جنيف الهادئة تستعد للتحول «حلبة صدام» بين بايدن وبوتين

اعتادت جنيف أن تلجأ إلى الأساطير الإغريقية تستلهم منها تسميات تطلقها على العمليات الأمنية التي ترافق المواعيد الكبرى التي تستضيفها، مثل القمة الأخيرة لمنظمة التجارة العالمية عندما أطلقت اسم «عطارد»، إله التجارة عن الإغريق، على مجموعة التدابير التي اتخذتها لحماية عشرات الرؤساء الذين توافدوا إليها قبل أسابيع من اندلاع جائحة «كوفيد».
وكذلك فعلت هذه المرة عندما قررت أن تطلق على العملية الأمنية الضخمة التي ترافق قمة الرئيسين جو بايدن وفلاديمير بوتين اسم «ديوميدس» أشهر أبطال المعارك التي دارت بين أثينا وطروادة وإحدى الشخصيات الرئيسية في إلياذة هوميروس. لكن هذا الخيار الذي يحمل في الظاهر بعداً حربياً، إنما يدلل على الأرخبيل الصخري الذي يحمل الاسم نفسه في مضيق بيرينغ عند أطراف آلاسكا والمتنازع عليه بين الروس والأميركيين منذ عام 1867، بعد أن اشترت الولايات المتحدة تلك المقاطعة من روسيا.
ساعات لن تتجاوز الأربع والعشرين هي التي سيمضيها بايدن وبوتين على ضفاف البحيرة المزنرة بالأسلاك الشائكة، ولا أحد ينتظر أن يكون العالم مكاناً أفضل في اليوم التالي للقمة. لكن مثل هذه اللقاءات يتم تحضيرها بعناية فائقة، وهي لا تنعقد من غير ضمانات بأن كلاً من الطرفين سيخرج منها بنتائج إيجابية ملموسة.
حلبة الصدام الرئيسية ستكون حول حقوق الإنسان والاعتداءات السيبرانية التي عناها بايدن عندما تحدث عن الخطوط الحمر التي سيضعها أمام بوتين الذي ترك لوزير خارجيته سيرغي لافروف، التلميح بأن لموسكو أيضاً خطوطها الحمر، وأولها انضمام أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي.
منذ أيام ومدينة جنيف الهادئة تعيش على وقع هذه القمة التاريخية التي تعود سابقتها إلى عام 1985 بين رونالد ريغان وميخائيل غورباتشوف عند نهايات الحرب الباردة. لكن على خلاف تلك القمة التي انعقدت أواخر الخريف في أجواء مناخية قارسة وبداية انفراج سياسي بين الدولتين العظميين، تنعقد هذه القمة في طقس مناخي لاهب تجاوزت حرارته الثلاثين درجة وبرودة شديدة في العلاقات الثنائية التي لم تعد وحدها المعادلة التي تحكم مصير العالم، بعد أن حجزت الصين مقعداً ثالثاً لها على مائدة الكبار.
أكثر من 3500 عنصر من أجهزة الأمن والقوات الخاصة والجيش والمخابرات حشدتها الحكومة السويسرية لرصد الحركة في المدينة التي تتأهب لحدوث الصيف، وتعقد الآمال على هذه القمة لاستعادة الزهو الذي افتقدته منذ عام ونصف العام بسبب الجائحة.
عشرات طائرات الشحن الضخمة التي نقلت المعدات والأجهزة الأمنية والسيارات المصفحة وثلاث مروحيات، تربض منذ أيام على أرض المطار الذي تجوب في أجوائه مقاتلات حربية بانتظام وتتوقف فيه حركة الطيران المدني ربع ساعة قبل هبوط طائرتي بوتين وبايدن، وبعد إقلاعهما، فيما انتشرت سيارات أجهزة الأمن الأميركية والروسية على الطرق التي سيسلكها الرئيسان خلال وجودهما في جنيف.
ويقدر عدد الصحافيين الذين سيغطون هذه القمة بما يزيد على ثلاثة آلاف، رغم التدابير الصحية الصارمة المفروضة على الوافدين إلى سويسرا من خارج البلدان الأوروبية والإجراءات الأمنية التي تخضع في مرحلة نهائية لموافقة فريق مشترك من المخابرات الروسية والأميركية.
لكن الحوار سيمتد سلساً حول تغير المناخ وجائحة «كوفيد»، وحول إرساء قواعد ثابتة تحول دون الحوادث والمواجهات المباشرة، وتفتح قنوات منتظمة للتشاور في أجواء مختلفة عن السابق.
الأميركيون يريدون ضمانات بعدم تكرار القرصنة السيبرانية التي سببت لهم متاعب وخسائر فادحة في العامين الماضيين، ويحتاجون إلى قواعد في آسيا الوسطى لعدم فقدان السيطرة كلياً على أفغانستان بعد الانسحاب. الروس، من جهتهم، يطمحون إلى انتزاع اعتراف نهائي بدورهم كقوة عظمى، ويريدون الإفلات من التمدد الصيني الذي بدأ يطبق عبر «طريق الحرير» على بلدان كانت ضمن الدائرة الروسية سابقاً. ولم يعد سراً أن التحالف الذي فرضته الظروف الدولية مع الصين ليس خياراً طبيعياً بالنسبة لموسكو التي توفر لها هذه القمة فرصة لتوجيه رسالة إلى بكين بأن لديها خيارات أخرى.