علماء يستبعدون الوصول قريباً إلى المناعة المجتمعية

مع تقدم حملات التطعيم في الدول الغربية، بدأت الحكومات تتطلع إلى بلوغ «مناعة القطيع»، أو المناعة المجتمعية، قبل نهاية فصل الصيف المقبل، أي ما يعادل تغطية لقاحية بنسبة 70 في المائة المحددة عادة لاحتواء الفيروس والحد من انتشاره. لكن الخبراء في العلوم الوبائية يصرون على التنبيه إلى أن بلوغ هذه النسبة ليس سوى محطة مهمة في سباق طويل مع الفيروس للوصول إلى أوسع تغطية لقاحية ممكنة للسيطرة عليه ومنعه من السريان.
وفيما تحث الدول الأوروبية خطاها لرفع القيود عن الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية، تحذر الأوساط العلمية من أن سرعة الطفرات الجديدة، وبقاء أكثر من ربع السكان من غير تلقيح، وعدم وجود لقاحات تحول دون سريان الفيروس إلى جانب منع الإصابة به، فضلاً عن عودة التواصل الاجتماعي إلى معدلاته السابقة، كلها عوامل تصب في مصلحة الجائحة وتدعو إلى عدم المراهنة على المناعة الجماعية في القريب المنظور للأسباب التالية: أولاً، قدرة «كوفيد – 19» العالية على السريان التي تجعل التغطية اللقاحية بنسبة 70 في المائة غير كافية لبلوغ مناعة القطيع التي تحددها قدرة الفيروس على الانتشار. فلو أخذنا فيروس «الحصبة» مثلاً، نعرف أن كل مصاب ينقل العدوى إلى خمسة عشر شخصاً آخرين، ما يستدعي تلقيح 95 في المائة من السكان كي لا ينتقل الفيروس من مصاب لأكثر من شخص واحد. وفي حالة كوفيد، إذا صحت التقديرات الأولية بأن كل مصاب ينقل العدوى إلى ثلاثة أشخاص تكون نسبة 70 في المائة كافية لبلوغ مناعة القطيع. لكن الدراسات الأخيرة تشير إلى أن المصابين بكوفيد، خاصة بالطفرات الجديدة، ينقلون العدوى إلى أكثر من ثلاثة أشخاص، ما يقتضي رفع نسبة التغطية اللقاحية اللازمة لبلوغ المناعة الجماعية إلى 85 في المائة من السكان.
ثانياً، الطفرات الجديدة التي تنشأ عن تحور الفيروس بهدف البقاء وزيادة قدرته على السريان. الأوساط العلمية ما زالت على تفاؤلها من حيث فاعلية اللقاحات ضد الطفرات المعروفة، لكنها تنبه إلى أن مجرد وجود طفرات سريعة الانتشار يستدعي مراجعة نسبة التغطية اللقاحية اللازمة لبلوغ مناعة القطيع، وكان عدد من الخبراء البريطانيين دعوا مؤخراً إلى إعادة النظر في هذه النسبة بعد نشر نتائج الدراسات التي أكدت أن الطفرة البريطانية أسرع من الطفرة الأصلية بنسبة 40 في المائة. وتجدر الإشارة إلى أن عدد الإصابات الجديدة في المملكة المتحدة يواصل ارتفاعه للأسبوع الثالث على التوالي رغم أن ما يزيد على 70 في المائة من السكان تناولوا حتى الآن الجرعة الأولى من اللقاح. وتقول كارين ليفي، أستاذة العلوم الصحية في جامعة واشنطن: «بقدر ما تزداد نسبة العدوى التي يسببها الفيروس، بقدر ما ترتفع احتمالات ظهور طفرات جديدة قادرة على الإفلات من مفعول اللقاحات، أكان في الهند أو في الولايات المتحدة. لذلك لن يكون أحد في منأى عن هذه الجائحة إلى أن تتم السيطرة عليها في جميع أنحاء العالم».
ثالثاً، الأشخاص غير الملقحين عند الوصول إلى نسبة 70 في المائة من التغطية اللقاحية. هؤلاء يشكلون ثلث السكان، ويشملون ليس فقط أولئك الذين ليسوا ضمن الفئات التي استدعيت لتناول اللقاح، بل أيضاً الذين يرفضون تناول اللقاح، والذين لا يستطيعون تناوله بسبب من ظروفهم الصحية. لذلك ينصح خبراء العلوم الوبائية باحتساب التغطية اللازمة لبلوغ المناعة الجماعية استناداً إلى نسبة السكان الملقحين التي تحول دون انتشار الفيروس ضمن المجموعة. وينبهون إلى أن الغالبية العظمى من الثلث غير الملقح هم من السكان دون الثلاثين من العمر الذين يمكن أن يصابوا بأعراض خفيفة، لكنهم ينقلون الفيروس إلى الآخرين. وهذا ما دفع معظم الدول الأوروبية مؤخراً إلى فتح حملات التلقيح على كل الفئات العمرية.
رابعاً، فاعلية اللقاحات ضد الإصابة وعجزها عن منع العدوى. تتوقف الأوساط العلمية عند قدرة اللقاحات على منع الإصابات الخطرة بالفيروس والوفيات، مقارنة بعجزها عن وقف نقل الوباء من شخص لآخر. وقد بينت دراسات أن الملقحين والمعافين من كوفيد يمكن أن ينقلوا الفيروس رغم عدم ظهور أعراض عليهم، لذلك من المستحسن أن تكون نسبة السكان الذين يمكن أن يصابوا بالفيروس متدنية إلى أقصى حد ممكن.
خامساً، السلوك الاجتماعي. تذكر كارين ليفي أن هذا الفيروس يسري بسهولة فائقة، إذ يكفي أن يقوم الناس بحركة يمارسونها كل يوم بلا انقطاع التنفس. ويقول ألكسي تكاشنكو، الخبير في المناعة الجماعية من جامعة إيلينوي: «مثلما تتباين احتمالات إصابة الأشخاص بالوباء حسب العمر أو الوراثة أو الوضع الصحي، يختلف سلوكهم الاجتماعي من حيث التواصل القريب ووتيرة التفاعل على مر الفصول. لذلك، لا بد من الانتباه إلى عدم اعتبار تراجع معدل السريان مؤشراً طويل الأمد على المناعة، لأن التغيير في السلوك الاجتماعي يمكن أن يؤدي إلى ظهور موجات وبائية جديدة». ويعتبر تكاشنكو أن ذلك يجعل من مناعة القطيع حالة عابرة، ويدعو إلى تكثيف حملات التطعيم على أوسع نطاق، ومراقبة الطفرات السريعة عن كثب، والتأهب للعودة إلى تدابير الوقاية والاحتواء عند الحاجة.