«قاموس الشعرية» من عصر النهضة إلى الحداثة الأوروبية

ناقدان فرنسيان يربطانه بالجذور القديمة للتراث الشعري

«قاموس الشعرية» من عصر النهضة إلى الحداثة الأوروبية
TT

«قاموس الشعرية» من عصر النهضة إلى الحداثة الأوروبية

«قاموس الشعرية» من عصر النهضة إلى الحداثة الأوروبية

صدر حديثاً عن «دار الرافدين» العراقية «قاموس الشعرية... من القدماء إلى المحدثين» تأليف الروائية والناقدة الفرنسية شانتال لابري، المعلمة في مدرسة ليسيه فينيلون في باريس، والكاتب باتر يس سولير الذي كان مدرساً في مدرسة ليسيه لويس لو غراند، ثم صار مفتشاً عاماً للآداب في بلاده. وينقسم القاموس إلى جزئين: الأول يتضمن عشرين مقالاً حول الشعرية وجذورها القديمة لدى العديد من الفلاسفة والكتاب والشعراء اليونانيين والرومان، والتراث الشعري المسيحي، أما الثاني فهو عبارة عن أنطولوجيا خصصها سولير ولابري لتعريف الفنون والأنواع الإبداعية التي ورد ذكرها في القسم الأول.
قدم النسخة العربية من «قاموس الشعرية» الكاتب المصري لطفي السيد منصور، وهو بعنوانه هذا يكشف عن الفكرة الأساسية التي أراد مؤلفاه التأسيس لها، وهي علاقة الشعرية بالجذور القديمة والتراث الإبداعي الذي تركه أرسطو بكتابه عن الشعر، وهوراس بـ«فن الشعر»، فضلاً عن تأملات شيشرون وكينتيليان حول فن الخطابة، و«أطروحة السامي» لبزيدو - لونجن.

شعريات العصور القديمة
يقول المفكر الفرنسي باسكال كينيار، في مقدمته للقاموس، إنه مما لا شك فيه أن الاتصال بالعمل الإبداعي كان في العالمين اليوناني والروماني جزءاً من الأداء والعرض، وكانت القراءة العامة ممارسة اجتماعية واسعة الانتشار، ودائماً ما كان يعتقد القدماء أن الفن يتمتع بوظيفة علاجية أو تطهيرية.
ويفرد المؤلفان في القاموس مساحة كبيرة للأجناس والأشكال التي يعود مصدرها وحيويتها للعصور القديمة، وتظهر فيها ثوابت شعرية، كما يسعى كل منهما للتذكير بمدى تأثير الشعرية القديمة، التي تتسرب داخل النصوص الحديثة، ومنها السيرة الذاتية، التي وصفها القاموس بأنها حكاية استعادية، نثرية، يعيشها المؤلف بصيغة الشخص الأول الذي يروي وجوده الخاص، وهو وجود يُفهم على أنه الحياة المعيشة لفرد واحد بشكل واقعي، وهي حياة تبدو منطقية بفضل الطابع المؤقت الذي يميز المراحل والتغييرات في تكوين الشخصية.
وهذا الطابع المؤقت، حسب ما جاء في القاموس، ضروري، وهنا تصبح الحياة وجوداً، لكن لا يمكن فهمها على هذا النحو إلا إذا كانت في حالة بحث سردي. إنها عمل ذاكرة حية وحيوية تريد أن تقبض على الزمن في حركته ذاتها. وتُقَيم السيرة الذاتية، بصرف النظر عن محتواها، بإيقاعها، وفيضانها، «الذي ليس مرادفاً للبوح هنا، ولكنه يستحضر قوة الموج، وحقيقة شيء ما، يفيض ويمتد، ويتشكل فقط من خلال التدفق»، فتكشف السيرة الذاتية كل ثنايا الروح، وتَبسِطها، وتجعل القارئ الممثل الوحيد في توليفة محتملة، وهو وحده الذي يمكنه الحكم عليها، وهذا ما يلاحظه المفكر والناقد السويسري جان ستاروبنسكي، وهو يتحدث عن «اعترافات» جان جاك روسو.

القصيدة الرعوية
يركز القاموس أيضاً على عدد من القواعد والأعمدة القديمة التي استندت عليها الشعرية في تجلياتها الحداثية والمعاصرة، منها القصيدة الرعوية، التي تسربت الكثير من سماتها من الشاعر الروماني فيرجل الذي عاش ما بين «70 - 19 ق.م» إلى بول فاليري «1871 - 1945»، وريمون كوينو «1903 - 1976» وخوسيه ماريا دي هيرديا «1842 - 1905» وغيرهم، كما يفرد القاموس مساحة للحديث عن «الجوقة» وسماتها قديماً وحديثاً، و«المحاورة» باعتبارها جنساً أدبياً يجمع بين اثنين أو أكثر من المتحاورين، في عملٍ يحاكي الخطابات وليس الأفعال. وهناك مقالات حول «الرثاء» و«المديح» و«الملحمة» و«الحكاية الخرافية الرمزية» و«رسالة البطلة» وهي كما يراها مؤلفا القاموس «رسالة حب مكتوبة شعراً، مرسَلة من بطلة إلى بطلٍ هجرها، لزوج غير مخلص، أو عاشق لا يثبت على حال»، وقد كتب «أوفيد» مجموعة من نحو عشرين رسالة للبطلات، انتقلت إلى الأجيال اللاحقة تحت عنوان «رسائل البطلات»، نحو 20 قبل الميلاد، وهي قصائد تمر عبر سلسلة كاملة من عذابات الحب منذ ولادة العاطفة والنشوة، على حد تعبير رولان بارت.
وهكذا ومن خلال المقالات التي رتبها سولير ولابري حسب الأبجدية، وتركزت حول «قصيدة الأود» و«الملحمة» و«الهجاء» وغيرها من الأنواع الأدبية والشعرية بدا الهدف واضحاً، من أول وهلة، وهو ربط أجناس معينة، في ممارساتها الحديثة والمعاصرة، بشعريات العصور القديمة الإغريقية والرومانية، بحيث صار عصر النهضة، مثلاً، حديثاً بعودته إلى العصور القديمة، وجاءت الدراما الباروكية، التي أعاد ابتكارها «كلوديل» من تراث «إسخيلوس» وهو ما يشير إلى أن الموضوعات المهمة والأشكال الشعرية الكبيرة تتشكل عبر القرون.

الشعرية باعتبارها تراثاً
من هنا يمكن ببساطة ملاحظة ما أراد المؤلفان التركيز عليه، وهو أن فكرة الحداثة المعزولة عن التراث تظل غير مؤكدة، وقد لاحظ الروائي الفرنسي ميشيل بوتور بالفعل أن ثمة عودة إلى الأمس تحدُث في الأدب الفرنسي، وهي لا تعني بالطبع التخلي عن الحداثة، بل الرغبة في التموضع داخل تراث أطول، حيث تبدو أحياناً محاكاة ساخرة. وقد أعاد الكتاب والمبدعون والمفكرون في أوروبا وأميركا اكتشاف «الأسلوب القديم»، وهو ما بدا في موضوع التهليل النوستالجي والساخر لشخصية بيكيت، وكذلك عند كل من الشاعرين الفرنسيين مارك تشولودينكو في قصائده «أود» وإيمانويل هوكار، وهو يستعيد في قصائده شكل المرثية، فالشاعر حسب وجهة نظره حارس لا إرادي للحياة اليومية، يتذكر ما يريد أن يتذكره.
وأخيراً يمكن ملاحظة أن مؤلفي القاموس سعيا إلى توسيع الإمكانيات التي يتيحها مصطلح «الشعرية» إلى «شاعرية تدعو إلى دراسة العديد من الأشكال، وكذلك الأجناس».

وأدفنها في داخلي
أبتلع الطريق وأتركها تتقلّب فيَّ
أدوّر الساعات
وأتنقّل بينها (...)



العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي
TT

العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي

في يومها العالمي الذي يوافق 18 ديسمبر من كل عام، لا تبدو اللغة العربية في أفضل حالاتها، سواء من حيث الانتشار والتأثير أو الاهتمام داخل المؤسسات التعليمية. يكفي أن يُلقي أحدهم نظرة عابرة على لافتات المحال أو أسماء الأسواق التي تحاصر المواطن العربي أينما ولّى وجهه ليكتشف أن اللغات الأجنبية، لا سيما الإنجليزية، صار لها اليد الطولى. ويزداد المأزق حدةً حين تجد العائلات أصبحت تهتم بتعليم أبنائها اللغات الأجنبية وتهمل لغة الضاد التي تعاني بدورها من تراجع مروِّع في وسائل الإعلام ومنابر الكتابة ووسائط النشر والتعبير المختلفة.

في هذا التحقيق، يتحدث أكاديميون وأدباء حول واقع اللغة العربية في محاولة لتشخيص الأزمة بدقة بحثاً عن خريطة طريق لاستعادة رونقها وسط ما يواجهها من مخاطر.

سمير الفيل

عاميات مائعة

في البداية، يشير الناقد والأكاديمي البحريني د. حسن مدن إلى أنه من الجيد أن يكون للغة العربية يوم نحتفي بها فيه، فهي لغة عظيمة منحت بثرائها ومرونتها وطاقاتها الصوتية العالم شعراً عظيماً، كما منحته فلسفة وطباً ورياضيات وهندسة، واستوعبت في ثناياها أمماً وأقواماً عدة. ورأى مدن أن يوم اللغة العربية ليس مجرد يوم للاحتفاء بها، إنما هو، أيضاً، وربما أساساً، للتنبيه إلى المخاطر الكبيرة التي تواجهها، حيث تتهدد سلامة الكتابة والنطق بها مخاطر لا تُحصى، متسائلاً: ماذا بقي في أجهزة التلفزة الناطقة بالعربية من اللغة العربية السليمة، التي تُنتهَك قواعدها كل ساعة، وتحل محلها عاميات مائعة، حيث يتبارى المذيعات والمذيعون في التلذذ بمطِّ ألسنتهم وهم ينطقونها، فيما يختفي جيل أولئك المذيعين المفوهين ذوي التأسيس اللغوي السليم الذين كانت اللغة العربية تشنّف الأسماع من على ألسنتهم؟

د. حسن مدن

ويستدرك الأكاديمي البحريني موضحاً أنه ليس مطلوباً من الجميع أن يتحولوا إلى علماء أفذاذ على غرار سيبويه، فذلك مُحَال، خصوصاً أن الانشطار الذي أصاب اللغة العربية إلى فصحى ومجموعة لهجات عامية جعل من المستحيل أن تكون لغتنا العربية، بصرفها ونحوها لغة محادثة يومية، ولكن ثمة حدود دنيا من قواعد اللغة وطريقة كتابتها ونطقها يجب احترامها والحفاظ عليها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مخاطر تخريب اللغة.

ويلفت د. مدن إلى أنه فيما يتعلق بواقع اللغة في معاهد التعليم والدرس، نجد أنه من المؤسف أن معيار تفوق التلميذ أو الطالب الجامعي بات في إتقانه اللغة الإنجليزية لا العربية، وبات يفكر كل والدين حريصين على مستقبل أبنائهما في تعليمهم الإنجليزية، ومن النادر أن يتحدث أحدهم عن حاجة أبنائه إلى إتقان العربية. ويحذر د. مدن من مخاوف تواجه مستقبل لغة الضاد وإمكانية تعرضها لخطر يتهدد وجودها، لافتاً إلى أن هناك تقريراً أجنبياً يتحدث عن أن قرننا الحالي سيشهد ضمور وموت مائتي لغة من لغات شعوب العالم تحت سطوة العولمة الثقافية التي تتخذ من اللغة الإنجليزية «المؤمركة» وسيلة إيصال واتصال.

د. عيدي علي جمعة

حلول عملية

ويشير القاصّ والروائيّ المصريّ سمير الفيل إلى عدة حلول عملية للخروج من النفق المظلم الذي باتت تعيشه لغة الضاد، مشيراً إلى ضرورة الاهتمام بمعلمي اللغة العربية وأساتذتها في المدارس والجامعات، من حيث الرواتب وزيادة مساحات التدريب، بالإضافة إلى جعل اللغة العربية أساسية في كل المؤسسات التعليمية مهما كانت طبيعة المدرسة أو الجامعة. وهناك فكرة الحوافز التي كان معمولاً بها في حقبتَي السبعينات والثمانينات، فمن يدخل أقسام اللغة العربية من الحاصلين على 80 في المائة فأكثر، تُخصَّص لهم حوافز شهرية.

ويمضي «الفيل» في تقديم مزيد من المقترحات العملية مثل استحداث مسابقات دائمة في تقديم دراسات وبحوث مصغرة حول أعمال رموز الأدب العربي قديماً وحديثاً، فضلاً عن عدم السماح بوجود لافتات بلغة أجنبية، وتحسين شروط الالتحاق بكليات العربية المتخصصة مثل دار العلوم والكليات الموازية. ويضيف: «يمكنني القول إن اللغة العربية في وضع محرج غير أن الاهتمام بها يتضمن أيضاً تطوير المنهج الدراسي بتقديم كتابات كبار المبدعين والشعراء مثل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأبي القاسم الشابي، وغيرهم في المنهج الدراسي بحيث يكون مناسباً للعصر، فلا يلهث للركض في مضمار بعيد عن العصرية، أو الحداثة بمعناها الإيجابي».

تدخل رسمي

ويطالب د. عايدي علي جمعة، أستاذ الأدب والنقد، بسرعة تدخل الحكومات والمؤسسات الرسمية وجهات الاختصاص ذات الصلة لوضع قوانين صارمة تحفظ للغة العربية حضورها مثل محو أي اسم أجنبي يُطلق على أي منشأة أو محل داخل هذه الدولة أو تلك، مع دراسة إمكانية عودة « الكتاتيب» بصورة عصرية لتعليم الطفل العربي مبادئ وأساسيات لغته بشكل تربوي جذاب يناسب العصر.

ويشدد على أن اللغة العربية واحدة من أقدم اللغات الحية، تختزن في داخلها تصورات مليارات البشر وعلومهم وآدابهم ورؤيتهم للعالم، وأهميتها مضاعفة، لكثرة المتحدثين بها في الحاضر، وكثرة المتحدثين بها في الماضي، فضلاً عن كثرة تراثها المكتوب، لكن من المؤسف تنكُّر كثير من أبنائها لها، فنرى الإقبال الشديد على تعلم لغات مختلفة غير العربية، فالأسر حريصة جداً على تعليم الأبناء في مدارس أجنبية، لأنهم يرون أن هذه اللغات هي البوابة التي يدخل منها هؤلاء الأبناء إلى الحضارة المعاصرة.

الأديب السوري الكردي، المقيم في بلجيكا، هوشنك أوسي، إنتاجه الأساسي في الشعر والرواية والقصة القصيرة باللغة العربية، فكيف يرى واقع تلك اللغة في يومها العالمي؟ طرحنا عليه السؤال، فأجاب موضحاً أن الحديث عن تردّي واقع اللغة العربيّة مبالَغ فيه، صحيح أنّ العالم العربي والبلدان العربيّة هي مناطق غير منتجة صناعياً، ولا تقدّم للعالم اختراقات وخدمات علميّة تسهم في الترويج للغة العربيّة والتسويق لها، كحال بلدان اللغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة، والصينيّة، إلاّ أن اللغة العربيّة لم تكتفِ بالمحافظة على نفسها وحسب، بل طوّرت نفسها لتنسجم ومقتضيات العصر وإيقاعه المتسارع.

ويلفت أوسي إلى نقطة مهمّة مفادها أن النهوض الاقتصادي في الصين وكوريا الجنوبيّة واليابان، لم يجعل من لغات هذه البلدان رائجة في العالم، ومنافسة للغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة. وفي ظنه أن أعداد الأجانب الذين يودّون تعلّم اللغة العربيّة، لا يقلّ عن الذين يودّون تعلّم اللغات الصينيّة واليابانيّة والكوريّة.