إدوارد سعيد... اهتمامات انتقائية متناقضة لا تهدأ

«أماكن العقل» سيرة جديدة عن صاحب «الاستشراق» كتبها تلميذه السابق

«أماكن للعقل: سيرة لإدوارد سعيد»
«أماكن للعقل: سيرة لإدوارد سعيد»
TT

إدوارد سعيد... اهتمامات انتقائية متناقضة لا تهدأ

«أماكن للعقل: سيرة لإدوارد سعيد»
«أماكن للعقل: سيرة لإدوارد سعيد»

نشر إدوارد سعيد عام 1986 كتاب «ما وراء السماء الأخيرة» الذي تعاون فيه مع المصور السويسري جان مور. وقد مزج الكتاب صوراً لحياة الفلسطينيين اليومية الموزعة بين الضفة الغربية وغزة والأردن ولبنان، مع تعليقات بقلم سعيد. في ذلك الوقت، لم يكن قد عاد إلى مسقط رأسه الذي كان فلسطين في عهد الانتداب، منذ هرب منها في ديسمبر (كانون الأول) 1947 وعمره 12 عاماً. روايته لصور مور كانت نوعاً من العودة البديلة. كتب سعيد وهو ينظر إلى المشروع بعد 13 عاماً: «إنه كتاب غير متصالح، كتاب تظل فيه متناقضات ومتضادات حياتنا وتجاربنا كما هي، مجمَّعة (كما آمل) ليس في كليات مرتبة، ولا في ذكريات عاطفية للماضي».
عبارة «كتاب غير متصالح» مناسبة ليس فحسب لوصف كتاب «أماكن العقل: سيرة لإدوارد سعيد»، السيرة الجديدة التي ألفها تلميذه سابقاً تيموثي برينان، وإنما أيضاً -أو على الأقل جزئية «غير متصالح»- صورة المفكر المعارض التي تبرز منه: فلسطيني وأميركي، قاهري ونيويوركي، متباهٍ وغير مطمئن، داعم أنيق اللباس للتمردات المقاومة للاستعمار ومناصر علني للحق الفلسطيني في تقرير المصير لم يسبق له أن درَّس مادة عن الشرق الأوسط.
يعتمد برينان على حشد باهر من المواد لكي يدوّن أول صورة شاملة لأحد أكثر مفكري أميركا تميزاً في فترة ما بعد الحرب: مقابلات مع أسرة سعيد وأصدقائه وزملائه؛ مراسلات؛ مقالات؛ شعر وسرد لم يُنشر، بالإضافة إلى ملفات مكتب التحريات الفيدرالي (إف بي آي) حوله. ومع ذلك، ففي تسجيل المساحة الضخمة من تأثير سعيد يجنح الكتاب أحياناً إلى ألا يتجاوز الإنش الواحد في العمق. كثير من الأفكار التي يقدمها برينان -مثل لماذا نعتمد على الشعر، وليس على السرد، ليكون مفتاحاً لتكوين سعيد الفكري- يجري التخلي عنها لاحقاً، مثل لفة فيلم لم تُحمّض.
ولد سعيد في القدس عام 1935، ونشأ في القاهرة، ثم تمكن -وإن جزئياً- من متابعة تعليمه في جامعة أميركية مرموقة نتيجة كونه استحق بالوراثة جواز سفر أميركي.
كان أبوه قد هاجر لوقت قصير إلى الولايات المتحدة، وصار مواطناً أميركياً، في أثناء الحرب العالمية الأولى، ولكنه عاد إلى الشرق الأوسط ليدير تجارة ناجحة ببيع الورقيات لمكتب بريطاني استعماري. بعد دخوله في مشكلة في كلية فكتوريا، وهي مدرسة بريطانية نخبوية، أرسل سعيد إلى ماونت هيرمون، وهي مدرسة داخلية في ماساشوستس، حيث درس فلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو وكيركيغارد. حين وصل إلى جامعة برنستون، احتار فيما إذا كان سيدرس الموسيقى (كان عازف بيانو موهوباً) أو الطب، لكنه اختار مساراً للمتميزين يسمى «الإنسانيات الخاصة». مكنه البرنامج من الجمع بين دراسة الأدب والموسيقى واللغة الفرنسية والفلسفة، وأن يكون تحت إشراف الناقد الشهير ر. ب. بلاكمر. في هارفرد، حيث أكمل رسالة للدكتوراه حول جوزيف كونراد، تحت إشراف هاري ليفن الرائد في الأدب المقارن، سيشير سعيد إلى نفسه لاحقاً بـ«المقارني»، وكان مبهوراً بالمؤرخ العربي الوسطوي ابن خلدون، مثلما كان مبهوراً بالفيلسوف التنويري الإيطالي غيامباتيستا فيكو. الفصول الأولى من كتاب برينان التي تستكشف عدة وجوه من حياة سعيد، منها زيجاته الاثنتان، والضغوط العائلية، والصداقات والمشرفين، بصفتها مجتمعة تؤسس لشخصيته الموسوعية المثيرة، تلك الفصول هي بعض أفضل ما في كتاب «أماكن العقل».
بعد تخرجه، سارعت جامعة كولومبيا لتعيينه. وعلى الرغم من بعض المغازلة لمؤسسات أخرى، ظل هناك طوال حياته العملية. وحسب ملاحظة بيرمان: «إذا كان مع تشومسكي وحنة أرنت وسوزان سونتاغ، هو المثقف العام الأكثر شهرة في فترة ما بعد الحرب، فإنه الوحيد بينهم الذي اعتاش من تدريس الأدب. وكان سعيد مبتهجاً بهذه الحقيقة». ومع ذلك، فإن نظرة سعيد إلى الجامعات الأميركية بصفتها «مكاناً شبه طوباوي» للتأمل لم تعن اعتناقه لحياة العزلة. اللغز المستمر حول حياته العملية كانت في قدرته على البقاء في الوقت نفسه داخل وخارج قاعات السلطة، انسجاماً مع إشاراته إلى الحرب الأهلية اللبنانية في «الاستشراق» (1978) الذي موضع نقده الأدبي في سياق تاريخي وسياسي معاصر، رأى سعيد الأدب بصفته غير قابل للانفصال عن الزمان والمكان. ومع أنه نشأ أنغليكانياً، فقد كان مدافعاً عالي الصوت عن العالم الإسلامي ضد هجمات الغرب الوحشية وسوء التمثيلات التي دعمتها. وعلى الرغم من ذلك النشاط، فقد كان غاضباً تجاه أثره السياسي. «لقد عاش معذباً» كما يقول برينان «مع أنه لم يظهر ذلك إلا للقلة».
التقاه برينان ذات يوم في الجامعة، بعيد نشر كتاب «العالم.. النص.. الناقد» (1983)، فأصر سعيد على أن مهمة الباحث كانت «قبل أي شيء أن يكون لديه ما يقوله»، ولكن أيضاً أن من «غاية الأهمية ألا يقع في فخ الحنين الجمالي التائه للناقد بصفته فناناً». ندرك الآن أن سعيد، إلى جانب عمله الأكاديمي، غذى طموحات إبداعية. كان معجباً بالشاعر الإنجليزي جيرار مانلي هوبكنز، فكتب الشعر، كما حاول كتابة روايتين، إحداهما في أثناء دراسته العليا، في صيف عام 1962. والأخرى بعد ذلك بخمسة وعشرين عاماً. يقول برينان بعد دراسته لبعض الخطاطات الباقية إن النثر «متدفق واثق مكتمل تماماً».
اشتهر سعيد بأنه لم يحبذ المريدين والتلامذة، ومن الجيد أن لدى برينان الرغبة في قراءة سعيد في مواجهة سعيد نفسه. يرى في القلق الفكري لدى أستاذه السابق ميلاً للمضي إلى الأمام، بينما تحقق الأفكار التي ساعد على إشاعتها المكاسب.
في البداية، لعب سعيد دوراً حيوياً في إشاعة النظرية الفرنسية أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، إذ كتب حول تطور الفكر الأوروبي للقارئ الأميركي، وألف مقالات حول ميشيل فوكو تنم عن إعجاب وبعد نظر. ومع ذلك، فقد كان سعيد حين وصلت النظرية إلى قمتها في الجامعات الأميركية قد تخلى عن كل ذلك، رافضاً غموض فلاسفة مثل جاك دريدا، على أنه يتضمن تراجعاً عن عالم السياسة. حتى الحقل الذي يقال إن سعيد أنجبه، الدراسات ما بعد الكولونيالية، شعر هو إزاءه باللامبالاة.
وكذلك أيضاً كانت آراء سعيد السياسية عرضة للتغير. بصفته مقرباً من ياسر عرفات، دعم حل الدولتين، قبل أن يشيع بفترة طويلة. لكنه راجع موقفه بعد اتفاقيات أوسلو التي عدها خيانة شاملة لأي أمل بفلسطين مستقلة، ودعا بقية حياته إلى دولة واحدة مزدوجة الهوية. تغييره لموقفه علناً كان ببساطة جزءاً من تطور فكري في فهم العالم.
وعلى الرغم من امتلائه بهذا النوع من التفاصيل، فإن كتاب «أماكن العقل» سريع المرور على مسائل أخرى. مفاهيم أساسية لسعيد، مثل البنوة (filiation) والتبني (affiliation)، تلمع أمامنا على افتراض أنها مألوفة، لكن دون مبرر. يقترح برينان في الغالب زوايا موحية، لكنه ما يلبث أن يتخلى عنها فجأة، كما في تجاهله لمواجهة سعيد الفكرية للنسوية. قد يعود جزء من المشكلة إلى كثرة إنتاج سعيد، وقفزاته الانتقائية، وطاقته التي لا تهدأ. وعلى الرغم من معركة طويلة مع اللوكيميا (مات بسبب المرض عام 2003)، فقد استمر في التدريس في كولومبيا، ينشر الكتاب تلو الآخر، ويؤسس مع دانييل بارنباوم أوركسترا الديوان الشرقي - الغربي، في مسعى انتقده بعض أفراد عائلته للجمع بين الشبان العرب والإسرائيليين كل عام في إسبانيا.
في عصر المختصين المهنيين والخبراء الذين يعلنون عن أنفسهم، كان سعيد يثني بلا هوادة على الهاوي، الإنسانوي الذي يسعى لا إلى منح الجمهور شعوراً بالراحة، وإنما إلى أن يكون غير ممتثل، محرجاً، بل لئيماً إذا اقتضت الحاجة. دافع عن أهمية الإنسانيات بنقاش مباشر للقضايا الأخلاقية والسياسية في عصرنا، وعلمنا أن نهتم بما حُذف من السرديات، بالتوتر الحاصل «بين ما يُمثّل وما لا يُمثّل، بين ما يقال وما يُسكت عنه».
يسعى «أماكن العقل»، دون نجاح تام، إلى الإمساك بقائمة الأسماء والعناوين التي وجهت سعيد نحو هذه الإضاءات. في فصل بعنوان «ما وراء السماء الأخيرة»، أضاف مور صورة لسيدة فلسطينية مسنة بشبكة شعر تبتسم ويدها على خدها، وأعلى الصورة عبارة «عمان، 1984». يقول سعيد في ملاحظة أرفقت بالصورة إنه تفاجأ حين ذكرته أخته أنه يعرف المرأة الجالسة شخصياً، إنها السيدة فراج. كانت ملاحظته الحزينة هي: «لا أدري ما إذا كان بمقدور الصورة أن تقول، أو أنها فعلاً تقول، الأشياء كما هي حقيقة. لقد ضاع شيء، وكل ما تبقى لدينا هو التمثيل».
* مراجعة لكتاب تيموثي برينان



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.