قراءة أميركية سياسية ـ عسكرية تتجاهل الخطر الإيراني والمخاوف منه

في ورقة حول تهديد «داعش»

جيمس جيفري
جيمس جيفري
TT

قراءة أميركية سياسية ـ عسكرية تتجاهل الخطر الإيراني والمخاوف منه

جيمس جيفري
جيمس جيفري

طرح جيمس جيفري، سفير الولايات المتحدة الأميركية السابق لدى العراق وتركيا، أخيرا ورقة سياسية عنوانها «تقدير خطر داعش الاستراتيجي»، شملت جملة من التصورات، ومعها جرى طرح تقييم وتوجيهات لسياسة الرئيس الأميركي باراك أوباما تجاه «داعش»، والوضع العام الراهن بالعراق وسوريا. ولقد اختارت «الشرق الأوسط» في ما يلي عرض هذا الطرح لسببين وجيهين: الأول، كون معدّ التصور شخصية عسكرية ودبلوماسية، إذ سبق له أن خدم في الجيش الأميركي، وأصبح في ما بعد سفيرا. والثاني، أن هذا الطرح قدم يوم 12 فبراير (شباط) المنصرم، أمام لجنة الشؤون الخارجية التي تعد إحدى أهم لجان مجلس النواب الأميركي.
ولقد حاول جيفري، وهو زميل حاليا في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، أن يوضح مدى فعالية الاستراتيجية الأميركية الخاصة بمواجهة تنظيم داعش، انطلاقا مما يشكله التنظيم من تهديد لأمن الولايات المتحدة ومصالحها. ومن هنا سأحاول تقديم أهم أفكار الورقة - التي نشرت في موقع «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» على الإنترنت - من دون المساس بجوهر تركيبها الذي اعتمده صاحبها أمام النواب الأميركيين.

* الفكرة المركزية
* تعتبر ورقة جيفري أن الاستراتيجية الأميركية الحالية القائمة على إضعاف «داعش»، ومن ثم القضاء عليه في المرحلة النهائية، هو المهمة الصحيحة. ولذلك فهو يرى أن الحملة الجارية راهنا سليمة أساسا، لأن التحالف الأميركي الدولي الذي يضم نحو 60 دولة استطاع عبر عمله العسكري المضي قدما. فمن جهة تتضمن هذه الاستراتيجية أعمالا عسكرية مباشرة وتدريبا للقوات المحلية وتجهيزا لها، ومن جهة ثانية تسعى للحد من تدفق المقاتلين الأجانب والأموال إلى صفوف التنظيم وخزينته، ومحاربة آيديولوجية التطرف العنيف التي تغذّي التنظيم. ثم، من الناحية الإنسانية، تروم أميركا وتحالفها الدولي ضبط التكاليف البشرية الناتجة عن مواجهة «داعش»، وفي الوقت نفسه بناء القدرات السياسية مع حلفاء الولايات المتحدة في كل من العراق وسوريا.
وحسب ورقة جيفري، صحيح أن هذه الاستراتيجية حققت في الفترة الأخيرة نجاحات ملحوظة، وتعزّزت أكثر بعد الإعدام البشع للطيار الأردني معاذ الكساسبة، لكنها ما زالت تواجه صعوبات مقدّرة لأن تنظيم داعش خصم مرن ذو خطورة استثنائية، لأسبابٍ يمكن تفسيرها على الشكل التالي:
أولا، إن الحملة العسكرية الأميركية على الأرض ستقع تحت وطأة ضغط كبير عندما تبدأ بتنفيذ هجمات كبيرة، علما بأنها تواجه سؤالا مركزيا يدور حول السيناريوهات المحتملة في كل من العراق وسوريا بعد الانتصار على «داعش».
ثانيا، ثمة خطر تحوّل حملة مواجهة «داعش» إلى مجرد عملية لاحتواء للتنظيم، وهذا يعني فشل التحالف الدولي وعودة تهديدات التنظيم من جديد. وأمام هذا الاحتمال الوارد يقدم السفير جيفري توصيته الأولى لصانع القرار السياسي الخارجي الأميركي، بأن يتصرّف «بشكل أسرع، مع أخذ مزيد من المجازفات والاستعانة بموارد أكثر وأكبر، ورفض الافتراض بأن (عامل الوقت إلى جانبنا).. فهو اليوم ليس كذلك، لا في الشرق الأوسط ولا في العالم».

* «داعش» تنظيم فريد ومرن
* بعدها يشرح جيفري ويحلل طبيعة التهديد الذي يشكله تنظيم داعش، بشكل مكمل لفكرته المركزية. فهو يعتبر أن تنظيم البغدادي ذو أبعاد خاصة وفريدة، كما أنه يمثل مخاطر طويلة الأمد في المنطقة المعروفة أميركيا بـ«الشرق الأوسط الكبير»، أي المنطقة الممتدة بين باكستان والمحيط الأطلسي. ويساعد التنظيم، حسب جيفري، وضع المنطقة التي تشهد تشكيكا شعبيا واضحا في مدى شرعية بعض أنظمتها، مصحوبا بالعودة القوية للعشائرية والقبلية والطائفية. ولأن تنظيم داعش سليل لمجموعة من الحركات المتشددة العنيفة كـ«القاعدة»، فإن حكومات المنطقة ستحتاج إلى وقت طويل لمكافحة جاذبية هذا التنظيم المنادي بـ«الوحدة الإسلامية الإقليمية»، حسب ادعاءاته.
ثم إن تنظيم داعش ليس مجرد ظاهرة جديدة للعنف والتطرف، بل هو تنظيم يسيطر على رقعة جغرافية كبيرة، ويسيّر شؤون نحو ستة ملايين نسمة، ومن هنا تأتي جاذبيته كـ«دولة خلافة» مزعومة لتُكسب التنظيم صفتي الفرادة وصعوبة المحاربة. وهذه الطبيعة الخاصة تجعل من «داعش» تنظيما مرنا يتمتع بقوة دفع ذاتي تمكنه من إلحاق الأذى بالولايات المتحدة ودول غربية أخرى، بشكل مباشر، أو عن طريق المتشددين المحليين.
كل هذا، وفق الورقة، يجعل الولايات المتحدة أمام واقع يستدعي خوض المزيد من المجازفات وتسريع العمليات الهجومية ضد تنظيم البغدادي. وعلى أميركا أن تقبل المخاطر الإضافية التي تفرضها المواجهة التي سيخوضها حلفاؤها في مدينة الموصل. ومع أنه صحيح أن الإدارة الأميركية بذلت حتى الآن جهودا كبيرة في المعركة الدولية ضد «داعش»، فإن المواجهة غالبا ما تُظهر واشنطن بمظهر الملتزم بـ«الصبر الاستراتيجي»، والملتزم به في هذا النزاع «حيث تحدّ من الموارد العسكرية التي تسخّرها للعملية أو ترصدها عن كثب، وعلى وجه الخصوص يعتبر تفادي وقوع أي خسائر أميركية أولوية استراتيجية».
أيضا، صحيح أنه لا أحد من صانعي القرار الأميركي يريد أن يرى أي خسائر أميركية، خاصة في الأفراد، في ظل المعركة، لكن هذه السياسة الصارمة المجنبة للمخاطر تسقط في مخاطر استثنائية إذا ما استمرت الحملة الدولية بهذا المستوى من البطء. ولذا، لا بد من تسريع وتيرة الأعمال الهجومية، وزيادة فعاليتها. وهذا يعني القيادة العسكرية أكثر من الإدارة الأميركية السياسية، فالقادة العسكريون يواجهون الواقع، ومن المفروض أن تمنحهم الإدارة الأميركية صلاحيات التعامل مع كل موقف، وهذا ما قد يخلق فوارق مع سياسة الرئيس أوباما الحالية.

* طبيعة السياق السياسي
* يقر السفير جيفري أن للقضية بعدا سياسيا في غاية الأهمية يشتغل عليه الطرفان المتحاربان، أميركا والتحالف الدولي من جهة، و«داعش» في الجهة المقابلة. وبناء عليه، لا بد من رد طويل المدى على هذا التنظيم وسائر الحركات المتطرفة. وهذا بدوره يتوقف على التطورات السياسية بالشرق الأوسط، إذ إن الانتصار الأميركي الدولي، سيعتمد أيضا «على التطوّرات السياسية في العراق وسوريا». ففي العراق، لا بد من التأكيد أن المناطق السنية تحتاج لحل سني عراقي، وهي عملية سبق للعرب السنّة أن نجحوا فيها مع حركة «الصحوة» بين عامي 2006 و2008. وفي الوقت الراهن توجد دينامية سياسية إيجابية بين مختلف الأطراف، إذ عيّن حيدر العبادي على رأس الحكومة بمشاركة سنية، وحُلّت بعض المشاكل العالقة مع الأكراد، مثل صفقة النفط مع كردستان العراق، وثمة موافقة على قانون جديد يخصّ «اجتثاث البعث»، و«مشروع قانون» يتعلّق بتشكيل «الحرس الوطني». في الوقت الحالي يواجه العبادي ضغطا من إيران وتهديدات من الساسة الشيعة، وكذلك تأثيرات انخفاض الإيرادات النفطية. وهنا يرى جيفري أنه على الدول العربية السنية الخليجية مساندة نظام العبادي و«العمل مع أصدقائها في المجتمع العراقي السني من أجل كسب تأييدهم». أما إلحاق الهزيمة بـ«داعش» فإنّه يتطلب على المدى الطويل التوفيق بين جميع الفئات الدينية والعرقية في العراق. وهذا بدوره سيتطلب: أولا، إلغاء المركزية، وتعميم ما تتمتع به «حكومة إقليم كردستان» راهنا على المحافظات السنية وربما في المحافظات الشيعية. وثانيا، تعهد الولايات المتحدة بتقديم التزام طويل الأمد بتوفير عدد محدود من الجنود الأميركيين لتدريب القوة الجوية وتأمينها. وثالثا، «التوضيح لإيران بأن أي مساعٍ تبذلها طهران للسيطرة على العراق واستبعاد الولايات المتحدة بالكامل ستؤدي إلى ظهور النسخة التالية من (داعش) وفي النهاية إلى تفكك البلاد، وربما أيضا إلى احتدام النزاع بين الشيعة والسنة».
أما في ما يتعلق بسوريا، فإن خطط الإدارة الأميركية تهدف لتشكيل «قوة دفاعية محلية» من أجل محاربة تنظيم داعش على ما يبدو، وليس محاربة حكومة بشار الأسد. ويرى جيفري أن الاستراتيجية الأميركية محقة في إعطاء الأولوية للعراق، لكنه يرى أيضا أن النصر هناك لن يدوم إذا ما استمر وجود التنظيم الإرهابي في سوريا. ثم إن التحالف الدولي الذي يضم الدول «العربية السنية وتركيا لن يظل متماسكا على المدى البعيد من دون وجود سياسة أميركية أكثر حزما تجاه نظام الأسد».

* الخاتمة
* لم تعبر الورقة عن وجهة نظر أميركية فحسب، بل تعدّت ذلك لرسم خطوط معينة لصانع القرار السياسي، لذلك أكد السفير جيفري أمام أعضاء لجنة الخارجية على ضرورة اتخاذ خطوات معينة ومحددة، لحماية مصالح أميركا وضمان أمنها القومي.
في المقابل، لم يلتفت الخبير بـ«معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» لمصالح وأمن الحلفاء، خاصة في منطقة الخليج. وأقرّ بشكل ضمني بأن ثمة «شرعية» للخطوات الإيرانية في العراق ما دامت لم تستبعد الولايات المتحدة بشكل كامل هناك، وطبيعة هذا الإقرار يمكن أن تجعله كافيا لطرح عدد من الأسئلة بخصوص أهداف التحالف الدولي ضد «داعش»، ومدى توافقها مع الأمن القومي لدول الخليج العربي.

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.