«لغات الحقيقة»... رؤية مشوشة تعكس مفكراً مرهقاً مشغولاً بذاته

كتاب سلمان رشدي الجديد يخلو من مقدمة تبرر نشره ولماذا الآن؟

«لغات الحقيقة»... رؤية مشوشة تعكس مفكراً مرهقاً مشغولاً بذاته
TT

«لغات الحقيقة»... رؤية مشوشة تعكس مفكراً مرهقاً مشغولاً بذاته

«لغات الحقيقة»... رؤية مشوشة تعكس مفكراً مرهقاً مشغولاً بذاته

في المجموعة الجديدة من المقالات التي نشرها الروائي سلمان رشدي تحت عنوان «لغات الحقيقة» تبرز طموحات عالية. وكما يشير العنوان الجانبي للمجموعة فإن الهدف هو التعامل مع الانقلاب السياسي والثقافي الذي أحدثه هذا القرن وهو لما يزل في بداياته. يفتح رشدي ذراعيه واسعتين ليعانق كل شيء من روايات فيليب روث إلى موت أسامة بن لادن إلى فن الكارا ووكر، في مسعى للتعبير عن إحساس بالتحدي مثلته تلك الثمانية عشر عاماً للثقافة الأدبية الغربية. لكن محاولة رشدي في فتح ذراعيه حول كل شيء دون تمييز تؤدي إلى رؤية مشوشة لهذا القرن، مبرزة مفكراً مشغولاً بذاته ومرَهقاً، عيناه لا تزالان تجوسان هموم الأمس.
لقد اختط رشدي لنفسه مساراً، كما هو معروف، بوصفه مفكراً سياسياً في أوائل الألفية الثانية، مشهراً سلطة فكرية وأخلاقية اكتسبها نتيجة للجدل الذي أحدثته الفتوى سيئة السمعة عام 1989 حين دعا آية الله روح الله الخميني إلى قتل رشدي بعد نشر روايته «آيات شيطانية». في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) تحدث الكاتب بقوة ضد «التطرف الإسلامي» بصفة خاصة والدين بصفة عامة بوصفهما إطارين دوغمائيين يشكلان تهديداً وجودياً للقيم الليبرالية المتمثلة بحرية التعبير والفردانية.
كل ذلك مفاده أن رشدي روائي باستثمارات سياسية محددة، مع أن ذلك لا يتبين لك من الكيفية التي قُدم بها كتاب «لغات الحقيقة» من الناحية التحريرية.
يخلو الكتاب من مقدمة يمكنها توضيح المبررات التي يعتمد عليها الكتاب: لماذا نشرت هذه المجموعة من المقالات، والمقدمات، والكلمات – ولماذا الآن؟ القليل من النصوص تضمنت تواريخ نشرها، ولذا فإن القراء سيتعبون في التعرف على السياق التاريخي والسياسي المحيط بالنصوص. ينقسم المؤلَّف إلى أربعة أجزاء، لكن لأن تلك الأجزاء بلا عناوين فإن المنطق وراء تنظيمها ليس أكثر من مجرد إيحاء. لا يجد القراء خطة طريق عبر المجموعة، وليس بوسعهم فهم مقاصد رشدي، ما يجعل انتقائية الكتاب مأخذاً عليه.
تتضح الأمور بمجرد أن نصل إلى نقد رشدي، النقد الذي يظهر شهية ثقافية شمولية، تتشهى الأساطير الهندوسية الكلاسيكية بقدر تشهيها روايات صامويل بيكيت. في المقالة الافتتاحية «حكايات عجائبية» – وهي أقرب ما يكون إلى تحديد طبيعة الكتاب – يتتبع رشدي انتشار القصص الهندية في فارس والعالم العربي وأخيراً أوروبا، لتصبح ما نعرفه الآن بالليالي العربية (ألف ليلة وليلة).
يقول: «هذه الهجرة العظيمة للسرد ألهمت الكثير من أدب العالم لتصل إلى الواقعية السحرية لدى كتاب الأساطير في أميركا الجنوبية، إلى حد أنني حين استعملت بعض هذه الأدوات بدوري كان لدي شعور باكتمال الدورة بعودة ذلك الموروث القصصي إلى البلد الذي انطلقت منه». هذا الالتزام بأدب كوكبي قبل تبلوره يبرز في أكثر لحظات المجموعة تماسكاً، مبرزاً اعتقاد رشدي أن الأدب منغرس بطبيعته في التعددية والهجرة والتبادل. ويبدو اعتقاد رشدي قديماً إلى حد كبير في لحظة يكتفي فيها الناس بتقييد أنفسهم بقيود الملْكية الثقافية.
لسوء الحظ أن تلك هي أكثر الملاحظات أهمية حول السياسات الثقافية في هذا الكتاب. في الأماكن الأخرى نرى رشدي أقرب إلى العبارات الباردة التي تبعث على الفتور، عبارات تقف عند حواف المتعة. في تحيته لروث يعلن أن الروائي الأميركي الراحل كان «نبياً سياسياً» تنبأت روايته «المخطط المناهض لأميركا» بقيام ذلك المد السياسي اليميني الذي رأيناه تحديداً في عهد دونالد ترمب: «في سرديتها التاريخية البديلة والمتخيلة حول تسنم الطيار الشهير تشارلز لندبرغ الرئاسة، ذلك الديماغوجي الشعبوي، الانعزالي المتطرف، والعنصري المعادي للسامية، الرجل الذي وجد أن من السهل التعايش مع أدولف هتلر والذي أوضح، عند فوزه في الانتخابات، التحيز الأميركي الخفي المظلم». يقول رشدي إنه حين قرأها للمرة الأولى لم يقتنع: «أتذكر أنني لم أصدقها، أنها كانت بالغة التطرف، أنه، باختصار، لم يكن ممكناً لذلك أن يحدث هنا». هذه القراءة غير موفقة لسببين، أنها تناولٌ ممل لسياسات روث ولأنها لحظة من لحظات التخيل السياسي الأجوف الذي يبدو مناسباً لنوادي القراءة في فترة ما بعد 2016 أكثر منها لأحد العقول المحترمة في الفضاء الغربي العام.
في أماكن أخرى يكرر هجماته المستهلكة على العقيدة الدينية، الهجمات التي لا يمكن قبولها ليس لأنها مهينة وإنما لأنها بذات القدر من ضيق الأفق والدوغمائية اللذين تتسم بهما المعتقدات التي يريد تجاوزها. في مقالة بعنوان «نزعة الحرية» يقول: «تجاوز الآلهة يعني ولادة الحرية الفردية والاجتماعية»، غير عابئ بموروثات دينية كاملة تتجذر في الصراع من أجل الحرية. وفي افتقار مؤلم للوعي الذاتي، يعود رشدي بعد مقالات قليلة ليحذر الخريجين في حفل تخرج جامعي: «إن قوة العقائد الجامدة لم تخفت». فقط لو أنه انتبه لقوة معتقداته هو كانتباهه لقوة معتقدات غيره.
تصل هذه المقالات إلى أفضل حالاتها حين يدرب رشدي اهتمامه على الأدب. مقالة حول شكسبير توحي بالبهجة المدوِّخة والكامنة في قراءة «هاملت»، المسرحية التي لا تحتاج إلى من يوصي بها ولكن قد يحتاج الناس إلى التذكير بها. يوافق رشدي على أن «هاملت» حكاية أشباح، ولكنها تتجاوز ذلك «لأنها لا تتوقف عن تغيير شكلها لتصير حكاية قتل تارة، ودراما سياسية حول المؤامرات في بلاط دنماركي تارة أخرى، وتهديداً بغزو يقوم به فورتنبراس، ومأساة انتقام، وحكاية حب مأساوي، ومسرحية ما بعد حداثية حول مسرحية أخرى». هنا يصير رشدي قارئاً – ليس مبدعاً على نحو استثنائي، وإنما قارئ يتميز بحماسته وحساسيته للمتعة.
من المؤسف إذاً أن النقد الفعلي للأدب في هذه النصوص يدع الكثير مما لم يتحقق. يميل رشدي إلى الملاحظات السهلة التي لا تتطلب حدة في الذهن من جانبه. في المقالة المبكرة «حكايات عجائبية» يقيم ثنائية كسولة يعود إليها طوال المجموعة، ثنائية بين السرد الواقعي من ناحية، والسرد «الخرافي» من ناحية أخرى. في الشكل الذي يتبناه من التأريخ الأدبي يتفوق الواقعي على الخرافي الذي انتهى إلى تشكيل معتمد (كانون) متوارٍ. وليس من المهم أنه يستشهد بكتّاب مثل كارين رسل وكارمن ماريا ماكادو وهيلين أوييمي – ثلاثة من أكثر كتابنا المعاصرين شعبية وعلواً في التقدير النقدي – بوصفهم ممارسين لهذا التقليد الخرافي.
الجانب المخيب للأمل أكثر من غيره في هذه المجموعة هو أن أسماء مثل أوييمي وماكادو قليلة ومتباعدة الصفحات. الكتاب الملونون والمثليون يشكلون حضوراً شبحياً ضمن إطار رشدي، الإطار الذي يقدس أناساً مثل ميلان كونديرا وشكسبير في حين أنه يومئ إيماءً باتجاه نجوم ساطعة مثل توني موريسون. سيجد القارئ القليل من المحاولات للتغلب على التحديات التي يفرضها علينا القراء غير البيض في إدراك مفاهيم مثل حرية التعبير والحرية الفردية. والنتيجة هي كتاب يُشعرنا بمحدودية همومه السياسية وبأنه غير واعٍ بالقضايا الأشد إلحاحاً في مواجهة الثقافة الأدبية المعاصرة في هذا القرن.

* من الفتوى إلى الخرافة: سلمان رشدي يقيّم القرن الـ21
* خدمة «نيويورك تايمز»



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.