يتضمن كتاب «النقد السياسي في الرواية العربية والكورية» الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب للدكتور محمد طلعت الجندي دراسة شائقة في الأدب المقارن بين الرواية العربية ونظيرتها الكورية من خلال مقارنة بين الروائي المصري صنع الله إبراهيم لا سيما في روايته «بيروت بيروت» وبين نظيره الكوري كيم وان إيل في روايتيه «شفق» و» الفناء الخلفي».
يركز المؤلف في دراسته على نصوص الحرب فيما عرف بـ«الرواية الحربية» في الواقع الكوري وما عرف كذلك بـ«أدب الحرب» في الرواية العربية خصوصاً بعد حرب 1967، ثم «أدب المقاومة» لاحقاً، مؤكداً أن علاقة النص والحرب تعكس موضوعاً من أهم مواضيع الرواية الكورية والعربية، كما أن الكاتبين موضوع الدراسة عايشا فترة الحروب وعانيا من ويلاتها وأثرت في إنتاجهما الروائي تأثيراً ملحوظاً ومهماً، علاوة على أنهما تقريباً من نفس الجيل العمري.
- «شفق»... بعين طفل
رصدت النصوص الكورية لا سيما رواية «شفق» وكذلك «الفناء الخلفي» لـ«كيم وان إيل» الحقبة الزمانية التي تلت الاستقلال عن المحتل الياباني حتى ما بعد الحرب الكورية الأهلية. ويمكن تحديد أصداء هذه الأعوام ما بين 1945 و 1953، ثم المساحة الزمانية التالية الواقعة بين حقبة الستينات والسبعينات من القرن العشرين، وهي فترة الانقلاب العسكري، وحركة التصنيع السريع وتحديث المجتمع الكوري، وتتسم بكونها فترة شديدة الصعوبة في الواقع التاريخي الكوري لما شاهدته من متغيرات جذرية في بنية المجتمع على أصعدته كافة، كما بلورت هذه الحقبة الخلافات الآيديولوجية ووصولها للحظة الانفجار السياسي ومن ثم الانقسام والحرب، فضلاً عن تصوير دقيق للصراعات الداخلية وتباين القرار السياسي بين شطري شبه الجزيرة الكورية.
ويرى المؤلف أن الروايتين تعكسان إشكالية العلاقات المتأزمة بين الشخصيات في النص، وهذا ما رصده الراوي من خلال تطوره العمري والإدراكي، فهو يستعيد ماضي الحدث بعين طفل تخلو من الأحكام المسبقة، ثم يرصد الواقع الحاضر أمامه بعين رجل بالغ النضج والرشاد. وانطلاقاً من هذه الحقبة المضطربة تجسدت أزمة الشخصيات داخل مجتمعها الذي رأته بعين اليأس والغربة والانقسام، كما عكس النص أثر الأحداث التاريخية على نفسية الشخصيات الروائية التي أصبحت داخل وطنها مشردة ولاجئة، وهنا يشتد واقع الزمن ويضيق على مستوى الطبيعة في نص «شفق»، حيث يجسد العنوان وضع الطفل بطل الحدث في النص الذي ينظر لشمس الأصيل ويمعن النظر آملاً أن ينتهي الغروب بشمس أكثر توهجاً في الغد. ويلاحظ النقاد أن كيم يعري في «الشفق» شبح الآيديولوجية الذي دمر العقل الكوري وأدى لانقسامه. ويشبهه بلحظة غروب خاطفة عصفت بشمس النهار الكورية التي بالكاد بدأت تظهر في سماء المجتمع بعد تحريره من بطش المحتل الياباني.
يشار إلى أن كيم وان إيل من مواليد مدينة دايجو بكوريا الجنوبية، 1942، ومن هنا اعتنى بموضوعات الحرب وكشف آثارها على الانقسام الوطني لشبه الجزيرة من خلال عدد كبير من أعماله الأدبية التي عالجت الموضوع من زوايا متعددة تعكس مأساة تشتت العائلات فضلاً عن رسم موقف المواطن الكوري المتسامح مع ذاته ومع مجتمعه من أجل التقدم. وهو بذلك يرصد الجانب الإنساني في أقصى معاناته وهو الجانب الذي عاشه كيم بالفعل في طفولته، فقد أدرج في نصوصه الروائية بعصا من سيرته الذاتية حيث انقسمت أسرته بين الشمال والجنوب انقساماً آيديولوجياً وعقائدياً فكان والده ناشطاً اشتراكياً معتنقاً الفكر الشيوعي وانشق إلى الشمال خلال الحرب وترك أسرته في فقر شديد، فقامت الأم بدور الأب ورعاية الأسرة وعملت في الخياطة كي تسد رمق ابنها ليدرس ويتعلم ومن هنا بدأت معاناته الحياتية مع أثر الانقسام والحرب على واقع أسرته.
ويعتبر النقاد الكوريون أن روايات كيم وان إيل محاولة للالتفاف على الظروف التي شكلت طفولته وشبابه فمنظر الحرب البشع قد ترك بصمته في عقله منذ طفولته حيث إن الحرب اندلعت وهو في الصف الثالث الابتدائي، فعايش مأساة الحرب والتقسيم بمرارتها وكتب عنها من منظور رؤية طفل لم يبلغ العاشرة من عمره فكان من المفترض أن يخوض طريقه إلى المدرسة بسلام بدلاً من الدم والخراب الذي كان يراه عبر الطرق وفي كل مكان ذهب إليه لاحقاً خائفاً من الحرب والموت والفقر.
- «بيروت بيروت»
في المقابل، تغطي رواية «بيروت بيروت» للروائي صنع الله إبراهيم الحقبة الزمنية الممتدة من منتصف الستينات حتى منتصف السبعينات من القرن العشرين في حركة متأججة كاشفة للأحداث التي عصفت بالعالم العربي في ظل الحركات الاستقلالية والثورية فضلاً عن الانقلابات العسكرية. ويلفت المؤلف إلى أنها عالجت معظم القضايا الوطنية الخاصة بشأن الهوية والقومية العربية، ثم رصدت انعكاسات الحراك الطبقي والثوري وتطوراته وآيديولوجياته المختلفة والمتباينة بين الأشقاء العرب لتصل إلى مرحلة شقاء تاريخي متعثر وبؤس واقع اجتماعي أدى إلى عدم النهوض والتقدم بسبب اعتماده على تكرار التجربة نفسها التي سبق أن فشلت دون تعلم منها.
وتعري الرواية أقنعة الحرب الأهلية التي دارت في لبنان، كاشفة أنها اشتعلت لتصفية حسابات طائفية ومذهبية وعنصرية من خلال شاهد عيان، هو الراوي ورؤيته المحايدة لهذه الحرب. وعبر التوغل في زمان ومكان النص، تتضح حقيقة أن ضحية هذه الحرب هي مدينة بيروت والمجتمع اللبناني بكل طبقاته الاجتماعية. ورصدت بنية النص هذه الإشكالية بوضوح شديد على عدة مستويات من الهدم المعماري إلى التضليل العقلي والانحلال الأخلاقي إلى الخواء الروحي.
واعتبر النقاد هذا النص يجسد موضوعاً سياسياً عبر الحرب الأهلية في لبنان من خلال وجهة نظر كاتب عربي يستعين بالوثائق المختلفة مثل أرشيف الصحف والإذاعة والتلفزيون، وهو التكنيك الذي اشتهر به صنع الله إبراهيم في المزج بين ما هو درامي وما هو وثائقي في نصوصه.
ويتطرق الكتاب إلى نقاط مشتركة أخرى بين كل من كيم وان إيل وصنع الله إبراهيم، ومنها أنهما عادة ما يدرجان بعضاً من سيرتهما الذاتية في نصوصهما الروائية، ما يضفي على العمل نوعاً من المصداقية والواقعية الشديدة، حيث يتداخل الذاتي بالعام كما يعطي النص مرجعية ذات ثقل بكونه نصاً من موقع شاهد عيان في معايشة الحدث بنفسه.