هيمنغواي عشق الجزيرة «الجميلة والطويلة والبائسة» وأهداها جائزة نوبل

هايدي عبد اللطيف قامت برحلة إلى كوبا لتتقصى آثاره فيها

هيمنغواي في أحد مقاهي هافانا
هيمنغواي في أحد مقاهي هافانا
TT

هيمنغواي عشق الجزيرة «الجميلة والطويلة والبائسة» وأهداها جائزة نوبل

هيمنغواي في أحد مقاهي هافانا
هيمنغواي في أحد مقاهي هافانا

يتناول كتاب «على خطى هيمنغواي في كوبا»، الصادر في القاهرة عن دار «آفاق» للكاتبة هايدي عبد اللطيف، واحدة من أكثر مراحل الروائي الأميركي خصوبة على المستويين الحياتي والإبداعي، وهي فترة إقامته في كوبا التي امتدت 20 عاماً.
تقصّت المؤلفة التي تجيد الإسبانية والإنجليزية أثر خطى هيمنغواي في المكان، ولمست روائحها في الفنادق والمقاهي والجزر والحانات، من خلال رحلة قامت بها لتعرف كيف أثرت «لؤلؤة الكاريبي» على مجمل تجربته الإنسانية.
الكتاب ينتمي لأدب الرحلة، وتستهله المؤلفة بشهادة لجابرييل غارثيا ماركيز الذي يرى أنه لم يترك كاتب أثراً في كوبا كما فعل هيمنغواي، إذ يقول؛ توغل هيمنغواي في روح كوبا أكثر مما قدر عليه الكوبيون في عصره، ولعل هذا ما يفسر شعور صاحب «العجوز والبحر» نفسه بأنه «نصف كوبي» في تصريحات تلفزيونية بعد حصوله على نوبل حينما قال بالإسبانية التي كان يجيدها؛ أنا سعيد للغاية بكوني أول «كوبانو ساتو» يفوز بهذه الجائزة.
صحيح أن نوبل منحت هيمنغواي شهرة عالمية، لكنه أصبح أيضاً مواطناً عالمياً بفضل أعماله التي اتخذت من بقاع كثيرة خارج موطنه الأصلي مسرحاً لها وترجمت قصصه ورواياته لعشرات اللغات وقرأها ملايين في أرجاء المعمورة كما شاهدوا الأفلام المقتبسة عنها. ولد في أميركا، وحمل جنسيتها، وامتلك فيها منزلين، لكنه استقر أطول وقت في بيته في كوبا حيث قضى فيه نحو 20 عاماً من حياته التي تخطت الـ60 بقليل، فأوراقه ومسودات رواياته ورسائله وأغراضه الخاصة استقر معظمها في بيته هناك.
يقول ماركيز: «غالباً ما يُسأل كثير من الكتاب الذين لديهم منازل عدة في أماكن مختلفة من العالم عن تلك التي يعتبرونها مكان إقامتهم الرئيسي وجميعهم تقريباً يجيبون؛ إنه المكان الذي توجد فيه كتبهم». وهيمنغواي ترك في تلك البلد كتبه التي يبلغ عددها 9 آلاف تقريباً، فضلاً عن رسائل وأعمال لم تنشر، و900 أسطوانة من موسيقاه المفضلة حتى الأثاث والتحف واللوحات الفنية.

ميدالية «نوبل»

غادر صاحب «ثلوج كلمنجارو» كوبا مضطراً في عام 1960 نتيجة لسوء العلاقات بين حكومة الثورة بقيادة فيدل كاسترو والولايات المتحدة، تاركاً كل شيء في موضعه كأنه سيعود في القريب، كما ترك أيضاً أثره في شوارع هافانا القديمة وحاناتها ومطاعمها، فضلاً عن موانئ الصيد على امتداد خليجها. لقد أغرم بالجزيرة الخلابة التي وصفها في كتابه «التلال الخضراء لأفريقيا» بـ«الجزيرة الجميلة والطويلة والبائسة»، معترفاً بعشقه لها في كل مناسبة: «أعيش في كوبا لأنني أحبها، هنا أجد الخصوصية التي تجعلني أكتب». كان يرغب في أن يبقى فيها حتى نهاية حياته ويدفن في حديقة بيته إلى جوار شجرة القابوق «السيبا» العملاقة التي تستقر عند مدخل المنزل.
وعندما نال جائزة نوبل للآداب 1954 أهدى الجائزة للكوبيين قائلاً: «هذه الجائزة تنتمي إلى كوبا لأن هذا العمل (العجوز والبحر) تشكل وخلق في كوبا وسط أهالي كوهيمر الذين أعدني واحداً منهم». ومنح الميدالية التذكارية للجائزة إلى هذا البلد لتحفظ في كنيسة السيدة العذراء في مدينة سانتياغو، موضحاً سبب اختياره: «أهديت ميدالية الجائزة إلى الصيادين في بلدة كوهيمر، ومع أن قصة رجل عجوز وسمكته تخص العالم أجمع، فإنها حكايتهم، وتجب مشاركة هذه الميدالية معهم، فالميدالية تعلق إلى جوار القلب، وأنا قلبي في كوبا».
ولا تزال ميدالية نوبل محفوظة في كنيسة «لابيرخن دي لاكاريداد» في أقصى جنوب الجزيرة إلى اليوم، وكانت كوبا قد منحته في العام ذاته قبل فوزه بنوبل أرفع أوسمتها المدنية، وهو وسام كارلوس مانويل الذي تسلمه يوم ميلاده الخامس والخمسين في 21 يوليو (تموز) 1954.

مكانة خاصة

وبعد نجاح الثورة الكوبية مطلع 1959 لم يخفِ هيمنغواي إعجابه بها، وعبّر عن ذلك في أكثر من تصريح صحافي: «نحن الرجال الشرفاء نؤمن بالثورة الكوبية». وحينما عاد إلى البلد في نهاية ذلك العام كان في استقباله عدد من الصحافيين وجمع من أهالي البلدة، فكرر الإعلان عن تقديره للثورة قائلاً: «يسعدني أن أعود إلى هنا مجدداً، فأنا أنتمي إلى كوبا، ولم أصدق كل التقارير التي نشرت في الصحافة الأجنبية ضد الثورة». وفي لفتة مفاجئة، احتضن هيمنغواي العلم الكوبي، ولثمه بشفتيه لتحييه الجماهير الواقفة بحرارة. وعندما طلب منه المصورون تكرار ما فعله ليقوموا بالتقاط الصور، أجابهم: «يا سادة، أنا كاتب، ولست ممثلاً، لقد قبلت العلم بإخلاص». ويوضح الكتاب أن مشاعره تجاه تلك البلاد وأهلها كانت صادقة، وارتباطه بها حقيقياً، ورغم أنه عاش في أماكن متعددة حيث نشأ في شيكاغو، ثم سافر إلى إيطاليا خلال الحرب العالمية الأولى، وعاد منها إلى شمال ميتشغان، ثم تورونتو في كندا، كما انتقل إلى باريس مطلع العشرينات، وخلال العقد التالي كتب عن الحرب الأهلية في إسبانيا، وسافر في رحلات صيد في أفريقيا، لكن أي منها لم تنافس المكانة التي احتلتها كوبا في قلبه وحياته وكتاباته. هنا صار كوبياً يرتدي «الجوابيرا» وهي قمصان كوبية بيضاء واسعة مصنوعة من الكتان والمعروفة بتصميمها الشهير ذي الجيوب الأربعة الأمامية. ومن تلك الجزيرة بلغت شهرته الآفاق بعد نيله أرفع وأشهر الجوائز الأدبية.

في شوارع هافانا

جاءت علاقته بالعاصمة هافانا بمثابة الحبيبة التي يهرب إليها من بيته في «كي ويست» حيث يبحر إليها بقارب صديقه «جو راسل» ويقيم في الغرفة 511 بفندق «موندوس» مطلاً على خليجها من بعيد. كانت رحلات هروبه بعيداً عن بيته وزوجته وولديه بغرض ممارسة الصيد في الخليج والكتابة، ويمكنك أن تتخيله يتجول في شوارع المدينة القديمة بقامته الفارعة وكتفيه العريضتين يتسكع فيها ويلتقي بفنانيها ومثقفيها. وخلال تلك السنوات استمتع هيمنغواي بالعاصمة الفاتنة لأقصى درجة، استكشف حاناتها ومقاهيها وتعرف على كثير من أهلها ونسائها وصادق بعضهن فقد صادفت تلك الفترة حالة من عدم استقرار علاقته بزوجته. ومنذ نهاية الثلاثينات صارت هافانا الحبيبة السكن والمستقر، فقد منحته كوبا الوحي والإبداع بعد سنوات عجاف مرت عليه خلال الأربعينات، لم ينشر أثناءها رواية ذات قيمة حتى ألهمته مياهها قصة «العجوز والبحر» التي تعد أشهر أعماله.

لقب «بابا»

تستقصي المؤلفة صور وآثار هيمنغواي وحكاياته في حانات هافانا ومطاعمها ومع أهل بلدة سان فرانسيسكو دي باولا حيث يقع بيته و«كوهيمر» القريبة منها، موضحة كيف توغل في المجتمع الكوبي وصار جزءاً منه، فالروائي الأميركي الشهير يحمل في الجزيرة لقب «بابا» أطلقه عليه جيرانه من الصبية الصغار عقب انتقاله إلى مزرعته في «فينكا بيهيا» فقد عاملهم بلطف وسمح لهم بالدخول إلى حديقة بيته ليقطفوا ثمار الفواكه المتوفرة فيها وكوّن منهم فريقاً للعبة البيسبول، كما ضمّ ابنه للفريق، وتولى بنفسه تدريبهم على امتلاك مهارات اللعبة التي كان من أكبر مشجعيها. وهي الرياضة الشعبية الأكثر انتشاراً في البلد.
وتروي أن الصغار استصعبوا اسم هيمنغواي، فنادوه بابا مثلما يناديه أبناؤه، وأصبح الاسم معتاداً بينهم، خصوصاً بعدما استعان بعدد منهم للعناية بقططه وكلابه أثناء غيابه أو في إحضار رسائله من مكتب البريد. شاع اللقب، حتى بين العاملين في البيت، وبعدها انتشر بين أهالي البلدة الصغيرة، وكانوا يجدون فيه تعبيراً عن مدى إحساسهم به، خصوصاً أنه اقترب منهم ودخل بيوت أغلبيتهم كواحد منهم، يشاركهم أفراحهم وأتراحهم ويقدم لهم مساعدات حرص أن تيسر لهم حياتهم، ومنها على سبيل المثال مساهمته في تمويل إنشاء خط لمياه الشرب.
في «كوهيمر» التي كان ينطلق من مينائها بقاربه «بيلار» في رحلات صيد، توثقت علاقته بعدد من صياديها وارتبط مع سكانها بعلاقات صداقة، وخصوصاً «جريجوريو فوينتس» قائد القارب وأحد ملهمي روايته «العجوز والبحر». وتلعب كوهيمر دوراً مركزياً في الرواية وتحظى بالوصف الدقيق حيث يصف ميناءها الشهير الذي انطلق منه الصياد سانتياغو، بينما يظهر في أحداثها مطعمه المفضل «لاتيراثا» وكان يطل منه على خليجها الصغير. ولأنه منح كوهيمر الخلود من خلال عمله الأدبي، فقد حرص أهل البلدة على تكريمه وتخليد ذكراه بعد وفاته بإقامة تمثال نصفي له، صنعوه من الحديد والمعادن الموجودة في قواربهم، ليظل هيمنغواي حياً بذكراه؛ حيث يقع التمثال متوسطاً ساحة القلعة موجهاً نظره إلى مدخل الميناء الذي طالما أبحر منه.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟