إدوارد سعيد... اهتمامات انتقائية متناقضة لا تهدأ

«أماكن العقل» سيرة جديدة عن صاحب «الاستشراق» كتبها تلميذه السابق

«أماكن للعقل: سيرة لإدوارد سعيد»
«أماكن للعقل: سيرة لإدوارد سعيد»
TT

إدوارد سعيد... اهتمامات انتقائية متناقضة لا تهدأ

«أماكن للعقل: سيرة لإدوارد سعيد»
«أماكن للعقل: سيرة لإدوارد سعيد»

نشر إدوارد سعيد عام 1986 كتاب «ما وراء السماء الأخيرة» الذي تعاون فيه مع المصور السويسري جان مور. وقد مزج الكتاب صوراً لحياة الفلسطينيين اليومية الموزعة بين الضفة الغربية وغزة والأردن ولبنان، مع تعليقات بقلم سعيد. في ذلك الوقت، لم يكن قد عاد إلى مسقط رأسه الذي كان فلسطين في عهد الانتداب، منذ هرب منها في ديسمبر (كانون الأول) 1947 وعمره 12 عاماً. روايته لصور مور كانت نوعاً من العودة البديلة. كتب سعيد وهو ينظر إلى المشروع بعد 13 عاماً: «إنه كتاب غير متصالح، كتاب تظل فيه متناقضات ومتضادات حياتنا وتجاربنا كما هي، مجمَّعة (كما آمل) ليس في كليات مرتبة، ولا في ذكريات عاطفية للماضي».
عبارة «كتاب غير متصالح» مناسبة ليس فحسب لوصف كتاب «أماكن العقل: سيرة لإدوارد سعيد»، السيرة الجديدة التي ألفها تلميذه سابقاً تيموثي برينان، وإنما أيضاً -أو على الأقل جزئية «غير متصالح»- صورة المفكر المعارض التي تبرز منه: فلسطيني وأميركي، قاهري ونيويوركي، متباهٍ وغير مطمئن، داعم أنيق اللباس للتمردات المقاومة للاستعمار ومناصر علني للحق الفلسطيني في تقرير المصير لم يسبق له أن درَّس مادة عن الشرق الأوسط.
يعتمد برينان على حشد باهر من المواد لكي يدوّن أول صورة شاملة لأحد أكثر مفكري أميركا تميزاً في فترة ما بعد الحرب: مقابلات مع أسرة سعيد وأصدقائه وزملائه؛ مراسلات؛ مقالات؛ شعر وسرد لم يُنشر، بالإضافة إلى ملفات مكتب التحريات الفيدرالي (إف بي آي) حوله. ومع ذلك، ففي تسجيل المساحة الضخمة من تأثير سعيد يجنح الكتاب أحياناً إلى ألا يتجاوز الإنش الواحد في العمق. كثير من الأفكار التي يقدمها برينان -مثل لماذا نعتمد على الشعر، وليس على السرد، ليكون مفتاحاً لتكوين سعيد الفكري- يجري التخلي عنها لاحقاً، مثل لفة فيلم لم تُحمّض.
ولد سعيد في القدس عام 1935، ونشأ في القاهرة، ثم تمكن -وإن جزئياً- من متابعة تعليمه في جامعة أميركية مرموقة نتيجة كونه استحق بالوراثة جواز سفر أميركي.
كان أبوه قد هاجر لوقت قصير إلى الولايات المتحدة، وصار مواطناً أميركياً، في أثناء الحرب العالمية الأولى، ولكنه عاد إلى الشرق الأوسط ليدير تجارة ناجحة ببيع الورقيات لمكتب بريطاني استعماري. بعد دخوله في مشكلة في كلية فكتوريا، وهي مدرسة بريطانية نخبوية، أرسل سعيد إلى ماونت هيرمون، وهي مدرسة داخلية في ماساشوستس، حيث درس فلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو وكيركيغارد. حين وصل إلى جامعة برنستون، احتار فيما إذا كان سيدرس الموسيقى (كان عازف بيانو موهوباً) أو الطب، لكنه اختار مساراً للمتميزين يسمى «الإنسانيات الخاصة». مكنه البرنامج من الجمع بين دراسة الأدب والموسيقى واللغة الفرنسية والفلسفة، وأن يكون تحت إشراف الناقد الشهير ر. ب. بلاكمر. في هارفرد، حيث أكمل رسالة للدكتوراه حول جوزيف كونراد، تحت إشراف هاري ليفن الرائد في الأدب المقارن، سيشير سعيد إلى نفسه لاحقاً بـ«المقارني»، وكان مبهوراً بالمؤرخ العربي الوسطوي ابن خلدون، مثلما كان مبهوراً بالفيلسوف التنويري الإيطالي غيامباتيستا فيكو. الفصول الأولى من كتاب برينان التي تستكشف عدة وجوه من حياة سعيد، منها زيجاته الاثنتان، والضغوط العائلية، والصداقات والمشرفين، بصفتها مجتمعة تؤسس لشخصيته الموسوعية المثيرة، تلك الفصول هي بعض أفضل ما في كتاب «أماكن العقل».
بعد تخرجه، سارعت جامعة كولومبيا لتعيينه. وعلى الرغم من بعض المغازلة لمؤسسات أخرى، ظل هناك طوال حياته العملية. وحسب ملاحظة بيرمان: «إذا كان مع تشومسكي وحنة أرنت وسوزان سونتاغ، هو المثقف العام الأكثر شهرة في فترة ما بعد الحرب، فإنه الوحيد بينهم الذي اعتاش من تدريس الأدب. وكان سعيد مبتهجاً بهذه الحقيقة». ومع ذلك، فإن نظرة سعيد إلى الجامعات الأميركية بصفتها «مكاناً شبه طوباوي» للتأمل لم تعن اعتناقه لحياة العزلة. اللغز المستمر حول حياته العملية كانت في قدرته على البقاء في الوقت نفسه داخل وخارج قاعات السلطة، انسجاماً مع إشاراته إلى الحرب الأهلية اللبنانية في «الاستشراق» (1978) الذي موضع نقده الأدبي في سياق تاريخي وسياسي معاصر، رأى سعيد الأدب بصفته غير قابل للانفصال عن الزمان والمكان. ومع أنه نشأ أنغليكانياً، فقد كان مدافعاً عالي الصوت عن العالم الإسلامي ضد هجمات الغرب الوحشية وسوء التمثيلات التي دعمتها. وعلى الرغم من ذلك النشاط، فقد كان غاضباً تجاه أثره السياسي. «لقد عاش معذباً» كما يقول برينان «مع أنه لم يظهر ذلك إلا للقلة».
التقاه برينان ذات يوم في الجامعة، بعيد نشر كتاب «العالم.. النص.. الناقد» (1983)، فأصر سعيد على أن مهمة الباحث كانت «قبل أي شيء أن يكون لديه ما يقوله»، ولكن أيضاً أن من «غاية الأهمية ألا يقع في فخ الحنين الجمالي التائه للناقد بصفته فناناً». ندرك الآن أن سعيد، إلى جانب عمله الأكاديمي، غذى طموحات إبداعية. كان معجباً بالشاعر الإنجليزي جيرار مانلي هوبكنز، فكتب الشعر، كما حاول كتابة روايتين، إحداهما في أثناء دراسته العليا، في صيف عام 1962. والأخرى بعد ذلك بخمسة وعشرين عاماً. يقول برينان بعد دراسته لبعض الخطاطات الباقية إن النثر «متدفق واثق مكتمل تماماً».
اشتهر سعيد بأنه لم يحبذ المريدين والتلامذة، ومن الجيد أن لدى برينان الرغبة في قراءة سعيد في مواجهة سعيد نفسه. يرى في القلق الفكري لدى أستاذه السابق ميلاً للمضي إلى الأمام، بينما تحقق الأفكار التي ساعد على إشاعتها المكاسب.
في البداية، لعب سعيد دوراً حيوياً في إشاعة النظرية الفرنسية أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، إذ كتب حول تطور الفكر الأوروبي للقارئ الأميركي، وألف مقالات حول ميشيل فوكو تنم عن إعجاب وبعد نظر. ومع ذلك، فقد كان سعيد حين وصلت النظرية إلى قمتها في الجامعات الأميركية قد تخلى عن كل ذلك، رافضاً غموض فلاسفة مثل جاك دريدا، على أنه يتضمن تراجعاً عن عالم السياسة. حتى الحقل الذي يقال إن سعيد أنجبه، الدراسات ما بعد الكولونيالية، شعر هو إزاءه باللامبالاة.
وكذلك أيضاً كانت آراء سعيد السياسية عرضة للتغير. بصفته مقرباً من ياسر عرفات، دعم حل الدولتين، قبل أن يشيع بفترة طويلة. لكنه راجع موقفه بعد اتفاقيات أوسلو التي عدها خيانة شاملة لأي أمل بفلسطين مستقلة، ودعا بقية حياته إلى دولة واحدة مزدوجة الهوية. تغييره لموقفه علناً كان ببساطة جزءاً من تطور فكري في فهم العالم.
وعلى الرغم من امتلائه بهذا النوع من التفاصيل، فإن كتاب «أماكن العقل» سريع المرور على مسائل أخرى. مفاهيم أساسية لسعيد، مثل البنوة (filiation) والتبني (affiliation)، تلمع أمامنا على افتراض أنها مألوفة، لكن دون مبرر. يقترح برينان في الغالب زوايا موحية، لكنه ما يلبث أن يتخلى عنها فجأة، كما في تجاهله لمواجهة سعيد الفكرية للنسوية. قد يعود جزء من المشكلة إلى كثرة إنتاج سعيد، وقفزاته الانتقائية، وطاقته التي لا تهدأ. وعلى الرغم من معركة طويلة مع اللوكيميا (مات بسبب المرض عام 2003)، فقد استمر في التدريس في كولومبيا، ينشر الكتاب تلو الآخر، ويؤسس مع دانييل بارنباوم أوركسترا الديوان الشرقي - الغربي، في مسعى انتقده بعض أفراد عائلته للجمع بين الشبان العرب والإسرائيليين كل عام في إسبانيا.
في عصر المختصين المهنيين والخبراء الذين يعلنون عن أنفسهم، كان سعيد يثني بلا هوادة على الهاوي، الإنسانوي الذي يسعى لا إلى منح الجمهور شعوراً بالراحة، وإنما إلى أن يكون غير ممتثل، محرجاً، بل لئيماً إذا اقتضت الحاجة. دافع عن أهمية الإنسانيات بنقاش مباشر للقضايا الأخلاقية والسياسية في عصرنا، وعلمنا أن نهتم بما حُذف من السرديات، بالتوتر الحاصل «بين ما يُمثّل وما لا يُمثّل، بين ما يقال وما يُسكت عنه».
يسعى «أماكن العقل»، دون نجاح تام، إلى الإمساك بقائمة الأسماء والعناوين التي وجهت سعيد نحو هذه الإضاءات. في فصل بعنوان «ما وراء السماء الأخيرة»، أضاف مور صورة لسيدة فلسطينية مسنة بشبكة شعر تبتسم ويدها على خدها، وأعلى الصورة عبارة «عمان، 1984». يقول سعيد في ملاحظة أرفقت بالصورة إنه تفاجأ حين ذكرته أخته أنه يعرف المرأة الجالسة شخصياً، إنها السيدة فراج. كانت ملاحظته الحزينة هي: «لا أدري ما إذا كان بمقدور الصورة أن تقول، أو أنها فعلاً تقول، الأشياء كما هي حقيقة. لقد ضاع شيء، وكل ما تبقى لدينا هو التمثيل».
* مراجعة لكتاب تيموثي برينان



رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.