شخصيات تتسق مع تراكمات الواقع وتبدو إفرازاً له

سمير الفيل يتناولها في «أتوبيس خط 77»

شخصيات تتسق مع تراكمات الواقع وتبدو إفرازاً له
TT

شخصيات تتسق مع تراكمات الواقع وتبدو إفرازاً له

شخصيات تتسق مع تراكمات الواقع وتبدو إفرازاً له

يكشف الإهداء الذي يتصدر المجموعة القصصية «أتوبيس خط 77» عن بعض ملامح العمل الأساسية، حيث يعلن المؤلف سمير الفيل، منذ البداية، انحيازه للبسطاء والمهمشين وحرصه على تسجيل حكاياتهم الأصلية قبل أن يرحل أصحابها ويطويها النسيان.
المجموعة صدرت عن دار «غراب» بالقاهرة، وفازت مؤخراً بجائزة «ساويرس» للقصة القصيرة، وهي تحفل بحكايات منحوتة من الواقع المصري، لا سيما في مدينة دمياط الساحلية، شمالي مصر، مسقط رأس المؤلف، التي تشكل بطابعها التجاري والصناعي إطاراً مكانياً محدداً للتجربة.
يشكل الهم الاجتماعي وعالم الطبقات الفقيرة، سمة لافتة في المجموعة، حيث تتسع المسافة بين الحلم والواقع، بل تصبح كابوساً أحياناً، وهو ما يطالعنا في قصة «أسيل» أطول نصوص الكتاب، حيث تتعدد خيوط الحبكة، فثمة زوج ضعيف الشخصية (الإتربي) منسحق أمام زوجته ذات البأس والشكيمة (نوارة)، يهرب من واقعه إلى عالم المخدرات، تاركاً زوجته تقرر مصير ابنته (أسيل) التي أنجبها من زيجة سابقة لم تكلل بالنجاح. تقرر الزوجة الحالية فصل الابنة من المدرسة توفيراً للنفقات ثم تزويجها لشاب بلا مميزات وهي لا تزال دون السن القانونية. نرى كل ذلك بعيون الراوي وهو جار للأسرة يقع في غرام أسيل الجميلة المهمشة ذات الأحلام المنسية، لكنه يقمع مشاعره بواقعية، حيث إنه أعلن عن خطبته لفتاة لا يبدو أنه يحبها، كما أن عدداً لا بأس به من السنوات يفصل بينهما. يشير الراوي إلى تلك المفارقة بعبارة لا تخلو من السخرية مخاطباً القارئ: «سأقول لك يا صديقي إن الزواج شيء، والحب شيء آخر، وأكتفي بهذا القدر من الكلام، وأسكت سكوتاً مريباً!».
توافق «أسيل» على الاقتران برجل لن تشعر معه سوى بالتعاسة فقط من أجل الهروب من زوجة أب اعتادت على ضربها وطردها من البيت، ليعطف عليها الراوي العاشق الذي يخفي مشاعره ويتظاهر بالحياد تغليباً لحسابات العقل والواقع. تمر السنوات وتعود «أسيل» للمكان أكثر نضجاً وتصالحاً مع الأيام بصحبة ابنها. تلتقي الراوي فتخبره أنها كانت تنوي تسمية الابن على اسمه، لكنها خشيت من زوجها، ثم يودعان بعضهما في صمت ونظرات تقول الكثير.
يتجدد الصراع نفسه في قصة «نجوى»، حيث تتعرض فتاة بريئة لموقف شديد الخذلان على يد شاب مستهتر تزوجها ثم رحل للعراق، في الثمانينات، ليعمل بمصنع لتعبئة التمور ثم نسيها تماماً، لا يرد على خطاباتها ولا يرسل لها ما تحتاج إليه من أموال، خاصة بعد أن أنجبت بنتاً سمّتها «نجوى». وبعد عدد من تجارب الحب والزواج الفاشلة، تقطع خيط الأمل الواهن فتهجر الرجال إلى الأبد وتقرر التفرغ لتربية ابنتها، تميمتها الوحيدة للسعادة والحظ.
ولا يخلو القص من مسحة مفارقات بالغة المرح والقسوة معاً، ففي قصة «أم إحسان» تطلعنا صورة كاريكاتورية لزوجة وديعة طيبة لكنها في لحظة الغضب تتحول إلى كائن شرس، تكاد تفتك بزوجها أكثر الناس قرباً منها: «تحاصره في الركن وتلكمه بقبضة يدها ولا تلتفت لصراخه بل تزداد توحشاً. وبعد أن تتعب، تنسحب خطوتين، فيما هو يتفقد بطنه ووجهه وعنقه الذي خُنق لدقائق ثم يرتمي على المقعد القطيفة الأزرق، وهو يهددها: سوف أهرب، وأتركك للذئاب تفترسك!».
تسيطر النساء على أجواء المجموعة بشكل واضح، كما يشكلن بؤرة الصراع مع الرجل وهموم الحياة، لكن هذه البطولة تتراجع لأول مرة في قصة «عطارد الغلبان»، ليصبح الرجل مركز الحدث، ولكن عبر قصة مفجعة مكللة بالحزن تحمل رغم بساطتها تساؤلات حائرة حول مغزى الموت والحياة، فبعد أن رجع «عطارد الغلبان» من جنازة بناته الثلاث أغلق محل «الفول والطعمية» الذي يتكسب منه مصدر رزقه، ولم يره أحد ضاحكاً بعد ذلك قط، وهو الشخص المعروف بخفة الظل والمرح والسخرية من كل شيء في الوجود حتى من نفسه شخصياً. كان موت بناته الثلاث حادثة مروعة اهتزت لها المدينة. ورغم إيمانه العميق بالقضاء والقدر، فإنه ظل يفكر والحيرة تعتصره، في مغزى أن تصعد سيارة إلى الرصيف فتدهس البنات، وهن يتخيرن ثوب زفاف أبيض لأختهن الكبرى العروس سامية. يتساءل الرجل وهو يدفن المأساة في قلبه على طريقة التراجيديات الكبرى: لماذا انحلت المكابح في تلك المنطقة بالذات؟ ولماذا لم تدخل بناته محل الملابس لقياس فستان بعينه بدلاً من التلكؤ أمام الفاترينة؟ أو لماذا على الأقل لم يتقدمن دقائق أو يتأخرن ساعات ليفلتن من مصيدة الموت؟
تتسق شخصيات المجموعة مع تراكمات الواقع اجتماعياً وإنسانياً، وتبدو إفرازاً له، فهي طالعة من لحمه ودمه، ترسم بالعيش والكدح تحت مظلته شهادة حية من المرارة والحرمان والعبثية أيضاً: زوج يطمع في مال زوجته، مرتادو مقهى من العجائز لا يحتسون سوى النعناع والينسون. ولا يكترث الفيل بالخيال وتداعياته، بل يرى الواقع أشبه بقطعة من الصلصال في انتظار مَن يشكلها. لذلك تتحرر القصص من المجاز وزخارفه اللغوية والبلاغية، كما لا يولي الفيل اهتماماً باستخدام تقنيات سرد حداثية أو ما بعد حداثية، في المقابل يشكل التراث الشفاهي ملمحاً أساسياً في بلورة فعل الحكي وتنميته درامياً، ويستفيد الفيل هنا من تجربته القديمة كشاعر عامية. لذلك تبدو القصص بمفارقاتها وصراعاتها، وكأنها انعكاس حي لمرآة الواقع والحياة معاً، رحلة في أتوبيس مكدس بالبشر، تتكرر عشرات المرات وعلى الطريق نفسه يومياً.



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.