ردود الفعل التركية القاسية على اعتراف الرئيس الأميركي جو بايدن بالإبادة الأرمنية تعكس الحساسية الدائمة لذكرى المجازر التي حلّت ذكراها السادسة بعد المائة قبل أيام. وهي حساسية لا تتعلق بالماضي فحسب ولا بإمكان تعرّض أنقرة إلى اللوم والمحاسبة على ما ارتكبه نظام لم يعد قائماً، بل على مجمل الصورة التي تريد تركيا أن تقدم نفسها بها إلى العالم فيما تعمل على تحويلها إلى حقيقة واقعة في الداخل.
وعلى الرغم من تشديد بايدن على أن الاعتراف بالإبادة يرمي فقط إلى «منع تكرار ما حدث» داعياً إلى التطلع إلى المستقبل، فإن واشنطن تدرك بلا ريب أن مسألة الإبادة الأرمنية لم تُطوَ في الحياة السياسية التركية، وأن امتداداتها وآثارها تتجاوز أي ملاحقات قضائية أو تعويضات مادية للمتحدرين من ضحايا الإبادة لتصل إلى تهديد الأركان التي بنيت عليها تركيا الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى.
والحال أن المسألة الأرمنية التي انتهى جانبها العملي بتهجير ملايين الأرمن من أرضهم ودفع نحو 1.5 مليون منهم للموت في الصحراء السورية أو قتلاً بالرصاص والحِراب وتدمير مدنهم وقراهم، بل ثقافتهم وتراثهم في شرق الأناضول، لم ينته جانبها الإيديولوجي والسياسي ودورها التأسيسي في قيام الجمهورية التركية. وهذه هي النقطة التي يريد أتراك اليوم تجنب الخوض فيها والتي تفسر الغضب الشديد الذي أبداه الرئيس رجب طيب إردوغان والقوى المعارضة له، سواء بسواء، في التعليق على اعتراف بايدن.
فتركيا اليوم ما زالت أسيرة الرواية التاريخية لوقائع عام 1915 بحسب ما أعلنها مؤسس الجمهورية مصطفى كمال في خطابه «نُطُق» الذي ألقاه أمام المؤتمر الثاني لحزب الشعب الجمهوري بين 15 و20 أكتوبر (تشرين الأول) 1927 والذي قدم فيه وجهة نظره من حرب الاستقلال بين 1919 و1923. ولئن لم يشمل الخطاب بالتفصيل مرحلة ما قبل المجازر التي استهدفت الأرمن (والسريان وغيرهم من الأقليات في السلطنة العثمانية) إلا أنه وضع أسس تعامل الجمهورية مع «الأحداث المأساوية» التي بدأت في أبريل (نيسان) 1915. فقد أضفى أتاتورك على المجازر صفة العفوية نافياً عنها التخطيط المسبق، معتبراً أنها كانت سلسلة من الأفعال التي باشرها الأرمن واضطر الأتراك إلى الرد عليها، مشدداً على أن استغلال المجازر والتذكير بها يرميان إلى تشويه صورة تركيا وجعل أهلها من المتوحشين والقتلة في نظر العالم. وفي هذه الكلمات يكمن ملخص وجهة النظر التركية الرسمية السائدة إلى اليوم.
تاريخياً، ثمة أدلة قاطعة على عدم صحة ما ذهب إليه مصطفى كمال في «نُطُق». ذاك أن عشرات المؤرخين الأرمن ومعهم بعض الأتراك (وخصوصاً المؤرخ تانر أكشام في عمليه «أوامر بالقتل» و«جرائم تركيا الفتاة ضد الإنسانية») أثبتوا أن تخطيطاً محكماً سبق الإبادة تولاه الثلاثي الحاكم في إسطنبول حينذاك، أي طلعت باشا وجمال باشا وأنور باشا، وأن الأول بينهم (طلعت) هو من تولى الإشراف على اعتقال وإعدام النخبة الأرمنية في عاصمة السلطنة قبل إعطاء إشارة الانطلاق في أعمال القتل واسعة النطاق في المناطق الشرقية. بل إن الإبادة التي سبقتها مجازر عدة في عهد السلطان عبد الحميد قبل انقلاب «تركيا الفتاة»، كانت ضمن مخطط لإقصاء الأرمن وباقي الأقليات عن المواقع الأساسية في الاقتصاد والأعمال ونقل السيطرة الكاملة عليهما إلى الأتراك على ما يُفهم من مراسلات طلعت.
بيد أن ارتباط الإبادة الأرمنية بالراهن التركي برز في مكان آخر وفاجأ سلطات الجمهورية الكمالية. فزج مجموعات من الأفراد والقبائل الكردية في المذابح وفي طرد السكان الأرمن، من خلال «الفرق الحميدية» وغيرها، جاء على خلفية وعود قطعها الأتراك بمنح الأكراد المزيد من الحقوق بعد التخلص من الأرمن الذين صُوّروا كمستغلين للفقراء الأكراد وكسبب في بؤسهم. غني عن البيان أن الوعود تلك لم تبصر النور وأن السادة الجدد للجمهورية التركية الآتي أكثرهم من خلفيات ترجع إلى «تركيا الفتاة» رفضوا إعادة النظر في التمييز المحيط بالأكراد أو التعامل معهم على قدم المساواة كشركاء في الوطن الجديد؛ ما فتح الباب أمام سلسلة طويلة من الانتفاضات والثورات الكردية ما زالت تتوالى إلى اليوم.
بهذا المعنى، تنظر الحكومات التركية منذ اتاتورك إلى المسألة الأرمنية ليس بصفتها جريمة ارتكبها السلف العثماني ويتحمل وحده المسؤولية عنها، بل باعتبارها المدخل الحتمي إلى القضية الكردية التي لا تقل خطراً على الكيان التركي مما كان يشكله مشروع استقلال الأرمن.
وتتراجع هنا أهمية التفاصيل الميدانية والخرائط وامتداد الانتشار الكردي أو أصول هذا الشعب أو ذاك وروايته التاريخية للوقائع، بل اعتراف الولايات المتحدة وإنكار غيرها بالإبادة الأرمنية ما دام أن المطروح على طاولة البحث هو صيغة النظام القائم في تركيا المتمسك بالمركزية الشديدة وبعدم الاعتراف بتنوع النسيج الاجتماعي والثقافي في البلاد.
الإبادة الأرمنية... قضية تركية راهنة (تحليل)
الإبادة الأرمنية... قضية تركية راهنة (تحليل)
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة