انطلاق الدورة الثالثة لمهرجان «قابس سينما فن»

تحتفي مدينة قابس في تونس منذ أمس (الجمعة) بالدورة الثالثة من مهرجانها المُسمى «قابس سينما فن». يمتد المهرجان حتى السادس والعشرين من الشهر، جامعاً بين دفتيه أفلاماً ومناقشات وجلسات حوار، وورشات ومعارض فنية.
ترأس هذه الدورة الممثلة التونسية الأولى هند صبري وتعرض أكثر من 65 فيلماً مختلفاً، في الطول وفي موقع برمجته، من بينها 14 فيلماً طويلاً و15 فيلماً قصيراً في المسابقة. من بين هذه الأفلام 12 فيلماً تشهد عروضها العربية الأولى.
تقول مديرته العامة فاطمة الشريف، إن المهرجان، الذي غاب في العام الماضي نظراً لحالة الوباء، إلا من خلال عروض افتراضية، فإن الدورة الثالثة تهدف إلى «إعادة الصلة بهذه التجربة الحسيّة التي تضمن انغماس الجمهور في الصورة».
وتحدد في كلمتها ماهية الصورة؛ فهي «تلك التي صنعها مؤلفون وفنانون تم اختيارهم من أجل وجاهة نظرتهم للعالم، سواء كان الأمر يتعلق بالسينما أو الواقع الافتراضي أو برمجة من الفيديو، فإن المهمّة واحدة: العمل على اكتشاف مقترحات فنية قوية والتفكير في أنظمة الصورة التي تحيط بنا».
هناك تصميم، كبداية، على تفسير الفن تبعاً للعلاقة بين الصورة والمتلقّي. على «تحريك الصورة»، كما يعلن المهرجان، وتحليلها وذلك لما هو أبعد من مجرد عرض الأفلام. يقول البرنامج في مقدّمته «قادنا كل من مسامية الحدود بين الفنون وعملية التهجين الذي (التي) تشهدها الممارسات الغنية بمختلف مجالاتها إلى اقتراح الانخراط في التفكير المشترك حول كل أنظمة الصورة».
للغاية، هناك ماستر كلاس لطرح تساؤلات عن «شعرية نظام الفيديو المنزلي» وعلاقته الحميمة بالصورة المتحركة ما يفتح تساؤلات عن تسلسل استخدام آليات العروض المنزلية وشاشاتها.
محاضرات «ماستر كلاس» أخرى يقودها المخرج كريم بن خليفة (حول الواقع الافتراضي) وآخر للمخرج طارق تقية (تدور حول أفلام المخرج يعرض فيها مشاهد من أفلامه).
هذه النشاطات ما هي إلا جزء من كل لمهرجان لا يريد أن يبدو مجرد مهرجان يعرض الأفلام ويناقش حولها، بل مدرسة ومعرض كما عروض. وعوض ما تنصرف إليه مهرجانات عربية وغير عربية أخرى تحتفي بالأفلام ومخرجيها وممثليها، ينتهج «قابس سينما فن» مسيرة مختلفة يبحث فيها عن الجديد غير المطروق في عملية الفيلم وروافده.
هناك، على سبيل المثال، ورشة للكتابة النقدية يشرف عليها علي حسين العدوي الذي يقدّمه المهرجان كـ «مقيّم وباحث ومحرر وكاتب وناقد للصور المتحركة والممارسات الفنية الحضرية والتاريخ الثقافي».
الفكرة قيّمة والمحاضر يبدو مُلمّـاً ومتخصصاً، والمقدّمة التي كُتبت لهذه الورشة تشرح أموراً من شأنها إحداث اختلاف كبير بين الواقع النقدي الموجود على الصعيدين التونسي والعربي، وبين ذلك الذي تدعو الورشة إليه. الكلام صحيح عندما يُشير المهرجان إلى أن النقد السينمائي التونسي قد فشل في إيجاد موقع بين المساهمات الأكاديمية. لكن المفتاح هنا ليس جهود النقاد بل جهود جمهوره من ناحية وجهود الإعلام ومحطات النشر الورقي والافتراضي من ناحية، وضم إلى ذلك أن الحجم من الأهمية الذي يمثّله النقد في عموم العالم العربي بالنسبة لصانعي الأفلام متفاوت لا حسب البلدان ولا حتى حسب حجم الإنتاج، بل تبعاً لتحبيذ أو عدم تحبيذ ما يُكتب حول أفلامهم.
يأمل المرء أن يشمل الحديث هذا الواقع انطلاقاً من عدم وجود تأثير فعلي ليس بسبب النقد، بل بسبب تغييب مصادره.

نماذج ذات تميّز
بالنسبة للأفلام (أكثر من 50 فيلماً طويلاً وقصيراً) تحتشد في الأيام التالية لكي تجسّد كل نوايا هذا المهرجان الخاص والمتخصص.
اختياراته تكشف عن حرصه على انتقاء أفلام ارتكب مخرجوها أساليب سردية وفنية مختلفة عن السائد. هناك حركة تجاه دفع التفكير بالصورة ومكانتها كتعبير متلاحق عن رغبة المخرج في الخروج من الإطار التقليدي. نلاحظ ذلك على امتداد معظم هذه الاختيارات من الفيلم اللبناني «قلتك خلص» لإيلي خليفة، إلى الأميركي «نومادلاند» لكليو زاو، مروراً بفيلم إيليا سليمان «لا بد أنها الجنة» (قطر، فلسطين) وفيلم أمين نايفة «200 متر» (الأردن) وفيلم «الانطلاق» لسعيد حميش (المغرب) و«بمجرد حذفه» (ترجمة هذا الناقد للعنوان الإنجليزي Once Removed) للورانس أبو حمدان (لبنان، الأردن) و«الموعود» لأحمد الغنيمي (مصر).
فيلم مصري آخر في الباقة الرسمية هو «حنة ورد» لمراد مصطفى. من لبنان أيضاً «الصورة المثالية» لهلا الكوش، ومن سوريا «لنا نعيش» لرند أبو فاخر. الفيلم المصري «معظم ما يلي حقيقي» لماجد نادر.
هذا بدوره جزء من كل تم حشده للعرض وقوامه مخرجون جدد لم يتسنَ للعديد منهم عرض أعماله المشتركة هنا في مهرجانات من قبل.
يتوقف الناقد عند أفلام أخرى شهدت عروضاً كثيرة، لكن اختيارها منضوٍ تحت مظلة تقديم الجديد صورة وكيفية. من بين هذه «غزة مونامور» لعرب وطرزان ناصر (فلسطين) و«زنقة كونتاكت» لإسماعيل العراقي (المغرب) و«الرجل الذي باع ظهره» لكوثر بن هنية (تونس).
الشغل على الكيفية الذي شكل الدافع الموازي للموضوع المختار سرده كرسالة اجتماعية أو سياسية أو حتى ذاتية فردية، بات أكثر حضوراً في السينما العربية خلال الأعوام العشرين الأخيرة وما زال. يستطيع الناقد انتخاب أكثر من 100 فيلم في هذه الفترة حملت الجديد في الصورة وإن لم يحمل بعضها أي جديد في الموضوع.
الدافع الذي يعتمر غالبية المخرجين هي مزيج من الرغبة في النجاح (مهرجاناتياً وإعلامياً) والوصول إلى لعب دور استثنائي في العالم الذي يتقدّم إليه كما فعل عدد محدود من المخرجين العرب مثل هاني أبو أسعد، وإيليا سليمان، ونادين لبكي، وكوثر بن هنية. على أن الحديث عن الحديث عن الحضور المتزايد، لا يعني أن السينما العربية منذ الستينات لم تحظ بالأعمال المختلفة عن السائد. الفارق هو أنها، في ذلك الحين، مشت في طريق موازية لنشاط تجاري - جماهيري واسع، والآن باتت النشاط السينمائي شبه الوحيد. أو كما لا بد أن نلاحظ، باتت السينما الجماهيرية البحتة هي التي تسير في ظلال السينما المغايرة.
مررنا على بعض الأفلام المشتركة في هذا المهرجان (المغاير بدوره) في نطاق نقدها حين تم إنتاجها. بعضها يستحق أو يتحمّل قراءة جديدة في الأيام المقبلة إلى جانب جديد لم يشهده الناقد من قبل.