دينو بوزاتي... موهبة التوغل في المعاني الخفية

إيطاليا تحتفل بمئوية صاحب رواية «صحراء التتر»

بوزاتي في مكتبه
بوزاتي في مكتبه
TT

دينو بوزاتي... موهبة التوغل في المعاني الخفية

بوزاتي في مكتبه
بوزاتي في مكتبه

تحتفل إيطاليا هذه الأيام بالذكرى المئوية لميلاد كاتبها دينو بوزاتي، الذي اندلعت شهرته في العالم بفضل الفيلم الفرنسي - الإيطالي الذي حقق انطلاقاً من روايته الأشهر «صحراء التتر». وبهذه المناسبة؛ أعدت إيطاليا برنامجاً حافلاً يستعيد مجد هذا الكاتب الذي يظل بالنسبة للكثيرين كاتب التحقيقات الصحافية المتميزة، وصاحب الخيال الملغز في قصصه القصيرة ورواياته التي وصفت بالطلائعية. في مناسبة المئوية الأولى لولادته، صدر عن دور نشر إيطالية مرموقة مثل «اناودي» و«مندودوري» كتاب عن سيرته الذاتية، يتناول اليومي والعادي في حياة بوزاتي، ويقدم الكثير للقارئ المهتم بأعمال بوزاتي، الكاتب الجاد، الذي أعاد صياغة وتعديل كتابة القصة القصيرة، لكي تتواءم مع مشاريعه الروائية، وهو البحث عن أشكال قادرة عن التعبير عن اللاشيء في الحياة، وإدخال التساؤل الدائم في عالم الفن والأدب. إضافة إلى كتاب يحوي مجموعة مختارة من مقالاته وكتاباته النقدية وأبرز تحقيقاته الصحافية الشهيرة.
وكما في السياسة كذلك في كتابة الرواية والقصة القصيرة، في التعامل مع لغة الواقع، واستنطاقه التفاصيل، وابتعاده عن التجريد ودخول إلى عالم المحسوس، بملامسة هذا الحزن وذاك التفاؤل بالعفوية طورا، وفي القصدية المتغضنة أحياناً، فإن بوزاتي كان يتعامل مع اللغة كمن يتعامل مع أشيائه الخاصة، بعفوية كاملة مليئة بالإحساس بالذات دون أن تكون الذات هي محور ما يكتب.
اشتهر بوزاتي بكتابة القصة القصيرة جنباً إلى جنب الرواية، كاشفاً عن ما وراء الصمت المعذّب في حياتنا اليومية، بعد أن جعل الانتظار في الكثير من أعماله لعنة من اللعنات التي انصبت على رأس الإنسان المعاصر، وهو محاصر بين الأمل، والرفقة، والانتهاك والتوقعات، وأقصى درجات الصخب والعنف والاحتدام.
كان دينو بوزاتي قادراً على التغلغل في المعنى الخفي، والتعبير عن تيهانه بين القيم والبنى والتعاليم التي لم تختف في العصر الحديث، بل تسترت في أشياء أخرى، وفي الحكايات أساطير تنتمي إلى الذاكرة الجماعية التي يستبد بها الخوف والقلق الممزوج بالانتظار المميت كما في روايته الخالدة «صحراء التتار»، تلك الرواية التي تدور أحداثها في حصن للقوات الإيطالية في الصحراء الليبية، حيث يعيش الجنود وضباطهم، في خوف ورعب يومي من «العدو» الذي يرتقب مجيئه الجميع من عمق الصحراء بين لحظة وأخرى، ولكن وهمية العدو الذي لن يأتي أبداً إلى هذا الحصن العسكري المدجج بالسلاح، كانت سبباً في خلق وفيات وانهيارات جنونية في صفوف من ينتظر الموت الذي لا يأتي.
ويرى بعض نقاد بوزاتي، أن كتاباته تقلق أكثر مما تقنع، وتسأل أكثر مما تجيب، فهي تتمتع بعاطفة فائقة تجاه الكائنات والاشياء اليومية، كما أنه يتميز عن أقارنه الطليان في قدرة النص عنده على افتتان قارئه، مستفياً من قدرته الصحافية الفائقة في كتابة التحقيقات لصحيفة «الكوريرا ديللا سيرا» الإيطالية الذائعة الصيت، التي عمل فيها لسنوات عديدة، حيث كانت تلك التحقيقات الصحافية ذات الطابع السريالي، تثير خيال العديد من الروائيين العالميين من ذوي التخصص بقصص الخيال العلمي، في تقليد أجوائها ومحاكاتها، كما هو الحال في التحقيق الذي أنجزه عن أعمال الحفر في محطات مترو مدينة ميلانو وتصوره أن شيطاناً كبيراً يتجول فيه أثناء الليل.
يصفونه بأنه كافكا إيطاليا مع أنه بدأ كتاباته في القصة القصيرة قبل أن يطلع على كتابات كافكا بسنوات طويلة، حيث بدأ وهو شاب، في مدينة بيلونو التي تحيطها الجبال في مقاطعة الفريولي الشمالية الساحرة الجمال، يمزج بين تلك الأجواء البيئية ورحابة العالم وحساسية العصر، وقد أصابه النفور والضجر من مقارنة النقاد له بكافكا فكتب يقول «لم يكن كافكا يسبب لي عقدة نقص وإنما عقدة ضجر وسأم ومنذ ذلك الحين لم تعد لي رغبة لقراءة كتاباته ولا حتى سيرته الذاتية».
عشق السينما وكتب الشعر، والنقد الفني، ومارس الرسم بالزيت والألوان المائية، ونظر على الدوام إلى الحقيقة على أنها ذات وجهين: وجهها الظاهر المرتبط بالحياة اليومية المنظمة، والوجه الآخر، وجه الغموض والفوضى الكامنة المطبوعة بالألم والأسرار، وظل وحتى أواخر أيام حياته متعلقاً بفنتازيا الواقع، يتشرب هذا الواقع لتستولد رؤى هياجة باحتدادات وهمية، ذات خلفية عميقة تجترح فضائح المجتمع المؤثثة بالزيف والهشاشة.
ولد دينو بوزاتي في السادس عشر من أكتوبر سنة 1906 ودرس وتخرج في جامعة ميلانو - قسم الحقوق - وعاش طيلة حياته في مدينة ميلانو، التي درس فيها الموسيقى والرسم وعمل فيها ولم يبتعد عنها إلا لرحلات قصيرة قام بها خارج المدينة، نحو البحر والصحراء وهما البيئتان اللتان يمكن تسميتهما بالحوافز التي قدمت لأعماله الروائية والقصصية قالباً ديناميكياً.
كتب روايته الأولى «برنابو الجبال» عام 1933، وهي رواية قصيرة، وأعقبها عام 1935 برواية «سر الغابة القديمة» التي أطلقته إلى عالم الأدب كواحد من الروائيين الشباب الواعدين، ومن ثم بدأ بكتابة روايته الثالثة «صحراء التتار» في كل ليلة بعد عودته المرهقة من عمل الجريدة، حيث اعتبر هذا العمل الذي احبه كثيرا بأنه «كتاب حياته». وأثار صدور هذه الرواية كثيراً من الاهتمام بين أوساط النقاد والأدباء في داخل إيطاليا وعدد من الدول الأوروبية، فاقترن اسمه باسم فرانز كافكا. وربط النقاد شخصياتها بشخصيات كافكا الحبيسة بوهمها الذاتي والتي كانت تستهلك نفسها بالانتظار الذي لانهاية له. وفي عام 1942، أصدر مجموعة قصصية تحت عنوان «الرسل السبعة» عالج فيها ظاهرة الموت والحياة العسكرية، لتجيء متزامنة مع رياح الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1945 ظهر له كتابان. الأول مجموعة حكايات للأطفال تحت اسم «غزوة الدببة لصقلية»، والآخر، رواية «الغليون» ويظهر فيه سخريته من الواقع نحو عوالم أخرى بعيدة عن منال الإنسان.
في عام 1948 خرجت مجموعته القصصية الجديدة بعنوان «اللاسكالا» وقد استقى موضوعاتها من الأخبار والريبورتاجات الصحافية التي كان يكتبها للصحيفة. وبين عامي 1954 - 1958 خرج بوزاتي إلى القراء بثلاث مجموعات قصصية جديدة هي « سقوط البالفرينا» و«تجربة سحرية» و«ستون قصة قصيرة»، حيث بدأ من خلالها بطرح أشكال تعبيرية جديدة مشحونة بالمعاني الأخلاقية وبأساليب مبسطة ممزوجة أحياناً بأسلوب أدبي ساخر. وفي عام 1959 كتب عدد من المسرحيات والسناريوهات لبعض المسرحيات المأخوذة عن أعمال سترانفسكي، بريخت، شيللي وغيرهم، وفي عام 1960 أنجز روايته ذات الخيال العلمي «الصورة الكبيرة» ليقترب من أجواء الأدب السريالي، ثم تبعها بمجموعة قصصية أشبه ما تكون بمقالات صحافية ساخرة أطلق عليها اسم «السيد العزيز نحن آسفون». وفي عام 1963 كتب روايته الرومانسية الشهيرة «حب» التي يصور فيها حياة النساء وعذابهن وعواطفهن، ثم أعقبها عام 1971 بإصدار كتاب يحوي مجموعة من قصائده الشعرية، كما أصدر مجموعة قصصية جديدة تحت اسم «الليالي الصعبة» التي انتقاها من مجموعة من القصص التي نشرها في صحيفة «الكوريرا ديللا سيرا». وكان آخر كتاب نثري ساخر يصدره قبل رحيله يوم التاسع والعشرين من شهر يناير (كانون الثاني) عن عمر يناهز السادسة والستين، في عام 1971، الذي سبب صدمة كبيرة في الأوساط الثقافية والأدبية الإيطالية والأوروبية.



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟