الحكي بطريقة السرد غير الطبيعي

من الظواهر السلبية في الرواية العربية

الحكي بطريقة السرد غير الطبيعي
TT

الحكي بطريقة السرد غير الطبيعي

الحكي بطريقة السرد غير الطبيعي

من المؤسف أن الرواية اليوم لم تعد تُعنى بالشكل بقدر عنايتها بالمضمون الذي صارت تهتم به اهتماماً جعلها تتفنن في توظيفه؛ بدءاً من ولعها بالسياسة والفلسفة والصحافة، وانتهاء بالتداخل مع المعارف والثقافات، بشكل بيّن وبصور متغايرة. ووراء شح الفن ونضوب التجريب في الكتابة الروائية، العجلة في استثمار المقدرة، والافتقار إلى أصالة الوعي بأهمية الإخلاص للفن والتعبير به.
وما كان لروايات عربية مثل «ثرثرة فوق النيل» أو «اللص والكلاب» أو «موسم الهجرة إلى الشمال» أو «النخلة والجيران» أن تكون أمثولات سردية لولا عناية كتّابها بالأشكال التي بها عرضوا مضامينهم المميزة المنتقدة والمحرضة والمثورة والمصورة للواقع ومتغيراته. وهكذا لاقت كتاباتهم صدىً نقدياً وجماهيرياً أخذته وما زالت تأخذه على الصعيدين الفني والحياتي.
بيد أن جل الإنتاج الروائي اليوم هو كمي يُعنى بالثيمة الموضوعية ويفتقر إلى التجريب النوعي في شكل مشاريع سردية يراهن على نجاحها. وقد يقال إن تسارع الواقع وجسامة منغصاته وبشاعة تداعياته على اختلاف صورها وأبعادها هو ما يستدعي من الروائي العربي الاهتمام بالمضامين، أما المواكبة السردية لما هو تجريبي وجديد؛ فهذا ما يندر حصوله، بل إن الروائي العربي نفسه على عجلة من أمره، وهو محتدم الحال أيضاً كاحتدام واقعه.
وجزء من هذا الاحتدام عائد إلى الهوس بكتابة رواية مفصلَّة على وفق مقاسات تحددها دواعٍ خارجية، كالتعجل للحاق بفرصة نشر ما، أو الاشتراك في مسابقة ما، خصوصاً أن هناك جوائز من الدسامة بما يسيل لها اللعاب، وقد يسعى الروائي بكل ما أوتي من سرعة إلى الإيفاء بمتطلبات الترشح لها، ملبياً مستلزماتها؛ الأمر الذي يزيد من حدة الضغط والاحتدام ليكون هذا الروائي في وضع لا يحسد عليه وهو يبحث عن قالب تقليدي يضخ فيه منظوره الواقعي فوتوغرافياً أو مونودرامياً، ولا شأن له بأي تجريب غير محسوب النتائج، كما أنه لا سعي لديه للظفر بأي فرص تسنح له بالتأني والتأمل الفنيين.
وبهذا ترسم الرواية صورة تقليدية للواقع في احتدامه ومعتادية قواعده وأبنيته، فلا هي تبحث عما هو مدفون تحت هذا المعتاد من مخبوءات؛ ولا هي تخلخل الثوابت وتضعضع الأساسات.
ومع التسارع في الإنتاج الكمي للمضامين يكون المتحصل النوعي ضعيفاً، ليكون مآل الرواية العربية مستقبلاً مآلاً مأزوماً بالإشباع الموضوعاتي حد التخمة والإغراق. ومن تداعيات هذا الإغراق أن غدت الحكاية هي القالب المعتاد الأكثر استعمالاً في الكتابة السردية اليوم. وقد عدَّها جيرار جينيت ترسيمة أساسية في بناء الرواية، مميزاً الحكاية عن القصة والسرد؛ إذ إن الفعل السردي فيها عادة ما يكون حدثاً قولياً ضمن خطاطة اتصالية ذات طرفين: الأول بطل هو حكاء، والثاني مستمع متلق هو نديم. ومنطق الأفعال هو الذي يجعل الحدث مروياً كما هو شفهياً أو مكتوباً على نحو تكون فيه الشخصيات إما «مبئرة» وإما «مبأرة»، ويكون مجرى الأحداث منتظماً زمنياً كسلسلة تتعلق بأشياء ذات حياة أو بأفكار تبين على السطح (عودة إلى خطاب الحكاية، ص133).
ولا يضمن توظيف الحكاية إنتاج سرد متماسك إلا بوجود منظور تطوري وإدراكي يعزز التقاليد الشفوية والكتابية للحكاية. ولا فرق في ذلك إن كان السرد طبيعياً أم كان غير طبيعي. ومثَّل جينيت على هذا الأخير ــ وإن لم يسمه بهذا الاسم ــ ببقاء الأفراد أحياء بعد أن يكون الذئب قد التهمهم، أو بقاء يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام وخروجه بعد ذلك سالماً (عودة إلى خطاب الحكاية، ص173)، وهو ما تناوله بشكل واف براين ريتشاردسون في مقالته «نظرية السرد المضادة واللاطبيعية... وما بعد الحداثة» وتحدث عن بعض جوانبه ديفيد هيرمان في مقالته «علم السرد علماً إدراكياً (Narratology as a cognitive science)».
وإذا كان السرد الطبيعي يقوم على فرضية مطابقة ما هو حقيقي ضمن سياق اتصالي يماثل أوضاع الواقع الحياتية، فإن فرضية السرد غير الطبيعي تقوم على أساس عدم استنساخ العالم بشكله المباشر، وإنما التعبير عنه على نحو وهمي تحكمه مبادئ لا علاقة لها بالعالم الحقيقي من حولنا، لكن بالفهم الإدراكي تتعزز الصلة التوليفية بين السرد والعقل، فيكون في إعادة بناء الفهم العقلي شكل من أشكال التواصل مع هذا السرد. وهذا ما يجعل السرد غير الطبيعي أكثر تحدياً في توظيف الحكاية، لأن التواصل السردي يظل مرتهناً بالفهم الإدراكي لما هو غير معقول واقعياً.
ومن الروايات التي وقعت في مطب الفهم الإدراكي في توظيف الحكاية بطريقة السرد غير الطبيعي لما هو جسدي، رواية «عن لا شيء يحكي» لطه حامد الشبيب (منشورات اتحاد الأدباء والكتاب في العراق 2020)، ومرد الإخفاق في التوظيف يعود إلى:
أولاً: أن الروائي جعل بطله الأعمى (حمادي) حكاءً بضمير الأنا، ممارساً أفعالاً غير منطقية لا تتناسب مع حالته ضريراً، مردداً باستمرار: «أنا حمادي الأعمى»، وموظفاً حاسة البصر باستعمال الفعل «أرى»: «مخيلتي ترى لي - أراهم يندفعون - أرى الزرقة - أستطيع أن أراها لا تبتسم - هكذا أراها بين الأشكال المرسومة - فإذا بي أراه مع المجموعة - أرى حمزة في أكثر من مظاهرة... إلخ)، غير مهتم بتوظيف الحواس الأخرى.
ولو كان السارد موضوعياً لتمكن من تبرير أفعال البطل غير المعقولة تبريراً عقلياً يتيح للقارئ فهمها وإدراكها. وهو ما نجح في توظيفه إبراهيم أصلان في روايته «مالك الحزين» التي فيها توفر الفهم الإدراكي للسرد غير الطبيعي بوجود سارد موضوعي بضمير الغائب وبطل أعمى هو «الشيخ حسني» الصائد للعميان مثله، والذي كان ينجح في إيهامهم أنه مرشد لهم وأنه ليس أعمى، معتمداً على حاستي السمع واللمس.
ثانياً: أن الروائي جعل الحكاء مستمعاً نديماً، هو ليس مساعداً يحقق للحكاية كفاية نحوية؛ بل معيقاً يقطع الحكي ويوقف تدفقه من خلال تكرار ظهور هذا النديم مقاطعاً الحكاء. ولو كان السرد طبيعياً لأفادت الإعاقة البطل ولدفعت بحكايته إلى الأمام. ولهذا استثنى إمبرتوايكو المعوقين كالعميان والمجانين من السرد لعدم قدرتهم على الحكي لمستمع هو غير معاق. (ينظر: القارئ في الحكاية، ص61).
ثالثاً: أن لغة الحكاء الشفاهية بدت مصطنعة وغير قادرة على إيهام المستمعين بمنطقية التخريف عن أمر هو اللاشيء... (سأحكي لكم حكاية طويلة عن لا شيء وجوده مؤكد في نظر أعمى) ص11.
رابعاً: أن معتادية الموضوع الروائي المتمثل في التلون الآيديولوجي وعدم المبدئية في تبني المواقف الفكرية ممثلاً في شخصيتي «حمزة» و«حمدية»، تضادت مع الحكاء «حمادي» وهو يحاول أن يصعِّد وتيرة الحبك غير الطبيعي بأفعال غير منطقية، فتارة يحدد الألوان ويصف الوجوه، وتارة أخرى يرسم انطباعات، من قبيل قوله: «قلبي يدق ويدق، وأرتجف، وأشعر أن وجهي يصير أصغر - هل كان الناس يرون دموعاً تنزل على خدي - وجهاً بني اللون، ليس أسمر، لا بني اللون... قريباً من لون الصدأ... وجه مجدور كله صفحة وعقد ولحية منثورة نثراً»، وبهذا انتفى التعاضد النصي ولم يعد التواصل اللفظي يسند بعضه بعضاً.
خامساً: الكسل السردي الذي يجعل الروائي يرصف الأحداث رصفاً بلا استراتيجية تنفذ إلى تراكيب الحكاية (أريد أن أحكي لكم حكاية ما أدري شنو، حكاية عن لا شيء، الأعمى خير من يحكي عن لا شيء... شنو تحكي عن لا شيء؟ شنو سكرت، فتبسم، إن كنت لا ترى لا شيء وتحكي عنه؛ فأنت بذلك تتحدث وتحكي عن لا شيء) ص9 ـ 10.
سادساً: هذا الرصف يهدر متعة القراءة ويمنع القارئ النموذجي من الاستجابة الجمالية للنص؛ إذ لا قرائن نحوية تركيبية دلالية تداولية تتوفر فيه، من قبيل قول الحكاء: «أتكئ الآن بظهري على جذع شجرة السدر الحنفية الخارجة من الحائط مفتوحة. الماء يتدفق ولا أحد يحبسه». ص99. ولكن كيف رأى الأعمى هذا المشهد لو لم يكن قد سمع صوت الماء؟ وكيف يكون أعمى وهو يرى «الأشكال المرسومة أمامي على الأرض تتراكب ويتعقد تشابكها... لا يوجد منفذ خلالها. أرفع عيني عن نهاية عصاي. عيناي الآن لا تنظران إلى جزء من أجزاء العصا. إنهما تنظران إلى نقطة ما في عمق شارعنا الضيق الصغير. منذ شهور وسنين لم أنظر إلى تلك النقطة أو سواها في عمق شارعنا»؟ ص91.
وهناك أمران يدللان على أن الروائي كان مدركاً المطب الذي وقع فيه حكّاؤه؛ الأول: محاولته التذكير بين الفينة والأخرى وبشكل متواتر بأن ما يراه الحكاء مسند إلى المخيلة؛ فهي التي توحي له بما يراه بعينيه... «فجأة تُنبهني مخيلتي إلى أني تركت ورائي باب البيت مفتوحاً على مصراعيه» ص107. والأمر الثاني توكيده أن ما يراه الحكاء هو عبارة عن لا شيء... «إنك لا تستطيع أن تقول عن الشيء هذا هو الشيء الفلاني إلا إذا حددت صفاته بالضبط... لأني لا أراه؛ فهذا يعني أني أتحدث عن شيء وجوده غير مؤكد بالكامل) ص 10.
وقد حاول الكاتب في آخر سطر من الرواية تبرير منطقية حكايته عن الأعمى «حمادي» بالقول: «حمادي لا يرى؛ إنما قلبه الذي كان يرى في تلك اللحظات» ص317. ولكن كيف يبررها وما زال السرد فيها غير طبيعي وبلا فهم إدراكي معقول؟!
وعدم توفر القرائن هو ما يجعل كثيراً من الروائيين يعافون توظيف الحكاية بطريقة السرد غير الطبيعي، محاذرين الوقوع في مطب الفهم الإدراكي الذي أخفقت رواية «عن لا شيء يحكي» في تحقيقه؛ لتكون رواية غير متماسكة والسبب عدم معقولية قالبها الحكائي.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!