنارة التي ترشد سفننا المعرفية».
عند بداية رحلته في إعداد وجمع الكتاب؛ وقف الجوفان حائراً بين أن يسهب في النهل من أمهات كتب الأدب العربي الضارب في أعماق التاريخ، وبين مراعاة العصر الذي نعيش فيه، والذي يتصف بالسرعة، وكثرة الانشغالات، فكان الحل أن يجمع المؤلف بين الخيارين قدر المستطاع، بأن ينتقي من أقوال أدباء العربية أجملها، وهي التي تختصر المعاني وتفيض في الرمزية.
ويشير المؤلف إلى أن جولته بين أمهات الكتب «كانت أشبه بنزهة طويلة في حدائق غنّاء، مضنية، نظراً لما يتميز به أدبنا العربي من اتساع وغنى ومتعة، لما تجده من رياحين أدبية تفيض بها هذه الحدائق التي تعبق بروائح الأدب العطرة».
في هذا الكتاب انتقى المؤلف مادة من أبي حيّان التوحيدي، الذي سُمي بأديب الفلاسفة، وفيلسوف الأدباء، والذي عاش إحباطات دائمة في حياته، وإخفاقات انتهت به إلى اليأس، فعمدَ إلى إحراق كتبه بيده، فاختار من كتبه: «البصائر والذخائر»، و«الصداقة والصديق»، و«أخلاق الوزيرين»، إضافة إلى اختياره ما تيّسر له من «آداب الملوك» للأديب أبي منصور الثعلبي وهو الذي امتاز بحصره وتبيانه لمعاني الكلمات والمصطلحات. ولم يغفل المؤلف إحدى أهم أمهات كتب الأدب «زهر الآداب وثمر الألباب» للقيرواني وهو من أدباء المغرب.
ولكي تكتمل باقة الزهور التي جمعها الجوفان خلال رحلته في حدائق الأدب، كان لا بد له من أن يعرّج صوب أزهار الجاحظ الفوّاحة، وهو صاحب «البيان والتبيين»، و«المحاسن والأضداد»، و«البخلاء»، وكان على المؤلف أن يكون ختام رحلته مسكاً، فحرص على اقتباس ما تيسر له من «روضة العقلاء ونزهة الفضلاء» للبستي.
ومن بين ما أورده الجوفان من أمهات هذه الكتب، نقرأ هذه القصة: «كان على عهد كسرى رجل يقول؛ من يشتري 3 كلمات بألف دينار؟ فتطيّرَ منهُ، إلى أن وصل قوله إلى كسرى، فأحضره وسأله عن تلك الكلمات، فقال؛ حتى يحضُر المال، فأُحضرَ، ثمّ قال؛ الكلمة الأولى (ليس في الناس كلهم خيرٌ)، فقال كسرى؛ هذا صحيح، ثم ماذا؟ قال: (ولا بد منهم)، فقال؛ صدقت! ثم ماذا؟ قال: (فألبِسهم على قدرِ ذلك)، فقال كسرى؛ قد استوجبت المال فخذه، قال: لا حاجة لي فيه! قال له كسرى؛ فلم طلبته؟ قال؛ أردت أن أرى من يشتري الحكمة بالمال، فاجتهدَ به كسرى في قبض المال فأبى»!
ومن اختيارات المؤلف؛ كتبَ أرسطاطاليس إلى الإسكندر في رسالته السياسية: «إن المكافأة واجبة في الطبيعة، فاحذر الإساءة ما استطعت».
وينقل عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، قوله: «أعجب ما في الإنسان قلبه، وله مواد من الحكمة، وأضداد من خِلافها، فإن سنح له الرجاءُ أذلّهُ الطمع، وأن هاجه الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أُسعد بالرضا نسي التحفظ، وإن أتاه الخوف شغله الحذر، وإن اتسع له الأمن استلبته العزة، وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع، وإن استفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضَته فاقة بلغ به البلاء، وإن جهد به الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط في الشبع كظّته البِطْنَة، فكل تقصيرٍ مُضرّ، وكل إفراطٍ له قاتل».
كما ينقل عن الأحنف بن قيس، قوله: «من جالس عدوه حفظ عليه عيوبه»، وكان ابن المبارك يقول: «مروءة القناعة أفضل من مروءة الإعطاء»، وعن أبي إسرائيل، عن الحكم قال: كان يقال: «لا تُمارِ صديقك، ولا تمازحه»، وقال زيد بن ثابت: «ثلاث خصال لا تجتمع إلا في كريم؛ حُسن المحضر، واحتمال الزلة، وقلة الملالة»، وقيل لعدي بن حاتم؛ من السيد؟ قال: «الأحمق في ماله، الذليل في عرضه، المُطّرح لحقده، والمعني بأمر جماعته، فليس يسود المرء إلا بعد أن يسهر من أول ليله إلى آخره فكراً في قضاء الحقوق، وكفّ الشفاه، وازدراع المحبة في القلوب، وبعث الألسنة على الشكر».