تحفل السرديات العربية؛ كما الأجنبية، بتعبيرات وتصورات تحط من صورة عرب الجزيرة العربية، وتلمزهم بـ«الصحراء» و«البداوة» و«الإبل»، وأحياناً بـ«النفط»، مما طرح تساؤلات قديمة - جديدة حول صورة «الخليجي» و«عرب الجزيرة» في المخيال العربي... هل هي تمثل شكلاً من أشكال الاستعلاء عبر تكريس مفهومي: المركز والهامش؟ هل وراءها خطابات ثقافية وإعلامية في المقام الأول تنهض على مخيال منفصل عن الواقع، يريد تأطير إنسان هذه الأرض للأبد في «محطة البداوة؛ أم هناك ضرب من حقد دفين يتوارى خلف المصالح السياسية والاقتصادية؟».
«الشرق الأوسط» طرحت هذه التساؤلات على عدد من الباحثين والأدباء والنقاد والمهتمين بهذا الشأن، وجاءت إجاباتهم على النحو التالي:
مرزوق بن تنباك: أهل الخليج لم يعودوا قابعين في «القولبة»
بداية؛ يجيب الدكتور مرزوق بن تنباك، الناقد والأستاذ في كلية الآداب بجامعة الملك سعود، بشيء من التفصيل عن هذه التساؤلات، حيث يرى أن «المخيال الأدبي العربي رسم للخليج وأهله صورة غير محببة تفنن في تكبيرها نزار قباني قبل خمسين عاماً أو تزيد، وانطبعت في أذهان كثيرين؛ حتى إن بعض أهل الخليج يرددون تلك الصورة ويعجبون بها. وليس غريباً أن يرى العرب في هذه الأمصار شيئاً جديداً على ثقافتهم، وهي ثقافة حادثة تمتزج بالصحراء وقيمها ومعارفها، مع ما يظهر في تصرفات بعض أهل الخليج مما يثير الحسد بعد أن بدأت عوائد البترول تصب في أيديهم، وهو أمر يحدث مثله في تنازع الثقافات والعادات حتى وإن تقاربت».
وعدّ ابن تنباك أن هذه النظرة في ظنه «مزيج من شعور الاستعلاء في وجه من وجوهها، وفي وجه آخر شعور بالتحدي الذي لم يكونوا يتصورون أن يأتي من سكان الجزيرة العربية التي يقيسون الفوارق بينهم وبين سكانها بمقياس التقدم في الزمن البعيد، حيث كان البعث الثقافي والعلمي قد سبق في البلاد العربية أهل الخليج بسنوات طويلة، وكانت حواضر العالم العربي ومدنه الكبيرة واتصاله بالنهضة الغربية سابقاً لسكان الجزيرة العربية بسنوات طويلة، وعقود من التحضر والتعليم والتكوين الحضاري مع شيء مهم جداً؛ وهو أن الجزيرة وسكانها منذ الأزل هم سكان الصحراء العربية، والخلاف كبير بين أهل المدن والأرياف والأنهار، وطبيعة عملهم، وبين سكان الصحراء وما يمارسون من أعمال وعادات وتقاليد، وهو أمر مؤثر لا شك لدى كلا الطرفين».
وحول كيفية الخروج من هذا القالب المتعسف، أجاب ابن تنباك بالقول: «كسر القوالب سهل عندما تضيق بما فيها وتتسع لغيرها، والقالب لم يعد قادراً على ضبط ما فيه؛ لأن أهل الخليج لم يعودوا قابعين في القولبة التي يضعهم فيها العرب؛ فالجامعات ومراكز البحوث ودور النشر والمساهمات الفعالة في الشأن الثقافي والفكري تجاوزت مساحة القالب؛ كما ذكرت، وحتى في الاقتصاد، وهو عصب الحياة والمحرك الأقوى، أصبحت دول الخليج وأهل الثروات منهم ينافسون على مكانة متقدمة في العالم، وحسبنا أن المملكة إحدى دول العشرين الأولى في عالم الاقتصاد والمال والتأثير العالمي».
محمد العباس: إنها سرديات مقولبة
أما الناقد السعودي محمد العباس، فأجاب عن هذه التساؤلات، بالقول: «الصور السلبية لعرب الجزيرة العربية في السرديات العربية والغربية مردها خطابات ثقافية وإعلامية في المقام الأول تنهض على مخيال منفصل عن الواقع، يريد تأطير إنسان هذه الأرض في محطة البداوة، باعتبارها اللحظة المتخثرة من التاريخ؛ بتعبير آرنولد توينبي. هي سرديات مقولبة وموجهة للحط من قدر عرب الجزيرة العربية وإبقائهم خارج التاريخ، وتثبيت معادلة المراكز والأطراف. حيث يُحمّلون إثم الانحطاط الحضاري بما يشكلونه من عبء على عرب التحضر والتقدم العلمي؛ حسب تصورات الآخر العربي المحمول على عقد التفوق والكفاءة، مقارنة بالبدوي الذي وجد نفسه فجأة يسبح على بحر من النفط، فسخّر هذا الثروة الهائلة لإبطاء حركة النهضة العربية وتأخير لحظة استحقاق الوحدة العربية بالتواطؤ مع الغرب... وغيرها من الدعاوى التي أثمت النفط العربي؛ الخليجي تحديداً، ورفعته إلى مرتبة العائق التنموي، كما يبدو ذلك جلياً في أدبيات اليسار العربي والحركات القومية بمجملها، والأفكار التي توصف بالعصرية والتقدمية، التي نادت بالانفصال عن ثقافة بدو الجزيرة العربية والالتحاق بالثقافة الأوروبية المتمثلة في الفضاء المتوسطي، كدعوة طه حسين، وشارل مالك، ويوسف الخال... وغيرهم، في الوقت الذي كان فيه الغرب ينظر إلى إنسان الجزيرة العربية على أنه كائن متخلف يتحكم في مصادر الطاقة من خلال صور كاريكاتورية مستفزة».
يمضي العباس للقول: «هذا هو ما يفسر، كثقافة، الصور السلبية حول عرب الجزيرة العربية في الشعر والروايات والدراما التلفزيونية والسينمائية، رغم الإنجاز التنموي الهائل الذي حققه إنسان هذه الأرض من خلال خطط تنمية كبرى على مدى عقود من التعليم والتدريب والابتعاث للخارج، تشكل على أثرها طابور من المثقفين المهنيين الذين يقودون اليوم دولهم باقتدار في مختلف الحقول الطبية والمصرفية والتربوية والتقنية، حيث بدا الفرق على درجة عالية من الوضوح بين عرب الجزيرة العربية الذين كان يُنظر إليهم على أنهم هامش، مقابل عرب المراكز الحضارية الذين يعانون من البطالة وبطء التنمية وسوء الإدارة وارتباك منظومة القيم. حتى الحركات الأصولية التي كان عرب العواصم التنويرية يتهمون بها عرب الجزيرة العربية بدت أكثر صخباً وخطراً في المراكز التي كان يُنظر إليها على أنها فضاءات حضارية محصنة ضد التطرف والإرهاب. بمعنى أن الآخر العربي الذي أراد تصدير أزماته وتبرير خيباته من خلال تحميل مجتمعات النفط والبداوة وزر لحظة الهبوط الحضاري، صار أمام صورة مقلوبة لا يجرؤ على الاعتراف بها أو حتى التسليم بالمتغيرات التنموية، لئلا يخسر موقعه على أنه مركز لصالح هامش آخذ في التمدد، ولذلك واصل ترديد الهجائيات المزمنة حول البدوي الذي يمتلك من الثروة ما لا يقابلها من منظومة القيم».
ويلاحظ العباس أنه، «في المقابل، يعجز إنسان الجزيرة العربية عن تبديد تلك الصور النمطية المتكلسة وتصدير صورته الجديدة، وذلك بالنظر إلى وجود مضخة خطابات تعمل بلا هوادة لتقزيم إنسان الجزيرة العربية، في الوقت الذي لا تبذل فيه المؤسسات الثقافية أي جهد يذكر لإبراز مظاهر الحداثة والعصرنة التي يعتنقها إنسان تشكل في حاضنات التنمية. وإذ يغيب الحوار العقلاني من بين عرب منفوخين بحس الاستعلاء، وعرب محقونين بروح المناددة، يحدث التصادم دائماً بصور لا عقلانية وضمن نوبات غضب وتشاتم، ولا سبيل للحد من كل تلك المعارك الخالية من شرف المخاصمة إلا بحوار مفتوح يضع الإنسان العربي عموماً أمام أولويات نهضة بدلاً من التقاتل الداخلي».
سعيد السريحي: ضرب من حقد دفين
ورداً على تساؤلاتنا، يقول الكاتب والناقد الدكتور سعيد السريحي: «في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الأولى كان من المقرر، حسب مكاتبات الشريف حسين ومكماهون، وبناء على تحديدات (سايكس - بيكو) ومقررات (مؤتمر باريس)، أن يكون الشريف فيصل بن الحسين بن علي ملكاً على سوريا الكبرى، والتي كانت تضم سوريا ولبنان آنذاك، غير أن السوريين ثاروا على ذلك القرار قبل أن يثوروا على قرار وضعهم تحت الانتداب الفرنسي، ولا أحد ينكر عليهم أنهم فعلوا ذلك بعد ذلك، كما لا أحد ينكر عليهم أن يرفضوا حاكماً منتدباً من منطقة أخرى، لولا أن رفضهم استند إلى خطاب استعلائي إقصائي تصنيفي تمثل في ذلك السؤال الاستنكاري الذي تردد على ألسنة كتابهم حين كتبوا، وخطبائهم حين وقفوا يخطبون في الميادين: (كيف يحكمنا واحد من هؤلاء البدو؟)...
ولَم تكن مكة المكرمة، التي ينتمي إليها فيصل بن الحسين بن علي، والتي انطلقت منها الثورة التي ساهمت في تحريرهم من نير الاحتلال التركي لبلاد الشام، وآوت قبل ذلك ثوارهم ومفكريهم حين استبد بهم الحاكم التركي، غير جزء من الجزيرة العربية التي ينظرون إليها نظرة دونية ويحكمون على أهلها بالبداوة، ثم لا يرونهم مستحقين شيئاً مما كسبوا، فضلاً عن استحقاقهم لما هو أفضل مما استطاعوا، ولَم يكونوا قد حققوا شيئاً غير استبدال الانتداب الفرنسي بالاحتلال التركي، وحين تحقق لهم بعد عقود الاستقلال؛ دخلوا في تجارب متوالية من تعاقب الزعامات وتناوب الأحزاب، والتي انتهت بهم جميعاً إلى حال أصبحت فيها سوريا ولبنان، في وضع أشد بؤساً من وضعهما في زمن الاستعمار».
يضيف السريحي: «هذا الوضع المتدهور الذي انتهت إليه بلاد الشام؛ وعلى رأسها لبنان، حوّل ذلك الاستعلاء الذي كان يشعرون به تجاه عرب الجزيرة والذي كانوا ينظرون من خلاله على أنهم هم الحضر، وعرب الجزيرة لا يزيدون على أنهم بدو وأعراب، إلى ضرب من حقد دفين يتوارى خلف المصالح السياسية والاقتصادية، ويُسفر عن وجهه حين تمس الظروفُ تلك المصالح... حقدٌ دفين تتكشف عنه أدبيات خطب قسم من الزعماء وقصائد شعراء وأحاديث مثقفين إذا ما خلوا لأنفسهم، وزاد من حدة ذلك الحقد ما كانوا يشهدونه، وإن كانوا لا يعترفون به، من تطور وتنمية واستقرار يلمس كل جوانب الحياة في أرض أولي (البدو) خاصة بعد توحيد السعودية، وخروج بقية دول الخليج من دائرة الانتداب البريطاني، ومضيهم جميعاً في طريق التقدم بخطى ثابتة ومستقرة، مقارنة بما كان يحدث في بلاد الشام من تعثر التنمية واضطراب الاستقرار وخروج من نفق مظلم إلى نفق أشد ظلاماً».
ويمضي السريحي بالقول: «حين راحوا يلتمسون لأنفسهم مقومات مجد لم يجدوها في غير تاريخ قديم أسسه لهم هؤلاء الذين سموهم بدواً، ممثلاً في الدولة الأموية، أو وجدوه فيما بقي لديهم من الإرث الاستعماري الذي غادر أراضيهم وترك لهم بعض قشوره وأنماط عيشه، فتوهموا أنهم قد نالوا من حضارة ذلك المستعمر ما لم ينله أولئك البدو، وتجاهلوا بدو أوطانهم الذين ما زالوا يعيشون في قراهم وبلداتهم الصغيرة بعيداً عن ترف مدنهم الكبرى، وتحوّل مصطلح (البدو) لديهم إلى علامة مسجلة لعرب الجزيرة دولاً وأنظمة وشعوباً ومدناً، وأصبحت (البداوة)، بعد فصلها عن قيمها، وصمة لا يجدون ما هو أشفى لغيظهم منها حين يستبد بهم الغيظ على أهل الجزيرة شعوباً ودولاً».