عُمْرانُ الكتابة من عُمْرانِ المدن

مدن مغاربية وخليجية كانت هامشية وأصبحت مركزية

عبده خال
عبده خال
TT

عُمْرانُ الكتابة من عُمْرانِ المدن

عبده خال
عبده خال

يبدو أن الكتابة تسحب البساط، شيئاً فشيئاً، فتنفصل عن الجغرافيا بمفهومها التقليدي الذي كانت عليه حتى مطلع القرن الواحد والعشرين
ما الوجود هذا، سوى صفيح ساخن، دوار، لا شيء عليه ثابت مستقر. كل شيء بين مد وجزر. لا شيء ميتاً تماماً. كل شيء في حركة وتجدد بسرعة وبطء نسبيين. الحياة والموت في تلاقح دائم مستمر. ولأن سلسلة الفنون والكتابة لا تفتأ ترافق البشر في تبدل أحوالهم عبر تاريخهم الطويل، فإنها تبدل هي الأخرى مواقعها ولا أحد يستطيع إلجامها.
أما ونحن نعيش هذا العصر الجديد عصر التكنولوجيا والرقمنة، حيث شيئاً فشيئاً يكتسح الذكاء الاصطناعي الوجود ويعوض ما هو بشري، حيث الحياة الافتراضية أضحت أكثر واقعية من الحياة الواقعية!
أما وقد أضحى العالم يُضمُّ ويُمتَلَك ويُخْتصر في جهاز تحكُّم لا يتعدى حجمه باطن الكف على حد تعبير الفيلسوف والمؤرخ ميشال سير، على حجم قبضة اليد، فإنني أتصور الكاتب قد أمسى أكبر من الجغرافيا ومن الزمن أيضاً.
بهذا المنطق فإن الكتابة ليست مقصورة على منطقة دون أخرى، وإذ أصبح العالم يَقرأ العالم، ويصل ما يُنشر في أركان الدنيا إلى أركانها الأربعة في الجهات الأخرى، الأمر الذي أضعف الرقابة في شكلها التقليدي، وجعل التكنولوجيا تخفف من الحس الشرطي في الكتابة وفي القراءة، وإن كانت لم تنته كلية، بل أصبحت تبحث لها عن شكل آخر لرقابة أخرى تتلبس عصرها التكنولوجي أيضاً.
يبدو أن الكتابة تسحب البساط، شيئاً فشيئاً، فتنفصل عن الجغرافيا بمفهومها التقليدي الذي كانت عليه حتى مطلع القرن الواحد والعشرين. فقد اختفى مفهوم المحور كما كان يفهم، على الأقل، في القرن العشرين، وأصبح العديد مما كان يسمى بمدن الأطراف أو الهوامش، مراكز تنعم بكثير من السحر والجاذبية والتأثير الثقافي والفكري والفني.
ثم، ألم تظل مدن مغاربية ومدن خليجية على الهامش خلال القرنين (19 والـ20)؟!ها قد استطاعت أن تتحول، فتتكرس كفضاء لقوى مبدعة في الرواية، أو في الفلسفة، أو في النقد، أو في الترجمة، كحالة إيجابية تخضع لمنطق تطور التاريخ البشري والإبداعي.
وإذا كان الكاتب الحقيقي كما يذهب إلى ذلك فريدريك دولافيي هو مؤرخ العواطف، وفي الوقت نفسه يقوم بتحليل معطيات الواقع، فإن أقلاماً كثيرة نبتت في حقل جديد وواقع جديد وبرؤية جديدة، وبتواتر وتراكم منظم، ففي دول الخليج مثلاً تميزت العديد من الأقلام كأصوات أضافت تنويعاً جديداً للكتابة أسماء أقرأ لها بكثير من المحبة في السعودية كالروائي عبد الرحمن منيف ورجاء الصانع وعبده خال وزينب حفني، وفي الكويت إسماعيل فهد إسماعيل وسعود السنعوسي وطالب الرفاعي وليلى العثمان... وفي عُمَان سيف الرحبي (ناثر وشاعر) والروائية جوخة الحارثي وغيرهم من الكتاب المتميزين الموزعين على مدن خليجية أخرى كالدوحة والمنامة، وأقلام أخرى جديدة مغاربية، في تونس حبيب السالمي وشكري المبخوت ومحمد عيسى المؤدب وكمال الرياحي...
ومن المغرب محمد شكري ومحمد زفزاف ومحمد الأشعري ومحمد برادة ومحمد بنيس وعبد الفتاح كيليطو وحسن النجمي وماحي بينبين... ومن الجزائر الطاهر وطار وأمين الزاوي وكمال داود وأحمد طيباوي وبشير مفتي وسعيد خطيبي وآمنة بلعلا... أسماء وأخرى ما انفكت تثير الدهشة والإعجاب وتتوسع مساحات مقروئيتها نتيجة جديتها واجتراحها النموذج الحداثي. تلك مدن مغاربية ومدن خليجية أصبحت مرجعيات إبداعية تثير فضيلة الإنصات الفكري والجمالي في العالم العربي وفيما وراء بحار هذا العالم.
ما يجب تسجيله هو أن في عصرنا هذا الذي يكنّى عصر المعارف الاصطناعية والتحول التقني والإعلامي والشكلي، فإن الذي استجد في الواقع وكحقيقة يدعمها إعلام مركّز وموجه، أن مدناً مثل الشارقة أو دبي أو أبوظبي أصبحت حواضر مركزية، ليس فقط بسبب ما تَحقَّق بها من حال جديد اقتصادياً وعمرانياً وسياحياً، ولكن أيضاً بسبب الانتعاش المسجل على المستوى الجامعي والبحث العلمي والأداء الأدبي. ثم إن فكرة إطلاق جوائز ذات القيمة المادية المعتبرة جذب انتباه الكتاب والمبدعين، المعروفين منهم والجدد للالتفاف حول الفضاء العمراني بما يحويه من ظلال أخرى.
يكاد الأمر يبلغ بالفكرة أن تتبناها كل مدينة وعلى طريقتها، فتخلق كل منها جائزة لها لتتحول إلى مؤسسة بتقاليد ثقافية وفكرية وسياسية أيضاً تقوم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالتعريف لها والترويج لروحها، إذ لا مدن من دون روح، وروح المدينة يصنعها الفنانون والكتاب والمبدعون بشكل عام. إنها الروح التي تشكل عمود التاريخ ولبه. وبالفعل فقد استطاعت المدن هذه خلال العشرية الأخيرة أن تفرض وجودها لتستقطب مثقفي وأدباء العالم العربي وشمال أفريقيا، على مستوى المنابر الإعلامية والمؤسسات الأدبية والمؤسسات الجامعية ومراكز البحوث، وإن تموضع هذه الإنتلجانسيا الإبداعية والفكرية شكّل رأسمالاً كبيراً على المستوى الرموزي، ساهم في صناعة ما يسمى بالأسطورة اليومية للمدينة، يضاف إلى ما تحقق مادياً وعمرانياً في هذه المنطقة، فالأدب والفن والفكر بما يحملانه من روح التنافس الإيجابي الخلاق، يضخ الحياة بحرارتها الإنسانية في برودة وجماد ناطحات السحاب والأبراج. من الحكمة التفكير بأن المال والتطور الاقتصادي والتقني والعمراني وحده لا يصنع مجتمعاً، وهو ما انتبه إليه أصحاب القرار في هذه البلدان، فعملوا على تخطيط يجمع ما بين البنية المادية والبنية الروحية الفنية الجمالية.
لكن الصفيح الساخن الدوار، سحب الجهة الأخرى نحو الظل، فخفتت أنوار كثير من المدن التي كانت تمثل المراكز الحضارية من قبل، على مدى قرن من الزمن تقريباً، ومن بين الأسباب في ذلك أن المسؤولين عليها لم يتمكنوا من إعطائها نفساً جديداً، وأن يخلصوها من الروتين وفخ التفاخر بالماضي، ورغم غناها بالموارد البشرية والثروات الطبيعية المختلفة فإن الفساد في الأنظمة السياسية والاقتصادية وطغيان ظاهرة المال المهدور دون تسيير عقلاني، جعلها تتراجع مكتفية بالحنين إلى أزمنة غابرة وأسماء صنعت مجدها في الماضي القريب أو البعيد. ليس من المستحيل مادياً على هذه المدن التي كانت أقطاباً حضارية أن تؤسس هي الأخرى عشرات الجوائز في الرواية والشعر والفن التشكيلي والسينما والصورة والموسيقى والمسرح والرقص، لو أنها تتفادى المزيد من العثرات القاتلة من سوء التسيير وتنتبه إلى طغيان إيقاع الحياة الذي تجاوزته ساعة التاريخ.
ولأن التاريخ يحلو له أحياناً أن يطل برأسه على الناس ساخراً ليذكرهم بأمر ما، فإنه يظهر هذه المرة وهو يريد أن يعيد إلى الأذهان فكرة أساسية للعلامة ابن خلدون، حين ذهب إلى أن شرط المدنية يتطلب نزع تسليح القبائل. يريد أن يدرك الناس مدى تغير مفهوم القوة في هذا العصر، وأن الأقوى ليس بالضرورة من يمتلك حظيرة أسلحة متطورة فتاكة، بل إن كفة ميزان القوة أضحت تميل جهة من يستقطب ويمتلك مشاتل حيوية من العقول المنتجة. والغلبة للأذكى.
ولأن الوجود منصة ستظل تدور وتدور، فلا شك أنها ستفاجئ البشرية بتغييرات مدوخة قادمة، وتأتي بأخبارها من لم تزود.
* شاعرة وروائية
وأستاذة جامعية - الجزائر



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!