ثمة ملفات تحرص السلطات في أي دولة من الدول أن تبقيها بعيدة عن الأنظار، خصوصاً تلك التي تنقض السردية الوطنية. وفي التاريخ القريب والمعاصر الكثير من الأمثلة التي تؤكد هذه النزعة. ولا تشذ فرنسا عن هذه القاعدة. فما قامت به البلاد في حقبات الاستعمار الطويلة لا أحد يريد التوقف عنده وأكبر دليل على ذلك استعمار فرنسا للجزائر وما ارتكبته القوات الفرنسية والمجموعات المساندة لها من مجازر خلال حرب الاستقلال. وما زال الملف متفجراً. فباريس لا تريد طلب الغفران من الجزائر التي تصر عليه كما تصر على معرفة تفاصيل التجارب النووية التي قامت بها فرنسا حتى بعد استقلال الجزائر. وثمة ملف آخر أقرب إلينا زمنياً «يزعج» السلطات الفرنسية وهو أداء القوات الفرنسية أثناء المجزرة التي شهدتها رواندا في ربيع عام 1994 التي دامت مائة يوم وقضت على 800 ألف ضحية، وفق تقارير الأمم المتحدة، أكثريتهم الساحقة من قبائل «التوتسي» فيما الجلادون كانوا من قبائل «الهوتو» الذين كانوا يمسكون بتلابيب السلطة في البلاد المدنية منها والعسكرية. لا يمكن فهم مغزى الزيارة التي سيقوم بها الرئيس إيمانويل ماكرون إلى رواندا يوم 26 الجاري من غير فهم الخلفية التاريخية والحضور الفرنسي في هذا البلد الذي لم يكن يوماً مستعمرة فرنسية بل بلجيكية. وللحقيقة، يتعين القول إن ماكرون يريد أن يصفي إشكالية الإرث الذي وصل إليه من أسلافه في قصر الإليزيه وهو لا يخاف من ذلك. وزيارته إلى كيغالي، عاصمة رواندا، تأتي بعد استقباله الرئيس بول كاغاميه في الإليزيه يوم الثلاثاء الماضي بمناسبة القمة الأفريقية التي استضافتها فرنسا. بداية، ثمة شكوك قوية حول سياسة فرنسا إزاء رواندا والدور الذي لعبته قواتها في إطار ما يسمى «عملية توركواز». وليس سراً أن علاقات قوية كانت تربط باريس بكيغالي زمن الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران الذي بقي في الإليزيه 14 عاماً «1981 - 1995». فبين الطرفين اتفاقيات تعاون عسكرية واقتصادية وثقافية. وفي الميدان العسكري، كانت باريس المصدر الأول للأسلحة للقوات الرواندية وكان ضباطها وخبراؤها وعملاؤها جزءاً من الهرمية العسكرية بحيث إنه لا يصح الجدل لجهة معرفة باريس بما كانت تحوله السلطات الرواندية بالنسبة لجماعة «التوتسي» الذين أعلنوا الحرب، بقيادة بول كاغاميه، على نظام الرئيس جوفينال هابياريمانا. وكانت نقطة البداية للمجازر واسعة النطاق إسقاط كطائرة الرئيس لدى عودته من زيارة للخارج بواسطة صاروخ اتهمت السلطات جماعة «التوتسي» بالمسؤولية عنها. وجاء في تقرير أعده مركز «ليفي فايرستون ميوز» الأميركي، بناء على تكليف من كيغالي، أن فرنسا لعبت دوراً مهماً في المجازر. اعتبر التقرير، وفق حرفية إحدى أهم فقراته أن «خلاصتنا أن الدولة الفرنسية تتحمل مسؤولية كبيرة لأنها أتاحت حصول مجزرة كان منتظراً وقوعها».
ويضيف معدو التقرير أن المسؤولين الفرنسيين استمروا في تقديم الدعم لنظام هابياريمانا رغم وضوح نياته في القضاء على «التوتسي». كذلك فإنهم يبدون تعجبهم من امتناع السلطات الفرنسية عن الاعتراف بدورها أو تقديم الاعتذار من الشعب الرواندي. وتتناغم هذه الخلاصات مع تقرير طلب ماكرون إعداده من المؤرخ الفرنسي فانسان دوكليرت الذي رفعه إليه نهاية مارس (آذار) الماضي وفيه يؤكد أن فرنسا «تتحمل مسؤوليات ثقيلة وكاسحة» في مأساة المجزرة خصوصاً لأنها «غضت النظر عن التحضير للمجزرة». لكن معد التقرير يشير إلى أن باريس كانت «شريكة» في المجزرة رغم أن مصادر عديدة تؤكد أنها استمرت في تقديم السلاح للقوات الرواندية المسؤولة مع الميليشيات القريبة من النظام ورئيسه وزوجته بعد انطلاق عمليات الإبادة. هذان التقريران لقيا استحسان الرئيس الرواندي الحالي. وفي معرض تقديمها لزيارة ماكرون إلى كيغالي، قالت مصادر الرئاسة إنه يريد «فتح صفحة جديدة» من العلاقات بين فرنسا ورواندا. وسبق للرئيس الرواندي أن أعلن خلال إقامته في باريس بداية الأسبوع الماضي أن البلدين يملكان حالياً «قاعدة صلبة» لإعادة إطلاق علاقاتهما وأنهما «راغبان في السير إلى الأمام معاً».
وتجدر الإشارة إلى أن العلاقات الدبلوماسية بينهما قد قطعت ما بين عام 2006 و2009. ومنذ مجيء ماكرون إلى السلطة في عام 2017، بدأت مسيرة التقارب بينهما. وقالت المصادر الرئاسية إن ماكرون الذي سينتقل من رواندا إلى جنوب أفريقيا سيركز على المسائل السياسية والاقتصادية والصحية «كوفيد 19» والرقمية والبيئية. إلا أنها امتنعت عن الإشارة إلى احتمال أن يقدم الرئيس الفرنسي اعتذاراً رسمياً باسم بلاد لأهالي الضحايا التي سقطت إبان المجزرة الواسعة. ولدى سؤال كاغاميه عما إذا كان يطالب بتقديم الاعتذار رد بأنه يتمنى ذلك من غير المطالبة به.
تمثل الكلمة التي سيلقيها ماكرون في النصب التذكاري «جيسوزي» محطة رئيسية. وقالت المصادر الرئاسية إنها «تتمنى العثور على الكلمات المناسبة» للحديث إلى ذوي الضحايا. وما يريده ماكرون هو «تصالح الذاكرتين» الفرنسية والرواندية من أجل الذهاب إلى الأمام.
تأتي زيارة ماكرون بعد 27 عاماً على مجازر عام 1994. وما تريده باريس «تطبيع» العلاقات مع كيغالي. من هنا، فإن باريس سوف تقترح تعيين سفير فرنسي في العاصمة الرواندية. ومن المقرر أن يدشن ماكرون «المركز الثقافي الفرنكوفوني» الذي سيكون دوره الترويج للثقافة الفرنسية إلى جانب الترويج الإنتاج الثقافي والفني الفرنكوفوني».
وتجدر الإشارة إلى أن المنظمة الفرنكوفونية العالمية ترأسها الرواندية لويز موشيكيوابو.
- باريس تعتبر تقرير الأمم المتحدة «متحيزاً» ضد قوة برخان في مالي
ندد رئيس أركان الجيوش الفرنسية الجنرال فرنسوا لوكوانتر السبت بما اعتبره «تحيزاً» بحق قوة برخان الفرنسية إثر تحقيق للأمم المتحدة بشأن غارة قتل فيها 19 مدنياً كانوا مجتمعين لحضور حفل زفاف في وسط مالي. وقال لوكوانتر في مقابلة مع صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية «بوضوح شديد، يتصل الأمر بهجوم على الجيش الفرنسي، على عملية برخان، على مشروعية التزاماتنا». واعتبر أن «الأخطاء» التي وردت في تقرير إدارة حقوق الإنسان التابعة لبعثة الأمم المتحدة في مالي وما تضمنه من «تحيز»، «تنبع في جزء منها من عملية تلاعب». وخلص التحقيق، كما نقلت الصحافة الفرنسية، إلى أن ضربة جوية قادها الجيش الفرنسي استهدفت مدنيين مجتمعين في حفل زفاف قرب بونتي بوسط البلاد، وليس فقط متشددين وفق تأكيد باريس التي تقول إنها لم ترتكب أي خطأ. وأضاف لوكوانتر: «أعتقد أننا سنواجه في شكل منهجي محاولات مماثلة سعياً إلى إعاقة عملنا وتشويه صورتنا ونزع المشروعية عما نقوم به وتحريض السكان ضد عملنا». ومنذ عمليات تمرد انفصالية في 2012 في شمال البلاد، تواجه مالي اضطرابات متعددة الشكل خلفت آلاف القتلى من مدنيين ومقاتلين ومئات آلاف النازحين رغم تدخل قوات أممية وأفريقية وفرنسية.
باريس وكيغالي تسعيان لقلب صفحة مجازر «التوتسي» قبل 27 عاماً
باريس وكيغالي تسعيان لقلب صفحة مجازر «التوتسي» قبل 27 عاماً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة